أوروبا

أوروبا… إلى اليمين المتطرف در

باتت سردية اليمين الشعبوي الصاعد في أوروبا تمتلك جاذبية متزايدة، وتتفق مع الخطاب الذي يقدمه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في العداء الصارخ للمهاجرين، باعتبار أن هؤلاء يشكلون تهديداً للوظائف، والخدمات الاجتماعية، والقيم الثقافية

أصبح صعود الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا والغرب بشكل عام سمة مميزة للمشهد العام خلال العقد الأخير. وربما تكون أبرز علاماته الفارقة تصويت بريطانيا في يونيو (حزيران) 2016 لمصلحة مغادرة الاتحاد الأوروبي، في ثورة شعبوية، تلاها بعد بضعة أشهر انتصار دونالد ترمب في أميركا. فيما يقول بعض المراقبين الأوروبيين إن التخطيط لهذه الحقبة في كل أنحاء أوروبا بدأ في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي رفع شعار “إما أن تحب فرنسا أو تغادرها”، لتمتد هذه الموجة إلى هولندا وبلجيكا وألمانيا. وتواصلت انتصارات اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا، وصولاً إلى النتائج الكبيرة التي حققها أخيراً مرشحو أقصى اليمين في انتخابات الاتحاد الأوروبي.

سردية اليمين الشعبوي المتطرف الصاعد في أوروبا باتت تمتلك جاذبية متزايدة، وتتفق مع الخطاب الذي يقدمه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في العداء الصارخ للمهاجرين، باعتبار أن هؤلاء يشكلون تهديداً للوظائف، والخدمات الاجتماعية، والقيم الثقافية، إضافة إلى أن المهاجرين من وجهة نظرهم يشكلون عنصراً مقلقاً في تغيير التركيبة الديموغرافية. كما تنطلق سردية اليمين الشعبوي الاقتصادية من تأجيج الاستياء الشعبي لشرائح واسعة من السكان، ضد العولمة والأتمتة والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي أسهمت في تخلفهم عن الركب، مستغلين الاستياء الشعبي بوعود بحماية الصناعات المحلية وإيجاد وظائف واستعادة الاستقرار الاقتصادي.

كما أن الخطاب الشعبوي يقدم نفسه كحامٍ “للناس العاديين”، ويعدهم بإعادة السلطة إلى الشعب ضد “النخب” الذين يُنظر إليهم باعتبارهم المستفيد من النظام الاقتصادي الحالي، في ظل شيوع خيبة الأمل السياسية وانعدام الثقة بالأحزاب والمؤسسات التقليدية، في حين تهاجم السردية الشعبوية العولمة، وتدعو إلى سيادة وطنية أكبر وتنتقد المنظمات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي. ويجادل الشعبويون المتطرفون بأن الاتفاقيات والمؤسسات العالمية تقوض المصالح الوطنية وتضعف قدرة الدول على التحكم في مصائرها، ويرفعون أصواتهم عالياً ضد التغيرات الاجتماعية السريعة، والتحولات في الأدوار الجندرية، والمواقف تجاه الجنس التي تتهدد هيكل العائلة التقليدية، من حيث أن هذه المتغيرات تمثل تهديداً للقيم والتقاليد.

ولهذا يشكل صعود الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا والغرب ظاهرة معقدة تحركها عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتعكس أزمة أوسع في الثقة بالمؤسسات التقليدية ورغبة في التغيير الجذري. ومع استمرار هذه الحركات في اكتساب الزخم، فإنها تتحدى النظام السياسي القائم وتجبر الأحزاب التقليدية على مواجهة القضايا الأساسية التي تغذي هذا الصعود.

سردية التخويف من الفاشية

الكاتبة والمفكرة اليسارية الفرنسية البارزة إيميليا رويغ، كتبت أخيراً بعد ظهور نتائج الانتخابات الأوروبية، “اعترفوا بأن الفاشية قد وصلت، دعونا نتكلم عنها علانية، فإنكار ذلك لا يساعد، بل يجعل الأمر أكثر سوءاً”. وفي الحقيقة فإن الفكرة المحورية لما طرحته رويغ ليست بالجديدة، فهي ثابت في سردية اليسار التاريخية لرهاب الفاشية، بعد سجل جرائمها، لكن الأجيال الجديدة في طول وعرض القارة الأوروبية لا تتذكر الفاشية وأهوالها، وهي تعيش اليوم في واقع اقتصادي ومعيشي صعب في القارة التي كانت في الماضي القريب ورشة للإنتاج والإبداع البشري.

ويكفي الإشارة لتأكيد ذلك أنه في عام 2008 أي قبل ستة عشرة عاماً من الآن، كان اقتصاد منطقة اليورو على قدم المساواة مع الاقتصاد الأميركي، بينما اليوم يشكل الاقتصاد الأميركي ضعف نظيرة الأوروبي. وعلى المنوال ذاته، ركز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مناورته الجريئة عقب تحقيق اليمين المتطرف الفرنسي بزعامة مارين لوبن نتائج لافتة في الانتخابات الأوروبية، وحله للبرلمان الفرنسي ودعوته لانتخابات جديدة، على أن “نتائج الانتخابات الأوروبية وصعود القوميين يشكل خطراً على فرنسا وأوروبا”.

ويشعر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز بمرارة الهزيمة من نتائج الانتخابات الأوروبية، فيما تعزز الزعيمة اليمينية المتطرفة جيورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، مواقعها بالانتصار الكبير في البرلمان الأوروبي. وفي الوقت الذي يحكم فيه فيكتور أوربان اليميني المتطرف، دولة المجر، يسيطر على بولندا حزب “القانون والعدالة” ذي الاتجاهات المتطرفة. وفي هولندا حقق أخيراً حزب “الحرية” بقيادة خيرت فيلدرز اليميني الأشد تطرفاً ومعاداةً للهجرة والمسلمين على وجه الخصوص فوزاً كبيراً وهو يسعى لتشكيل الحكومة. كما حقق اليمين المتطرف نتائج مهمة في السويد، ويتطلع حزب “الحرية” اليميني للفوز في الانتخابات نهاية الخريف في النمسا.

في فرنسا يحاول ماكرون المراهنة على قدرة الشعب الفرنسي على اتخاذ القرار الأكثر عدلاً لنفسه وللأجيال القادمة وعدم تسليم فرنسا لليمين الفاشي، ويراهن على كثافة المشاركة في الانتخابات التشريعية لعكس الاتجاه نحو اليمين المتطرف، وهو يتوسل الشعب الفرنسي أن ينقذ القيم الأساسية للجمهورية، مؤكداً ثقته بالديمقراطية الفرنسية. في المقابل يدرك ماكرون أن الفرنسيين ضاقوا ذرعاً به وبأمثاله الذين أشبعوا الناس خطابات من أبراجهم العاجية، وسياساتهم الاقتصادية التي أشعلت احتجاجات حركة “السترات الصفراء”، ضد ارتفاع الضرائب على الوقود، وارتفاع تكاليف المعيشة، ليتحول ماكرون بنظرهم إلى رئيس للأغنياء، المنتمي للنخب المالية الفاسدة، ناهيك عن أسلوبه المتعالي الذي يوسع الفجوة بينه والطبقات العاملة والفقيرة.

وفي حال تمكن تحالف “الجبهة الوطنية” من تجاوز عائق الجولتين الانتخابيتين للنظام الانتخابي الفرنسي، فإن شكل الدولة الفرنسية سيكون مغايراً لما عهدناه في صفقة تعايش غريبة، في ظل إصرار الرئيس على الاستمرار في منصبه وتعيين رئيس وزراء من أقصى اليمين مثل الشاب جوردان بارديلا القادم من أحياء الطبقة العاملة.

وفي ألمانيا، مثلت نتائج “حزب البديل من أجل المانيا” في الانتخابات الأوروبية مؤشراً خطيراً، وهو الحزب الذي وصفته الاستخبارات الألمانية الداخلية بالحزب المتطرف، مع احتمالات تزايد شعبيته التي بدت واضحة في الولايات الشرقية، في انتخابات نهاية العام ما سيشكل تهديداً خطيراً لـ”الحزب الاشتراكي الديمقراطي” بزعامة المستشار شولتز. وحزب البديل يدعو علانية تحت لافتة “إعادة الهجرة” لإعادة النظر في أوضاع المهاجرين وطردهم من ألمانيا، ما يعيد تشكيل الأفكار الفاشية التي تتهدد الديمقراطية الألمانية.

توجه يستهدف أوروبا الموحدة

تقوم رؤية اليسار، وأحزاب الوسط، واليمين التقليدي، على فكرة الوحدة الأوروبية، وتعظيم قدرات القارة في مختلف المجالات. ويرى الليبراليون أن الحل لمشكلات أوروبا يكمن في أوروبا واحدة، أعمق وأكثر اتحاداً، تمتلك رؤية أكثر استراتيجية. لكن هذا الحل يعني حتماً المزيد من القوة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يغذي رد الفعل عند اليمين الشعبوي المتطرف، والتي عبّر عنها بوضوح في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وهو انعكاس لحالة الامتعاض المتزايدة في الشارع الأوروبي تجاه آليات الاتحاد البيروقراطية.

لهذا تركز سردية أقصى اليمين الشعبوي المتدرجة مع تزايد وجودها في مؤسسات الاتحاد الأوروبي لتقليص دور الاتحاد الأوروبي، وتطبيق سياسات صارمة ضد الهجرة، وتستفيد هذه الأحزاب من مخاوف الناخبين بشأن الهجرة، وتكاليف المعيشة العالية، مما يزيد من شعبيتها وتأثيرها في السياسات الأوروبية.

ويرى المراقبون أن اليمين الشعبوي المتطرف لن يتمكن على المدى المنظور من إلغاء الاتحاد الأوروبي، ولكنه سيسعى لتهميشه مقابل تطبيق سياسات وطنية تركز على الأمن والهجرة ومقاومة المتغيرات المناخية. ولن يستمر مفهوم أوروبا الموحدة السائد حالياً في ظل المزيد من التعظيم للسيادات الوطنية، وفي حال استمر نفوذ الأحزاب اليمينية والشعبوية المتطرفة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي فإن الأمر سيقود الاتحاد الأوروبي حتماً إلى التخلي عن فكرة أوروبا الفيدرالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى