أمريكا

أميركا أمام خيارين الحمائية أو القيادة

إن شاءت الولايات المتحدة خلال رئاسة بايدن أو أي رئيس آخر أن تظل دولة لا غنى عنها، فالأحرى بها أن تتعلم من تاريخ قانون سموت-هاولي القبيح، وأن تثبت أن هيغل مخطئ، وأن تتصرف مجدداً بقيادية هدفها الخير.

يحبذ الرئيس جو بايدن أن يصف الولايات المتحدة بأنها “دولة لا غنى عنها”، وهو يقصد بذلك أنها القوة الوحيدة التي تتسم بأنها قوية وخيّرة في آن معاً بما يكفي لتحافظ على ما تبقى من النظام الليبرالي، الذي تحكمه القواعد والمؤسسات متعددة الأطراف إلى جانب عناصر أخرى، ويقوم على تجارة وتمويل دوليين حرّين نسبياً.

لكن ماذا لو انقلبت الولايات المتحدة، حتى خلال عهد بايدن، على النظام الذي يُفترض أنها تحميه لتصبح أداةً للقومية الاقتصادية والتشرذم الدولي وبناء تكتلات متعادية؟

برزت شكوك بوقوع هذا خلال حقبة السلام الأميركي، وهي فترة ريادة الولايات المتحدة الطويلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. لكن أكثر ما أرعب حلفاء أميركا خارج البلاد كان تولي دونالد ترمب رئاسة البلاد. كانت رؤية “أميركا أولاً” التي انتهجها ترمب ارتداداً إلى موقف انعزالي كانت عليه الولايات المتحدة في ما مضى.

قانون كارثي

كان قانون سموت-هاولي للتعرفة الجمركية لعام 1930 رمزاً سيئ الذكر لذلك التقليد القديم. زاد القانون، الذي حمل اسم السياسيين اللذين طرحاه، الرسوم الجمركية المفروضة على شركاء أميركا التجاريين، ما زاد من فقر المستهلكين والمورّدين الأميركيين وأغضب المُصدّرين الأجانب.

وكان لحكومات بلدانهم “رد انتقامي”، وهو مصطلح أخرق لأن تلك الحكومات أفقرت مصدريها بدافع النكاية، عن طريق فرض رسوم جمركية على الولايات المتحدة. وهكذا سارت الأمور، إذ نتجت عنها جولة تلو الأخرى من الحمائية المستندة إلى سياسات إفقار الجار التي أججت الكساد الكبير وكذلك العدوانية بين الدول. ولم يكد يمضي عقد حتى دخل العالم في حرب. اليوم، يعتبر مجلس الشيوخ قانون سموت-هاولي “من بين أكثر القوانين كارثيةً في تاريخ الكونغرس”.

سلك قادة الولايات المتحدة نهجاً مختلفاً بعد الحرب بعدما أخذوا تلك الكارثة في الاعتبار، فأنشأت واشنطن، بفضل قدراتها الاقتصادية والعسكرية وقوتها الناعمة التي لا نظير لها، مؤسسات سياسية مثل الأمم المتحدة إلى جانب كيانات اقتصادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، التي تحولت إلى منظمة التجارة العالمية في 1995.

كانت وظيفة تلك الكيانات وضع قواعد التمويل والتجارة، على الأقل في “العالم الحر” (تمييزاً له عن المعسكر الشيوعي) وفي بعض دول حركة عدم الانحياز (أو ما يُعرف بالعالم الثالث).

فورة العولمة

في ظل حماية الولايات المتحدة لهذا النظام، ازدادت تدفقات التجارة ورأس المال وارتفعت بشدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. انتشلت فورة العولمة هذه ملايين الناس إن لم نقل المليارات حول العالم، من الفقر.

لكن كان لذلك تكلفته، إذ كان بعض العمال في دول بينها الولايات المتحدة يخسرون مصادر رزقهم كلما جعلت اقتصاديات الأفضلية النسبية الإنتاج في منطقة أخرى من العالم أكثر كفاءة، أو حين لم تلتزم بعض البلدان بهذه القواعد، لا سيما الصين، رغم انضمامها لمنظمة التجارة العالمية في 2001.

تسببت تلك الإحباطات برد فعل سلبي حمائي في الولايات المتحدة، فقد غضب بعض الساسة والمثقفين من الصين تحديداً، وأرادوا اتخاذ إجراء ضد عدم التزامها بالقواعد، وفي الوقت نفسه الالتفاف على منظمة التجارة العالمية، التي تملك نظرياً آليات لتسوية مثل تلك الخلافات.

كما شعر آخرون، وخصوصاً ترمب، بالغضب تجاه كل شركاء أميركا التجاريين تقريباً، خاصة إن كانت الولايات المتحدة تواجه عجزاً في ميزان المعاملات التجارية معهم، مثلما هو الحال مع ألمانيا.

على نهج ترمب

ما إن تولى ترمب الرئاسة حتى سار على نهج قانون سموت-هاولي. فرض ترمب رسوماً جمركية على الصلب والألمنيوم الواردَين من دول كثيرة، وعلى المنتجات الصينية من الملابس والأحذية إلى الأثاث والإلكترونيات، بل وحتى على منتجات أوروبا ودول أخرى تعتبر نفسها صديقة للولايات المتحدة.

كانت المفاجأة الكبرى هي الخطوات التي اتخذها بايدن حين أصبح رئيساً، فبدل أن يعيد سياسةً تجاريةً ليبراليةً تتماشى مع سمعته في دعم التعاون الدولي، أبقى بايدن على الرسوم التي فرضها ترمب، بل وأضاف عليها. فرضت الولايات المتحدة هذا الشهر جولة جديدة من القيود على المركبات الكهربائية والألواح الشمسية الصينية ومنتجات أخرى.

في ما يخص التجارة، يتنافس الآن ترمب وبايدن على الرئاسة ويتمسك كل واحد منهما بجوانب من النهج الحمائي ذاته، إذ يعِد ترمب بإقامة حواجز تجارية ضخمة لتحيط بمعظم الاقتصاد، فيما يعِد بايدن فقط بإقامة حواجز تجارية حول قطاعات معينة، وهو نهج تسميه الإدارة “حديقة صغيرة سورها عالٍ”.

سياسات بايدن

إن في النظر إلى الرسوم الجمركية والحصص وغير ذلك من الحواجز التجارية تقليلاً من قدر التحول القومي في سياسات الولايات المتحدة الاقتصادية. يفخر بايدن على نحو خاص بسياساته في القطاع الصناعي، التي أتت عبر حزم تشريعية ذات مسميات مضللة مثل قانون الرقائق والعلوم الأميركي أو قانون خفض التضخم، وهي عبارة عن دعم ضخم للشركات الأميركية.

كما هو الحال مع الرسوم الجمركية، ترد الدول الأوروبية والآسيوية بسياسات صناعية انتقامية. قال آدم بوزن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: “لدينا حرب دعم، وهي أسوأ من الحرب التجارية، وذلك لأن التراجع عن الدعم أصعب”.

كما واصل بايدن السير على نهج ترمب بطريقة أخرى مثيرة للقلق. يحط بايدن من شأن منظمة التجارة الدولية عبر عرقلة المرشحين لمحاكم الاستئناف التابعة لها، وبالتالي تخريب النظام التجاري متعدد الأطراف بأكمله. عوضاً عن ذلك، يراهن بايدن على الصفقات التجارية ثنائية الأطراف والإقليمية، أملاً في احتضان الأنظمة الديمقراطية وصدّ المستبدة.

يبين ماثيو بوروز وروبرت مانينغ في مركز “ستيمسون” (Stimson Center)، أن التجارة والتمويل ينقسمان إلى تكتلين متنافسين يناصبان بعضهما بعضاً العداء باضطراد، أحدهما يتمحور حول الصين ويمتد حتى “دول الجنوب العالمي” والآخر يتمحور حول الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. يعتقد الاثنان أن ذلك الاتجاه “سيرفع من احتمالات الصراع” كما يعيد إلى الأذهان حقبة ثلاثينيات القرن الماضي.

الأمن أهم من الأسواق

ردّ دفاع إدارة بايدن، بل التوافق الجديد في واشنطن برمته، هو أن الأمن أهم من الأسواق في هذه الحال التي تشبه حرباً باردةً مع الصين، كما كان الحال في الحرب الباردة الأصلية مع الاتحاد السوفيتي، وهذا صحيح بدرجة ما. سيكون من السذاجة والخطورة أن تعتمد الولايات المتحدة وحلفاؤها على الليثيوم والديسبروسيوم وأشباه الموصلات من الصين مثلاً تحت شعار التجارة الحرة.

لكن هل الصلب فعلاً أحد التقنيات الحساسة ذات “الاستخدام المزدوج”؟ هل تندرج الألواح الشمسية ورافعات نقل الحاويات من السفن إلى الشاطئ وأقنعة الوجه وكثير من المنتجات الأخرى في أحدث قوائم بايدن للمستوردات التي تُفرض عليها الرسوم الجمركية؟

في جميع الأحوال، ينبغي أن تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها، بلغة التوافق الجديد في واشنطن، على “إزالة المخاطر” في علاقاتها مع الصين. لكن ما تزال هناك شكوك بأن الولايات المتحدة، على كلا الجانبين والحملتين الانتخابيتين، قد تحولت للحمائية.

دروس التاريخ

إن كان الأمر كذلك، فإن لذلك التحول تداعيات مخيفة على اقتصاد العالم والسلام العالمي. تفترض نظرية استقرار الهيمنة، التي تطرح فكرة أن العالم بحاجة إلى قوة حامية للحفاظ على النظام والرخاء، أن الدولة صاحبة الريادة في العالم ليست فقط قوية بما يكفي لكنها أيضاً على استعداد لأن تستغل قوتها في الحفاظ على نظام ليبرالي.

قال بوزن، رئيس معهد بيترسون: “الأمر يتعلق بالهيمنة الطيبة أو الخبيثة، ليس السؤال هل لدى الولايات المتحدة هذه القدرة؟ بل هو: ماذا تنوي أن تفعل؟”

قال الفيلسوف جورج فريديريش هيغل إن التاريخ يبيّن أن “الشعوب والحكومات لم تتعلم أي شيء على الإطلاق من التاريخ”. إن شاءت الولايات المتحدة خلال رئاسة بايدن أو أي رئيس آخر أن تظل دولة لا غنى عنها، فالأحرى بها أن تتعلم من تاريخ قانون سموت-هاولي القبيح، وأن تثبت أن هيغل مخطئ، وأن تتصرف مجدداً بقيادية هدفها الخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى