أهمية تشاد الجيواستراتيجية وسط أفريقيا
من الواضح، أن المرحلة التي تفصل تشاد عن الاستحقاق الرئاسي قد تشهد الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، والحد من التوترات بين الحكومة والشارع بسبب هذا التوافق على مستوى مؤسسات الدولة.
منذ ما قبل مقتل الرئيس إدريس ديبي في شهر أبريل/نيسان عام 2021، تواجه تشاد تداعيات سلسلة أحداث عسكرية، وأمنية، وسياسية، في الدول المجاورة لها.
ومع رحيل الرئيس ديبي، الذي حكم البلاد لمدة تربو على ثلاثة عقود، ازدادت التعقيدات الداخلية والإقليمية بدخول البلاد في حراك سياسي وأمني جديد، مع تعاظم تهديدات تمس استقرار البلاد ووحدة كيانها، فمع تفاقم نشاط الحركات الإرهابية في الدول المجاورة، وحدوث سلسلة انقلابات في بعض دول الإقليم، التي ضربت كلًّا من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، والغابون، ازدادت أهمية تشاد الجيواستراتيجية في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وأداء دور فاعل في مواجهة مختلف التهديدات، ما يتطلب التعجيل بتسوية داخلية، وتجاوز أزمات ما بعد الرئيس إدريس ديبي السياسية والاقتصادية.
تُعدّ جمهورية تشاد أكثر دول وسط أفريقيا المعنية بما يحدث في مجموعة دول غرب ووسط أفريقيا، نظرا إلى مجاورتها لكل من النيجر ونيجيريا، وهي أيضا شديدة التأثر بتقلبات الأوضاع السياسية والأمنية في جمهورية أفريقيا الوسطى، على حدود تشاد الجنوبية، وكذلك بتداعيات الحرب الدائرة في السودان، بين الجيش وقوات الدعم السريع.. إضافة إلى ذلك تعد تشاد -من الناحية العسكرية- أهم دول المنطقة مواجهة لتمدد حركة بوكو حرام، ومن الشمال لا يزال الجار الليبي يعيش انقساما حادا بين الشرق والغرب، ونشاط حركات التطرف العنيف، ولا سيما في الجنوب، حيث توجد القواعد الخلفية لبعض الحركات التشادية المتمردة.
في هذا السياق -المحلي والإقليمي المضطرب- يأتي الاستفتاء على الدستور، وتشكيل حكومة جديدة يرأسها الدكتور سيكسيه ماسرا، أحد أبرز الوجوه السياسية المعارضة لنظام ديبي منذ مدّة طويلة.
وتعمد هذه الورقة إلى اختبار إشكالية التغيّر الواضح في مواقف الأطراف السياسية الفاعلة -على رأسها الحركة التي يمثلها الدكتور سكسيه ماسرا- من مخرجات المرحلة الأولى والثانية من الفترة الانتقالية، والقبول بإكراهاتها، ثم التدرّج نحو التقارب، ثم الالتقاء مع السلطة وتشكيل الحكومة الجديدة التي تتولى إدارة المرحلة الثالثة والأخيرة من الانتقال السياسي استعدادًا لتنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة.
أولًا – من أزمة النظام إلى الاستفتاء على الدستور
مرت تشاد بأزمة سياسية، نتيجة الطريقة التي جرى بها انتقال السلطة من الرئيس الراحل إدريس ديبي، إلى ابنه الجنرال محمد إدريس ديبي؛ فبعد مقتل الرئيس الراحل في نهاية شهر أبريل/نيسان من عام 2021، تم تعيين مجلس عسكري انتقالي، برئاسة الجنرال الابن محمد ديبي إتنو، الذي كان يتولى منصب القائد العام للحرس الرئاسي، دون أن يتحمل مسؤوليات حكومية أو سياسية في عهد والده.[1] وتبعًا لذلك عُلّق العمل بالدستور، وأُعلنت مرحلة انتقالية تدوم 18 شهرًا، وكان يفترض أن تنتهي في شهر سبتمبر/أيلول عام 2022، بتسليم السلطة للمدنيين.
وفي هذه الأثناء، أُعلن إجراء حوار وطني جامع، ما بين 20 أغسطس/آب و12 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2022، كان يفترض أن يؤدي إلى وفاق وطني، حول الإصلاحات الدستورية، وقد نتج عنه تمديد المرحلة الانتقالية لعامين إضافيين، وتتويج الجنرال «محمد إدريس ديبي إتنو» رئيسا للفترة الانتقالية. وقد شارك في الحوار الوطني 1400 شخصية، تنتمي إلى تيارات وأوساط سياسية واجتماعية مختلفة، لكن العديد من المعارضين الموجودين خارج البلاد لم يتمكنوا لسبب أو لآخر من المشاركة.[2] كما رفضت المعارضة الراديكالية المشاركة في الحوار الوطني، على أساس عدم قبولها منذ البداية بعملية انتقال للسلطة، يقودها العسكر من أبناء النظام السابق. وإن كان للمعارضة الراديكالية خلفيات ومسوغات ومصالح، وتاريخ آخر في مواجهتها للرئيس الراحل، ولمن ورثه في السلطة.
وفي سياق مخرجات الحوار الوطني تشكلت حكومة وحدة وطنية انتقالية بتاريخ 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، برئاسة المعارض صالح كبزابو، وبذلك تكون مهمتها الأساسية تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، حيث إن الحكومة السابقة، التي كانت برئاسة البير باهيمي باداكي، انتهت مهمتها بإدارة الجزء الأول من المرحلة الانتقالية، والحوار الوطني الجامع.[3]
ومما يذكر في هذا السياق أن الوزير الأول الجديد صالح كبزابو هو أحد أبرز الوجوه السياسية والحزبية، المعارضة للرئيس الراحل إدريس ديبي؛ فقد ترشح للرئاسة منافسًا له في أربعة استحقاقات انتخابية. ومن الناحية المهنية كانت مسيرته في العمل الصحفي، ومن حيث الأصول ينحدر من عائلة جنوبية، وكان يبلغ حينها 76 عامًا، وكان يرأس الحزب الوطني من أجل الديمقراطية والتجديد، الذي تأسس سنة 1992، وللحزب توجه اجتماعي ديمقراطي، وهو عضو بالأممية الاشتراكية منذ عام 2017. ويمكن تصنيف صالح كبزابو ضمن المعارضة الجمهورية، التي تقع بين الموالاة لنظام الرئيس ديبي، والمتحورة حول الحركة الوطنية للإنقاذ (الحزب الحاكم)، والمعارضة الراديكالية الرافضة للتعاون، والتعامل مع الوضع الجديد، بعد مقتل الرئيس.[4]
وفي هذه المرحلة الانتقالية حدث نوع من التقارب بين الموالاة والمعارضة السياسية المعتدلة، لإنقاذ النظام والجمهورية ووحدة البلاد، ومواجهة مخاطر الانهيار والتفكك، وذلك في ظل تعدد الجبهات المناوئة، والمتطلعة إلى الحكم، والمتباينة المنطلقات السياسية والأيديولوجية والمناطقية والإثنية.
لكن هذه الإجراءات السياسية، ومنهجية انتقال السلطة من الأب إلى الابن، مع استمرار تمرد بعض الفصائل، ومقاطعة الحوار الوطني من قبل بعض الأحزاب، والعائلات السياسية الوازنة، أوجدت مشهدًا سياسيًّا يتسم بالتأزم وانسداد الأفق السياسي؛ لذلك كان على الوزير الأول صالح كبزابو، أن يقدم مشروعًا انتقاليًّا يفتح الأفق السياسي بمسار انتقالي سلمي، ينتهي بإنجاز مجموعة من الاستحقاقات الانتخابية، التي يفترض أن تتسم بالشفافية والنزاهة، وتسمح لكل الأطراف بالانخراط فيها.
في هذا السياق، يأتي الاستفتاء على الدستور، الذي جرى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2023، وكانت الغاية الأساسية منه الخروج من المرحلة الانتقالية، ونهاية العمل بالميثاق الانتقالي، والتأسيس الدستوري للمرحلة المقبلة، وهذا يمثل التصور والمشروع، الذي كانت تحمله حكومة صالح كبزابو. وفي المقابل، كانت المعارضة ترى في الاستفتاء على الدستور، تمهيدًا لاستمرار “سيطرة العسكر” على الحكم، ومنح شرعية شعبية لنظام ما بعد الرئيس إدريس ديبي، ومع السير قدمًا نحو إنجاز الاستفتاء على الدستور، تبلورت ثلاثة مواقف سياسية من المسار، أولها: يمثل موقف الموالاة للمسار القائم، ويجمع دعاة الموافقة على الدستور المقترح، والثاني: يمثل موقف الرافضين للدستور المقترح، عبر المشاركة في الاستفتاء، والموقف الثالث: جمع المعارضة الراديكالية التي دعت إلى مقاطعة الاستفتاء.
ويمكن القول: إن الدستور الجديد المطروح للاستفتاء، كان يتضمن محورين أساسيين، الأول: اقتراح دولة وحدوية في وجه دعاة الدولة الفيدرالية، والثاني: يتمثل في إفساح المجال للترشح للرئاسة للجميع، بمن فيهم رموز المرحلة الانتقالية، وعلى رأسهم الجنرال محمد إدريس ديبي، ورؤساء حكوماته منذ مقتل والده.[5]
وكانت نتيجة الاستفتاء انتصارًا واضحًا للدعوة بالتصويت بـ “نعم” على الدستور، وقد مثل ذلك في الحقيقة، وقوف أغلبية مؤكدة مع النظام الوحدوي للدولة، مع مشروع اللامركزية، ومنح فرصة الترشح للانتخابات المقرر إجراؤها نهاية عام 2024، أمام كل الأطراف المتطلعة لمنصب الرئاسة، بمن في ذلك بعض رموز المعارضة الراديكالية السابقة، التي قارعت -سياسيا- نظام الرئيس إدريس ديبي، وكذلك التي واجهت سلطة المرحلة الانتقالية.
نجحت حكومة صالح كابزابو، في تحقيق الانتصار لمعسكر الموالاة في الاستفتاء الدستوري، بغلبة التصويت بنعم بنسبة 86% من إجمالي الأصوات، وقد بلغت نسبة التصويت 63.75% من إجمالي الكتلة الناخبة، ثم أقرت المحكمة العليا هذه النتائج يوم 28 ديسمبر/كانون الأول عام 2023.[6]
ثانيًا – المسار السياسي لسكسيه ماسرا: من المعارضة إلى الوزارة الأولى
لكن ما حققته هذه الحكومة، التي كان يقودها صالح كبزابو، لم يتَح لها الاستمرار في إدارة البلاد، برغم أن صالح كبزابو كان يتمنى ذلك، خاصةً أنه يعد نفسه للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ عيّن رئيس المرحلة الانتقالية محمد إدريس ديبي يوم 1 يناير عام 2024م، الدكتور سكسيه ماسرا وزيرًا أولًا، خلفًا لصالح كبزابو، اعتقادا منه أنه رجل المرحلة، وأن وجوده على رأس الحكومة، وقيادته لما تبقى من المسار الانتقالي، ومشاركته في الانتخابات الرئاسية، يمنح شرعية ومصداقية لمخرجات مرحلة ما بعد الاستفتاء، ويضعف التكتلات المدنية، التي كانت -سابقا- قد التفت حول سكسيه ماسرا، في مواجهة الجنرال محمد ديبي، ويطوي صفحة تبعات أحداث “الخميس الأسود” الدامية.[7]
هذا المسار الذي كانت نتيجته التقارب، ثم التعايش السياسي، وتقاسم الحكم بصورة ما، بين رئيس المرحلة الانتقالية، والوزير الأول الجديد، الدكتور: ماسرا، تحقق بدفع وإشراف المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، ولا يستبعد أن يكون لفرنسا يد ورعاية في ذلك، إضافة إلى رضا أمريكي، فالجولات واللقاءات التي أجراها الدكتور سكسيه ماسرا في العواصم الغربية بعد مغادرته تشاد سنة 2022 أسهمت بصورة أو بأخرى في تيسير التوافق بين الرجلين[8]، ذلك أن استقرار تشاد، واستعادة عافيته السياسية، ثم خروجه من المرحلة الانتقالية، إلى وضع دستوري شرعي، مطلب دولي وإقليمي.
ثمة نقطة التقاء بين تصوُّر رئيس المرحلة الانتقالية لمتطلبات المرحلة القادمة، وبعض محاور مشروع الدكتور سكسيه ماسرا، وتطلعاته السياسية، فالمستقبل القريب للدولة يتطلب البناء على أوسع قاعدة توافق سياسي، بين أهم أطراف المشهد العام، المتحكم في آليات العمل الحزبي من جهة، وتطلعات الشعب التشادي، ومتطلبات الاستقرار العام داخليًّا وإقليميًّا، ومن ثمّ فإن مواصفات الوزير الأول الجديد الدكتور ماسرا، من حيث التكوين الأكاديمي “متخصص في الاقتصاد”، ومسار تاريخه السياسي والمهني “العمل في بنك أفريقيا للتنمية”، وأصوله المناطقية الجنوبية، وشبكة علاقاته الدولية والإقليمية، تتناسب مع متطلبات الظرف الحالي. إضافة إلى أنه يتمتع بشعبية واسعة، قد تضفي على المرحلة المقبلة مصداقية أقوى.
يمتلك الوزير الأول الجديد: سكسيه ماسرا، شبكة علاقات أكاديمية، وسياسية، واقتصادية، دولية مهمّة، يمكن استثمارها في التسويق للصورة الجديدة للمرحلة الانتقالية، ومنحها مقبولية لدى الأوساط الدولية، إضافة إلى ذلك، يمثل الدكتور ماسرا قوة سياسية وشعبية معتبرة، ومؤثرة في الأحداث التي تدور على الساحة السياسية التشادية والأفريقية. ولم تتح أية فرصة انتخابية لقياس شعبيته سابقًا، بالنظر إلى منعه قانونيا من التقدم للانتخابات الرئاسية السابقة، التي جرت في شهر أبريل/نيسان عام 2021، لأن عمره كان دون سن الأربعين، التي يشترطها القانون للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية.[9]
وهو يرأس منذ عام 2018 -وهو تاريخ عودته إلى البلاد- حركة شعبية سياسية أطلق عليها اسم “المُحوِّلون The Transformers”، التي برزت بسرعة، كأبرز تشكيلة سياسية وشعبية معارضة في البلاد، وللانفتاح على منظمات المجتمع المدني والعمل الجمعياتي، شارك في تأسيس تنسيقية العمل المدني: تمَّ الوقت “واكيت تمّا Coordination of Citizens Actions: Wakit Tamma”، التي ضمّت أحزابا ومنظمات وجمعيات شبابية ومهنية وحقوقية كبرى، مثل: “الاتحاد الوطني من أجل التنمية والتجديد”، الذي يرأسه الوزير الأول السابق صالح كبزابو، والرابطة التشادية لحقوق الإنسان، والاتحاد التشادي للنقابات، وحزب الحريات والتنمية لمحمد أحمد الحبو.
ولعل انخراط سكسيه ماسرا في هذه الجبهة المدنية المعارضة، التي هي في النهاية حركة شعبية ديمقراطية إصلاحية، يعد بحثًا منه بصورة أو بأخرى عن أدوات فعالة للعمل الديمقراطي الجماهيري السلمي الجماعي، لكنه أيضا بحث عن امتداد شعبي له خارج حركة “المُحوِّلون” التي يتزعمها، فالرجل يرى في نفسه “مشروع” زعيم مدني ديمقراطي، يقطع مع تاريخ الحكم العسكري لتشاد.
وفي سياق ذلك، لم تكن معارضته للنظام القائم في تشاد، في عهد الرئيس إدريس ديبي، أو بعد مقتله، تخلو من تعبئة لأتباعه، ودفعهم نحو مواجهة قوات الأمن، عبر التظاهر في شوارع العاصمة أنجامينا؛ وقد أدى ذلك في بعض المناسبات، إلى صدام دامٍ، راح ضحيته العشرات، إن لم يكن المئات من الضحايا، على غرار ما حدث في مظاهرة بتاريخ 20 أكتوبر عام 2022، احتجاجًا على تمديد «المرحلة الانتقالية» لمدة عامين.[10]
وكان الدكتور سكسيه ماسرا يستثمر -في سياق تعبئة الشارع بالعاصمة وغيرها من المدن- قدراته الخطابية، وإتقانه لغات عدة ولهجات محلية، خاصة منها اللغات الجنوبية الأربعة،[11] إلى جانب العربية والفرنسية والإنجليزية.
ورغم معارضته الحادة للرئيس الراحل إدريس ديبي، ثم للجنرال محمد إدريس ديبي، وعدم مشاركته في “الحوار الوطني الجامع”، فإنه في النهاية تبنّى «تغييرًا استراتيجيًّا» في شهر ديسمبر عام 2023، بدعوة أنصاره إلى الموافقة على الدستور الجديد، وبذلك يكون -سياسيًّا- قد وقف في صف الحكومة، ورئيس المرحلة الانتقالية.[12] لكن هذا التغيير في الموقف، يتناسق في الحقيقة مع الأفكار الإصلاحية التي يتبناها الرجل، وينوي تنفيذها من خلال موقعه الجديد، ما يسمح له أيضا بالعمل من داخل مربع الفعل السياسي المباشر على مؤسسات الدولة، وليس من خارجه، وفي هذا السياق جاء تعيينه وزيرا أولا بتاريخ 1 يناير عام 2024.[13] وقد مثّل ذلك حدثًا مهمًّا، وخطوة نحو الخروج من عقبات المرحلة الانتقالية، وصعوباتها وتوتراتها؛ وبذلك يجد الدكتور ماسرا نفسه أمام تحديات الإدارة الحكومية، والتي سيكون لمخرجاتها -إيجابية كانت أم سلبية- الأثر الكبير على مستقبله السياسي.
ثالثًا – سكسيه ماسرا: الواقعية السياسية
من أجل تناول السياق، والخلفيات التي تقف وراء قبول سكسيه ماسرا بالمنصب، والمصالحة مع نظام المرحلة الانتقالية، فلابد من فهم ملامح شخصية الوزير الأول الجديد سكسيه ماسرا، ومن ثم تطلعاته السلطوية، ما يستوجب العودة إلى عرض أسباب مغادرته البلاد سنة 2022 من جهة، وأهداف جولاته في عواصم أفريقية ودولية، ومنها البحث في المسوغات السياسية، التي جعلته يقبل بتحديات وإكراهات المرحلة الجديدة، والعمل مع السلطة الانتقالية.
يؤمن الدكتور: سكسيه ماسرا منذ دخوله ساحة العمل السياسي عام 2018، عبر تأسيسه لحركة “المُحوٍّلون” بالتغيير السياسي السلمي، انطلاقًا من داخل النظام؛ لذلك لم يتجه نحو تبني أي شكل من أشكال العمل المسلّح، أو مساندة حركة تمرّد مسلح، أو التحالف مع تنظيمات تدعو إلى قلب النظام من الخارج، استنادًا إلى فصائل تعتمد العنف المسلّح ضد الدولة والنظام القائم.
وانطلاقًا من ذلك، اعتمد على تعبئة القوّة الشعبية، والعمل على فرض إرادتها على مختلف الفاعلين السياسيين، العاملين في المؤسسات العامّة، عبر حراك سياسي مدني، يكون أحد أبرز أطرافه، إن لم يكن هو الذي يتزعمه بمفرده.
لكن التعويل على الشارع، والضغط على المؤسسات الحاكمة في بعض المناسبات السياسية الدقيقة، في مشهد سلطوي لم يعتد تقديم تنازلات سياسية تحت ضغط التظاهرات الشعبية مهما كانت حاشدة، أدى إلى أحداث دموية، وتتبعات قضائية، وملاحقات دولية، مثل التي نجمت عن مظاهرة 20 أكتوبر عام 2022؛ إذ كانت حصيلة المواجهات بين المتظاهرين وقوى حفظ النظام، العشرات من القتلى والجرحى، والمئات من المعتقلين.[14] وتبعًا لذلك، كان سكسيه ماسرا من بين الزعماء السياسيين الملاحقين قضائيًّا، وفضل اللجوء إلى الخارج، بعد أن حملته السلطة مسؤولية الأحداث، ووجهت إليه تهمًا ثقيلة، تمثلت في: “محاولات تقويض النظام الدستوري، والاعتداء على سلطة الدولة، والتحريض على الكراهية والتمرد، والاعتداء على سلامة الأراضي الوطنية، والاعتداء على مؤسسات الدولة”. وعلى أساس ذلك صدرت في حقه بطاقة تفتيش دولية.[15]
ويبدو أن كل هذه الأحداث، أقنعت الدكتور سكسيه ماسرا باتباع مزيد من الواقعية السياسية، وتجنب استفزاز السلطة الحاكمة، عبر تحريك الشارع الموالي له، الذي برغم تضرره على إثر أحداث ما سمي الخميس الأسود ليوم 20 أكتوبر عام 2022، لكنه ظل متحفزًا لاستقبال جماهيري، في حال قرر زعيمه العودة إلى البلاد، مثلما كان متوقعًا ليوم 18 أكتوبر عام 2023.[16]
لذلك، وبعد مرحلة من التنقلات والزيارات بين العواصم الدولية، حيث وسّع الدكتور ماسرا وثبّت شبكة علاقاته الدولية، قَبِل بمقترحات الوسيط الأفريقي فيليكس تشيسكيدي رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، ورئيس “الجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا”، بتأجيل تاريخ عودته إلى أنجامينا.[17]
أقنعت الأحداث الدامية وتبعاتها الدكتور سكسيه ماسرا، بالبحث عن سبل جديدة -أقل تكلفة، وأكثر مقبولية في الداخل والخارج- يمكن أن تفضي إلى مشاركته في السلطة، وإحداث التغيير، انطلاقًا من منصات المسؤولية الحكومية، وإدارة الشؤون العامة، ومن بينها استثمار صداقاته وعلاقاته مع الأوساط الاقتصادية، ورجال الأعمال في بعض العواصم الأفريقية، حيث كان قد عمل مع صندوق التنمية الأفريقية قبل مغادرته عام 2018، والعودة إلى أنجامينا، لاقتحام العمل السياسي المباشر، كما عمل أيضًا في مصرف “بي أن بي باري با” (مصرف باريس الوطني BNP Paris Bas) سنة 2016.
وبحثًا عن منصات عمل أفريقي، وشبكات اتصال على مستوى القارة، شارك عام 2019، في تأسيس “التحالف التقدمي الأفريقي” (Inter-African Progressist)، الذي أٌعلن رسميًّا سنة 2020، وهي الرابطة التي تجمع شخصيات مرشحة للانتخابات الرئاسية في بلادها، مثل: السنغالي عثمان سونكو، والنيجيري إبراهيم يعقوب، والمالي عمر ماريكو، والبوركينابي عبدالله سوما.. وجميعهم يؤمنون بالرابطة الأفريقية الجامعة، والوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع،[18] لذلك سعى منذ خروجه من تشاد، ومروره بالكاميرون إلى تفعيل علاقاته المهنية والسياسية والأكاديمية السابقة، سواء في العاصمة ياوندي، أو غيرها من العواصم الأفريقية الأخرى.
ومن الكاميرون، انتقل زعيم حزب “المُحوِّلون” إلى واشنطن، حيث يمتلك شبكة علاقات، كان قد أسسها عندما درس في جامعة هارفرد، وسعى إلى إعادة تفعيل علاقاته في الولايات الأمريكية المتحدة، واتجه نحو الاتصال ببعض أعضاء الكونغرس، ومجلس الشيوخ، ووزارة الخارجية الأمريكية. كما كان اتصل ببعض شركات “اللوبيينغ”، للاستفادة من كل أدوات الضغط، التي يمكن أن تمارس على نظام أنجامينا.[19]هذا إلى جانب اعتماده على الكثير من الشخصيات الوازنة، من سياسيين، وعسكريين، ومثقفين، في فرنسا، وهي التي يتهمها دائمًا بدعم نظام حكم تشاد.[20] ولذلك تنقل في فرنسا، وتمكن من مقابلة شخصيات عدّة، كما يمتلك أيضًا شبكة علاقات بإنجلترا، باعتباره درس هناك، مثلما كان درس في فرنسا والولايات الأمريكية المتحدة.
اعتمادا على كل هذه المعطيات، اتجه الدكتور سكسيه ماسرا نحو البحث عن أرضية تفاهم مع النظام الانتقالي في أنجامينا، وفي هذا السياق جاءت زيارته إلى كينشاسا للقاء الوسيط الرئيس فيليكس تشيسكيدي، والبحث عن مخارج للأزمة في شهر مايو عام 2023،[21] لكن يبدو – إلى حدود شهر أكتوبر عام 2023 – لم تتضح بعد ملامح وجود توافق بين الدكتور ماسرا، والحكومة التشادية، لذلك بدا أن السلطة اتخذت إجراءات صارمة، لمنع عودته إلى البلاد، في الوقت الذي كان قد حدد موعدًا لذلك يوم 18 أكتوبر من السنة الماضية، وذلك رغم أن رئيس المرحلة الانتقالية الجنرال محمد إدريس ديبي، كان قد صرّح في خطابه ليوم 28 يونيو عام 2023، أن على “الذين فروا إلى الخارج العودة إلى الوطن الأم”.[22]
رابعًا – برنامج سكسيه ماسرا ومنح الثقة
عرض الدكتور سكسيه ماسرا برنامجه يوم 18 يناير عام 2024 أمام المجلس الوطني الانتقالي، حيث حدد المضامين، والخطوط العريضة، والأدوات والمراحل الزمنية لتنفيذه، وقد ركز على ضرورة تطوير العمل الحكومي، وانطلق من تقييم للإدارة التشادية، التي كانت بحسب قوله ” إدارة عتيقة وتعود إلى القرون الوسطى”.[23] وعمومًا، يمكن القول: إن البرنامج ركز على أربعة محاور، وهي: تحسين الأداء الحكومي عبر المحاسبة والمساءلة أمام المواطنين، وقضاء مستقل، واهتمام أكثر بقطاعَي التعليم والصحة والخدمات العامة،[24] ووضع خطة تنمية اقتصادية فعالة ومُمَرحلة. [25]
ولقد تضمن البيان الحكومي مسائل أخرى مهمة تتوجه أغلبها إلى تحسين الأوضاع المعيشية العامة للأهالي، وإشعارهم أن الحكومة الجديدة، شديدة الانتباه والاهتمام بذلك. لكن ما لم يلفت انتباه الكثيرين من المحللين والمعلقين، هو الإشارة إلى التوجه الحكومي نحو الاهتمام بكل اللغات التشادية، وترقيتها إلى مستوى اللغات الوطنية، حفظًا لسلامة الهوية الثقافية التشادية،[26] التي تتميز بالتعددية اللغوية، وإن كانت اللغتان الرسميتان، هما: الفرنسية والعربية.
