سوريا

أنقرة ودمشق.. لماذا الآن؟

لم يعد أمام النظام السوري من بديل سوى الانفتاح على تركيا لاستئناف مسار التطبيع معها للحفاظ على استقراره ومحاربة الإرهاب وفقًا للمفهوم التركي بالأخص بعد قيام تركيا بالتنسيق في ملفات أمنية مع بغداد لحصار حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وجبال قنديل

قبل فترة قصيرة، أعلن الرئيس التركي في تصريح لافت له استعداده لأن يوجه الدعوة إلى الرئيس السوري بشار الأسد لزيارة بلاده، وأن ذلك قد يتم في أي لحظة، كما أكد أنه يأمل في عودة العلاقات التركية السورية إلى ما كانت عليه في الماضي.

وقد دفعني هذا التصريح أن أبحث في الأسباب التي من المرجح أنها تقف وراء رغبة كل من تركيا والنظام السوري في التقارب والتطبيع، وما إذا كانت هناك أية عقبات يمكن أن تعترض هذا المسار، وهل بالفعل من مصلحة البلدين الآن تحقيق هذا الأمر؟

بداية، يرى كوتلوهان جوروجو الباحث في مركز سيتا في تقرير أعده تحت عنوان “سوريا.. مستقبل غامض” والمنشور ضمن مجموعة تقارير حملت عنوان “المشهد الجيوسياسي التركي في العام 2024″، يرى أن تركيا تهدف بصورة أساسية من وراء تطبيع علاقاتها مع النظام السوري إلى ضمان استمرار حربها ضد حزب العمال الكردستاني وامتداداته في الأراضي السورية، هذا من ناحية، إلى جانب تسريع الإعادة الطوعية للاجئين السوريين إلى الشمال السوري من ناحية أخرى.

أما على مستوى دمشق، فيقول الباحث، إن للنظام السوري أيضًا مطالب وشروطًا مسبقة قبل استئناف العلاقات مع تركيا، يأتي الانسحاب التركي الكامل غير المشروط من الشمال السوري على رأسها. وذلك قبل الحديث عن أي خطوات لتطبيع العلاقات معها.

لكن في رأيي هذا الأمر لا تستطيع تركيا أن تقبله أو تحققه قبل أن تحصل من النظام السوري على ضمانات لأمنها القومي وأمن حدودها الجنوبية، خاصة بشأن عدم إقامة كيان إرهابي على طول تلك الحدود، وما قد يمثله ذلك من تهديد لها.

تليين المواقف نحو التطبيع

وبالفعل، فإن المتابع لهذا الشأن يستطيع أن يلحظ تحولًا في خطاب دمشق تجاه أنقرة في الفترة الأخيرة. فقد قال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد؛ إن شرط بلاده لانطلاق الحوار مع أنقرة هو “استعداد تركيا لإعلان نيتها الانسحاب من أراضينا”. وهكذا، فإن هذا “الشرط المسبق” للتطبيع قد تم تخفيفه من الانسحاب الفعلي إلى مجرد إعلان النوايا.

وبعد أيام قليلة من تصريح المقداد، صرّح وزير الدفاع التركي يشار غولر قائلًا، إن بلاده على استعداد كامل لمواصلة جهود تحقيق حل سياسي في سوريا، ودعم دستور شامل وإجراء انتخابات حرة وضمان تحقيق بيئة شاملة للتطبيع والأمن، فيما بدا أنه انسجام في التصريحات المتبادلة يمكن أن يؤسس عليه نحو تطبيع محتمل.

مسارات وعقبات

بالتوازي، يسعى النظام السوري إلى إعادة تطبيع علاقاته مع الدول العربية، مستغلًا رغبة الولايات المتحدة بل وتشجيعها لهذا الأمر، لكنه يهدف أساسًا من وراء هذه الخطوة إلى أن تقوم الدول العربية بلعب دور في إقناع واشنطن برفع العقوبات الدولية عنه، بما يسمح بتدفّق الاستثمارات العربية والدولية إلى عجلة الاقتصاد المنهك في البلاد.

لكن الولايات المتحدة لها رأي آخر، فهي لا تنوي اتخاذ أي خطوة باتجاه رفع العقوبات عن دمشق إلا إذا تلقت ضمانات وطمأنات منها بالاعتراف بقوات سوريا الديمقراطية واعتبارها أحد مكونات الشعب السوري، ويجب أن يكون لها دور في أي عملية سياسية مستقبلية داخل سوريا.

ومن هنا تأتي المعضلة التي يواجهها النظام السوري، أو ما يمكن أن أسميه “العقبة الكبرى” في مسار التطبيع مع أنقرة، حيث إنّ الضمانات المطلوب أن يقدمها للولايات المتحدة كشرط لإعادة العلاقات مع الدول العربية ورفع العقوبات الدولية عنه، تصطدم بالضمانات التي تطلبها منه تركيا كشرط مسبق لانسحابها من الشمال السوري، ومن ثم تحقيق اختراق في مسار التطبيع مع أنقرة..!!

لكن، ورغم ذلك مرة أخرى، فإن مجريات الأحداث الأخيرة في المحيط المجاور والدولي، توجّه كلا البلدين نحو التطبيع..

  • وهنا نستدعي بعضًا من هذه الأحداث على النحو التالي:

فمن ناحية، أدى استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وانخراط إيران بشكل غير مباشر فيها، وتزايد احتمالات توسع نطاق الحرب، إلى تزايد إمكانية تورط إيران، الداعم الأساسي للنظام السوري، في مواجهة محتملة ومباشرة مع الكيان الصهيوني بالأخص إذا اشتعلت الحرب مع حزب الله في لبنان، هذا الأمر يجعل إيران تسقط ولو مرحليًا سوريا من أولويات حساباتها.

كما رشحت تقارير عن احتمال حدوث صدع في العلاقات الإيرانية الروسية، الأمر الذي قد يؤثر على التنسيق بينهما في سوريا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الصمت الروسي الدائم بل والسماح بالغارات الإسرائيلية على الأهداف الإيرانية في الداخل السوري، والذي يشي بوجود تنسيق أمني أميركي روسي إسرائيلي في هذا الأمر. يؤكد ذلك تصريح لافت للمبعوث الروسي الخاص لأفغانستان السيد زامير كابولوف الذي أعلن فيه تعليقًا مؤقتًا لاتفاقية التعاون بين روسيا وإيران؛ بسبب ما وصفه بـ “مشاكل يواجهها الشركاء الإيرانيون”.

أما عن روسيا، فإن سُلم أولوياتها هي الأخرى قد تغير في الآونة الأخيرة، فبعد اشتداد الحرب في أوكرانيا وتوسع الدول الغربية في تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة أميركية مع إعطاء الضوء الأخضر لاستخدام تلك الأسلحة في مهاجمة عمق الأراضي الروسية، كل ذلك ساهم في إعادة توجيه روسيا كل طاقاتها العسكرية والدبلوماسية لمحاولة حسم المعركة في أوكرانيا، وعقد اتفاقات أمنية وتنسيق أمني مع حلفاء آخرين كالصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام. ومن ثم فإن الملف السوري قد تراجع هنا أيضًا على أجندة الإستراتيجية الروسية.

كل ما سبق يفسح المجال أمام تزايد احتمالات التطبيع التركي مع نظام الأسد، وانفتاح الآخر عليه.

فرضية الانسحاب الأميركي

نشر الكاتب التركي يحيى بستان مقالًا في جريدة يني شفق، منتصف شهر يونيو/حزيران الماضي، تحت عنوان: “قواعد اللعبة تتغير في سوريا – استعدوا للمفاجآت” ذكر فيه أن كلًا من الولايات المتحدة وإيران وروسيا وتركيا احتفظت بتموضعها داخل سوريا الأمر الذي خلق استقرارًا للوضع القائم هناك، وذلك لمدة طويلة.

لكن.. إذا انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، فإن قواعد اللعبة ستتغير، وسيتزعزع توازن الوضع الراهن.

إن مجرد مناقشة هذا الاحتمال، كما يرى بستان، أخل بالتوازنات الراهنة، الأمر الذي دفع الجهات الفاعلة في سوريا إلى الاستعداد لسوريا ما بعد الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يؤدي إلى توترات جديدة ومفاجآت.

فمن ناحية تخشى القيادة المركزية للجيش الأميركي “سنتكوم” من انهيار تماسك الوضع القائم الذي أوجدته واحتفظت به من خلال دعم الفصائل الكردية الانفصالية في الشمال السوري إذا نجحت مساعي التطبيع بين تركيا ونظام الأسد.

أضف إلى ذلك، والكلام لبستان، أن البنتاغون يخشى من تكرار سيناريو الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في سوريا، وبروز الولايات المتحدة في المشهد العالمي مرة ثانية كحليف غير موثوق به.

ومن ناحية أخرى، فإن واشنطن تريد أن تضمن قبل انسحابها من سوريا أمورًا رئيسية عدة يأتي على رأسها أمن إسرائيل، وتأمين اتفاق سلام بين الرياض وتل أبيب، وتحقيق التوازن بين إيران وتحالف عربي بقيادة السعودية وأخيرًا إبعاد نظام الأسد عن إيران والعمل على دمجه مرة أخرى في مظلة عربية بزعامة المملكة العربية السعودية.

إقرأ أيضا : تهور نتنياهو يورط بايدن وإرثه… ويجر المنطقة لحرب واسعة!

وفي إطار مساعي الولايات المتحدة لتثبيت الوضع القائم في الشمال السوري، تبنت القيادة المركزية للجيش الأميركي التي تتولى الإشراف على الملف السوري سياسة جديدة من شأنها إنشاء هيكلية جديدة تدمج حزب العمال الكردستاني في شمال العراق مع أقرانه الأكراد في الشمال السوري، وذلك في كيان أو منظومة عابرة للحدود تحل محل الجيش الأميركي إذا نفذ قرار الانسحاب من سوريا ضمن سياق إستراتيجية البنتاغون الأوسع لمواجهة الصين.

مسار لابدّ منه

لكل هذه الأسباب لم يعد أمام النظام السوري من بديل سوى الانفتاح على تركيا لاستئناف مسار التطبيع معها للحفاظ على استقراره ومحاربة الإرهاب وفقًا للمفهوم التركي بالأخص بعد قيام تركيا بالتنسيق في ملفات أمنية مع بغداد لحصار حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وجبال قنديل، ومن ثم الحيلولة دون تدفّق عناصر الحزب إلى الشمال السوري للانضمام إلى امتداداته هناك، وهو الأمر الذي يصب في النهاية في مصلحة البلدين.

ومع ذلك، يبقى السؤال قائمًا حول مدى إمكانية تحقيق الاختراق المنشود في باقي الملفات بين البلدين، ولعل أهمها ملف اللاجئين والتسوية السياسية والمصالحة السورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى