السنوات الأربع المقبلة لولاية ترامب ستكون مفصلية بالنسبة للعلاقات الأمريكية–الأوروبية، ومستقبل الاتحاد الأوروبي عامة. وهذا ليس من باب التوقع؛ بل حقائق قائمة على واقع العلاقات الأمريكية – الأوروبية في ولاية ترامب الأولى، والتوجهات الرئيسية الراسخة لسياسة ترامب الخارجية. والأهم من هذا وذاك، المتغيرات والتحديات الكثيرة المحيطة بالولايات المتحدة وأوروبا الآن.
الاهتمام الأمريكي بأوروبا قد تقلص بصفة عامة منذ 2010 على خلفية الانشغال الأمريكي بآسيا والصين تحديداً، وهو ما يعيه الأوروبيون جيداً. وجاء ترامب في 2017 بتوجهه الخاص الانفرادي المناهض لمزيد من الانخراط مع الحلفاء، ليعمق فجوة التباعد بين أوروبا وواشنطن. وسعى بايدن في إطار حشد التحالفات إلى ترميم العلاقات مع الأوروبيين، ثم ما لبثت أن اشتعلت الحرب الأوكرانية لتأكيد الشراكة القوية بين تحالف الأطلسي، حيث قادت واشنطن الأوروبيين للتصدي لروسيا.
اقرأ أيضا.. فرنسا توشك على مواجهة أزمة غير مسبوقة
لكن رغم التضامن الغربي بقيادة واشنطن ضد روسيا؛ كان الأوروبيون يسيرون في اتجاه موازٍ يتمحور حول حتمية تعزيز القدرات العسكرية والدفاعية لأوروبا، والعمل جدياً على الاستقلالية الدفاعية لأوروبا، والتي تعنى ببساطة تعزيز قدرة أوروبا للدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية بمفردها أو تحديداً دون المساندة الأمريكية ومن خلفها حلف الناتو «في حالة الضرورة، أو إذا أجُبرت أوروبا على ذلك».
ويعزو ذلك إلى قناعة الأوروبيين الراسخة بصعوبة الاعتماد الكامل على واشنطن بصورة أبدية لحماية أوروبا. وواقع الأمر رغم جهود إدارة بايدن لمواجهة روسيا وعلى رأسها المساعدات المالية والعسكرية الضخمة لأوكرانيا. إلا أنها قد عززت في الوقت نفسه هذه القناعة؛ إذ يرى الأوروبيون أن إعلان بايدن منذ اليوم الأول لغزو أوكرانيا عن عدم التدخل العسكري المباشر في الحرب، إشارة في غاية السلبية تعكس التراجع الحاد لأوروبا في أجندة الأولوية الأمريكية. علاوة على ذلك، هناك كم من الإشارات التي فهمها الأوروبيون جيدا، من أهمها تعزيز الحضور الأمريكي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والاستعداد للتدخل العسكري المباشر إذا غزت الصين تايوان.
يساور أوروبا بالطبع، خاصة دولها الكبرى، قلق حاد من ترامب، ومنهمكة في التفكير حول كيفية التعامل معه. العلاقات الأمريكية –الأوروبية في ولاية ترامب الثانية، ستشهد تدهوراً غير مسبوق. حيث لا يحمل ترامب توجها تقليديا معادياً لأوروبا وقط، بل يحمل معه أيضا تحديات وأولويات مختلفة.
وعلى رأس هذه الأولويات إعادة تنشيط الاقتصاد الأمريكي المتداعي؛ والذي سيدفع ترامب حسب ما وعد إلى زيادة التعريفات الجمركية حتى على الحلفاء، وتقليص الدعم والمساعدات المالية والعسكرية للحلفاء بما في ذلك «حلف الناتو» الذي لا يزال جبهة الدفاع الرئيسية الحامية لأوروبا. ففي إطار خطة ترامب الكبيرة لإعادة توطين الصناعات الأمريكية؛ لن تطول الحرب التجارية الصين فقط، بل ستمتد إلى الجميع.
ومن أهم الأولويات أيضا هي مواجهة التحدي الصيني، وهو التحدي الوحيد الذي ذكره ترامب في خطابه بعد الانتصار الساحق. وهو ما يعني إهمال شبه تام لأوروبا، ولا سيما أن التحدي الصيني قد تضاعفت وطأته بأشواط.
فضلا عن ذلك، ستكون خطة ترامب لإنهاء الحرب الأوكرانية والتي يعد لها الآن خلف الستار، بالغ الأثر في العلاقات الأوروبية – الأمريكية، حيث ستصب في مصلحة روسيا بلا أدنى شك، مما يعني خللا حادا في توازن القوى بين أوروبا وروسيا.
من واقع ما سبق، سيعمق ترامب هوة التباعد بين أوروبا وواشنطن بدرجة كبيرة، مما سيترتب عليه:
– تصدع كبير في الاتحاد الأوروبي سيسرع من تفككه خلال عقدين بالكثير، لأن واشنطن كان الداعم الرئيسي لإنشائه واستمراره.
– انقسام أوروبي حاد حول التوجهات والقضايا الرئيسية خاصة العلاقات مع الصين وروسيا. إذ على سبيل المثال، ستتحول دفة علاقات بعض دول شرق أوروبا مثل المجر نحو تعزيز العلاقات مع موسكو. وربما تتجه فرنسا صوب الصين لتأمين مصالحها الاقتصادية.
– تصاعد مطرد للتيارات اليمينية المتطرفة
– تعثر في قضية تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، مقابل توجه كل دولة أوروبية لتعزيز قدراتها على حدة خاصة ألمانيا التي شرعت في ذلك بالفعل، وفرنسا الناوية على ذلك. وهذا سيترتب عليه أيضا تنامي الخلافات بين أوروبا وحلف الناتو.