ومهما يكن من أمر البيان الحكومي الذي تلاه الوزير الأول أمام المجلس الوطني، فقد تضمن تأكيدًا على أن تجري الاستحقاقات الانتخابية القادمة في أحسن الظروف، وأنه سيوفر لذلك الإمكانات اللازمة، وأنها ستجري في المواعيد المحددة (أي قبل 20 أكتوبر 2024)، وذلك لإنهاء المرحلة الانتقالية.[27]
وبالرغم من أن ردود الفعل على البرنامج الحكومي كانت متباينة، فإن أغلبية نواب المجلس الوطني (وعددهم 173 نائبًا)، منحوه الثقة بنسبة 95.4%.[28]
لكن إذا وُضِع برنامج حكومة الدكتور سكسيه ماسرا في سياق الانتخابات الرئاسية المقبلة – التي سيترشح لها – فإنه يكون بذلك، برنامجًا انتخابيًّا؛ فمن جهة يعتقد الدكتور ماسرا أن إنجازاته المقبلة والمعلنة في البرنامج، ستستفيد منها أوسع القطاعات الشعبية، وأنه سيصل بذلك إلى أهالي وسكان المناطق المهمشة في السابق – سواء أكان تهميشًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، أم ثقافيًّا وإثنيًّا – وخاصة الجنوب بالمقارنة مع الشمال، وبالتالي اكتساب أصواتها وتعاطفها، ولعل هذا أحد أسباب قبوله المصالحة مع النظام، الذي قاومه ورفضه، ودعا إلى إسقاطه – ديمقراطيًّا – ثم تنازل، وقبل التعاطي والتعامل معه، برغم كل تحفّظاته عليه.
خامسًا – “لست انتحاريًّا ولا جبانًا”: القبول بمنصب الوزارة الأولى
بهذه العبارة: «لست انتحاريًّا ولا جبانًا»، ردّ سكسيه ماسرا على الذين انتقدوا قبوله التوافق مع سلطة المرحلة الانتقالية، برغم أنه كان يطالبها بالرحيل، وتنظيم انتخابات مبكرة، وتسليم السلطة للمدنيين،[29] لكنه في النهاية، قبل بشروط العودة، وبدعوة رئيس الجمهورية الجنرال محمد إدريس ديبي، لعودة المعارضين الموجودين في الخارج، وهو ما يمكن تسميته “العودة المشروطة”، بتوقيع اتفاق مسبق بين الحكومة، والأطراف المعنية بالرجوع والمشاركة في الحياة السياسية بالبلاد، لكن ذلك لا يمنع أن الدكتور سكسيه ماسرا، له شروطه أيضًا، وكان يريد أن يعود بصفته رمز المعارضة، الذي يتمتع بشعبية عريضة، ولعله كان يودّ أن يرى استقبالًا جماهيريًّا كبيرًا ينتظره في المطار، وينظمه له أنصاره، وهذا ما كانت ترفضه الحكومة، ولذلك تعثرت عودته، وتأخرت إلى نهاية شهر أكتوبر من عام 2023. وهنا كان دور الوسيط – رئيس الكونغو – الذي تمكن من تقريب وجهات النظر، والتوصل إلى اتفاق بين الطرفين.
وقد وُقّع الاتفاق بين الحكومة، ورئيس حزب “المُحوِّلون”، يوم 31 أكتوبر الماضي، في العاصمة الكونغولية كينشاسا، وتحت إشراف الوسيط الرئيس فيليكس تشيسكيدي، المعيّن من قبل المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا، للقيام بهذا الدور. وكان الاتفاق يقضي بعودة كل الذين غادروا البلاد، في إثر أحداث 20 أكتوبر عام 2022 الدامية، وعلى رأسهم الدكتور سكسيه ماسرا.[30] ويوحي مسار الأحداث في المرحلة اللاحقة للتوقيع، ولعودة رئيس حزب “المُحوِّلون” إلى أنجامينا، بوجود بنود أخرى غير معلنة للاتفاق الموقع في كينشاسا؛ فمن جهة، فاجأ الاتفاق “تنسيقية العمل المدني” (واكيت تمَّا)، ما أدى بها إلى إعلان رفضها الاتفاق الموقع.
ومن جهة أخرى، سارعت الحكومة بإعلان عفو عام، عن كل المتورطين في الأحداث الدامية ليوم 20 أكتوبر عام 2022، من المدنيين أو قوات الأمن والجيش، وهذا في ذاته أثار ردودًا متباينة، باعتبار أنه من جهة يمثل انفراجة أكيدة، بخصوص المعتقلين والمحاكمين في إثر الأحداث، لكن من جهة أخرى، فوّت في حقوق القتلى والجرحى، التي كانت تطالب بها المعارضة والقوى المدنية. ولذلك اتهم سكسيه ماسرا بأنه ضحّى بحقوق القتلى من أتباعه، ورضي بالعفو الذي يطال المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، وهو أمر أثار غضب واحتجاج بعض أنصاره. لذلك كان الدكتور سكسيه ماسرا يرد على هذه الاتهامات وغيرها، بأن ” المصالحة” مع النظام الحاكم، منذ الرئيس ديبي الأب، لا تعني “الاستسلام”.[31]
ويبقى السؤال الوجيه المتعلق بفرص نجاح الدكتور سكسيه ماسرا في مهمته الجديدة؛ فالحكومة الجديدة، التي يقارب عدد وزرائها الأربعين، تمثل في الحقيقة استمرارية لنفوذ رئيس المرحلة الانتقالية الجنرال محمد ديبي، أكثر مما تمثل توجهات الوزير الأول الجديد؛ فهذا الأخير، لم يعين في تركيبته سوى وزيرين اثنين، وكاتب دولة. والوزارات السيادية والاستراتيجية في الحكومة، احتفظ أصحابها بمناصبهم فيها. ومثلما لم يكن للوزيرين الأولين السابقين أي أثر يذكر في الحكومة والإدارة، بل كان لهما أثر محدود، وهامش مناورة ضيق، فسيكون كذلك للدكتور سكسيه ماسرا، الوزير الأول الجديد. وهذا ما يحدُّ – حقيقة – من فرص إحداثه التغيير، الذي عبّر عنه في برنامجه؛ فالإدارة، والسلطة الفعلية في مختلف الأجهزة ومفاصل الدولة، تبقى بيد رئيس المرحلة الانتقالية.[32]
لكن ذلك لا يمنع القول: إن تركيبة الحكومة، ومواصفات الوزراء، تؤكّدان الاهتمام بالمسألة الاقتصادية، والدين الخارجي، والخدمات العامة. لكن، وعلى ضوء التشكيل الحكومي، فقد تحسب النجاحات – إن تحققت – لرئيس المرحلة الانتقالية، باعتبار أنه الجهة التي عيّنت الحكومة بأعضائها، ووزيرها الأول، أما الإخفاقات، فقد تنسب لقائد الفريق الحكومي، وهو الدكتور ماسرا. فالمردود السياسي لمشاركته في الحكم، وتعايشه مع الجنرال محمد ديبي، قد يجنيه هذا الأخير، أكثر من أي مسؤول آخر.[33]
خاتمة
إذا كان برنامج الدكتور سكسيه ماسرا الحكومي برنامجًا انتخابيًّا، كما أُشير إليه سابقًا، فهو برنامج طموح، ويلبي تطلعات فئات شعبية تشادية واسعة، لكنه قد لا يُمَكَّن من أدوات تنفيذه، ويجد نفسه في مواجهة الدولة العميقة، الموالية لنظام الرئيس ديبي؛ فالإخفاقات التي قد يمنى بها، قد تعوق تنافسيته في الانتخابات الرئاسية.
إضافة إلى ذلك، يوجد عدد لا يستهان به من رجال الدولة السابقين، يتطلعون إلى منصب رئاسة الجمهورية، والتقدّم للانتخابات الرئاسية المقبلة، وعلى رأسهم الجنرال محمد إدريس ديبي، الرئيس الحالي، ورئيس الوزراء السابق صالح كبزابو، ورئيس الوزراء الأسبق ألبير باهيمي، وموسى فقيه وزير الخارجية الأسبق، ورئيس المفوضية الإفريقية.
وفي هذا السياق، فإن مهمّة سكسيه ماسرا في قيادة الحكومة ستعترضها عقبات وصعوبات عدّة قد تجعل حظوظه في الفوز بالانتخابات الرئاسية محدودة؛ لكن من الواضح، أن المرحلة التي تفصل تشاد عن الاستحقاق الرئاسي قد تشهد الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، والحد من التوترات بين الحكومة والشارع بسبب هذا التوافق على مستوى مؤسسات الدولة، وهذا يهيئ البلاد إلى استعادة دورها الإقليمي في منطقة مضطربة، تتهدَّدُها الصراعات والأزمات والانقسامات، والأطماع الدولية، والإرهاب العابر للحدود. وهذا في ذاته إنجاز يحسب لكل الأطراف المشاركة في هذا “التعايش الحكومي” الجديد.