“فنسنت جوزيف فان فوسل” المعروف في الأوساط المسيحية العراقية تحت أسم الأب “منصور المخلّصي” هو راهب بلجيكي كرس نفسه لخدمة الكنيسة في العراق قرابة ستين عاما خصبة بالتحولات السياسية والإجتماعية العنيفة.
منذ عام 1965 وحتى اللحظة الراهنة في عام 2024 رهن الأب “منصور المخلّصي” روحه لبلاد ما بين النهرين، وتعلق بها، بصحرائها ومدنها القديمة، بعمارتها وشوارعها، بفنها وإيقوناتها، وقبل كل شيء بمواطنيها ومؤمنيها. عاصر خلال أقامته الطويلة في العاصمة وتنقله عبر ارجاء البلاد، تحولات الأنظمة السياسية المتعاقبة، والثورات والانقلابات والحروب والحصار الاقتصادي والغزو الأميركي والحرب الطائفية وغزو داعش للعراق. والان على مشارف العقد التاسع من عمره يتمنى ان يدفن في بغداد، ووصيته الأخيرة: ان يموت “عراقيا”.
ولد الأب المخلّصي في 11 تموز 1935 في مدينة أنتويرب على بضعة كيلومترات من الحدود الهولندية وعلى مسافة 88كم من بحر الشمال، وهي عاصمة مقاطعة انتويرب في الإقليم الفلامندي في بلجيكا. بدأ عصر هذه المدينة الذهبي منذ أن صارت ميناءً للمملكة البلجيكية الناشئة عام 1839م، واحتلها الألمان في الحربين العالميتين وحررتها القوات الإنكليزية من النازيين عام 1944م عندما كان عمر المخلّصي تسع سنوات.
انضم الأب منصور الى رهبانية المخلص الاقدس وأصبح من الآباء المخلّصيين، وهي رهبانية يعود تاريخ نشأتها الى القديس الفونس دي ليغوري الذي سكن في سنة ١٧٣٢ مع رفقة آخرين في قرية جبلية واقعة في جنوب ايطاليا تدعى سكالا طلبا للهدوء والراحة. وكانت هذه القرية المرتفعة وسكانها المسيحيون الجبليون بعيدون عن المعرفة الكافية بالمسيحية، إذ نادرا ما يحظون بزيارة كاهن، لذلك قرر القديس الفونس العودة اليها لاحقا بمعية كهنة أخرين، وبالتحديد بتاريخ ٩ تشرين الثاني سنة1732 للوعظ والتبشير (للكرازة بالإيمان للنفوس المهملة في القرية الجبلية). وفي هذا اليوم ظهرت الى الوجود رهبانية المخلص الاقدس.
ولكن، ما المسار الروحي والمعرفي الذي دفع هذه الطفل البلجيكي أن يغادر المدينة الأوربية التي تعد عاصمة الألماس في العالم، ويكرس نفسه للصحراء والنخيل في ميزوبوتاميا.؟. ان رواية هذا المسار جديرة بمشاركتها مع الجمهور الواسع من العراقيين الذين لم يسمعوا باسم هذا الراهب ورحلته الروحية، وهي مثال أخر على القصص التي يزخر بها التاريخ العراقي وتتعرض للنسيان بسبب عدم توثيقها. وقد ارتبطت هذا المسار بنشاط الآباء المخلّصيين في الشرق الأوسط ووصولهم الى المنطقة في أعقاب المذابح التي أرتكبت ضد مئات الأف من المسيحيين من آلاشوريين والسريان والكلدان، أي المؤمنين من اتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وكنيسة المشرق، أو الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في ظل الدولة العثمانية اثناء وبعد الحرب العالمية الأولى في المناطق الشرقية من الدولة العثمانية، والمناطق المجاورة من بلاد فارس (الدولة القاجارية) بالتزامن مع الإبادة الجماعية للأرمن واليونانين البونطيين.
يطلق على هذه الجريمة تسمية مذابح سيفو (نسبة إلى طريقة القتل، إذ إنّ كلمة سيفو السريانية تعني السيف)، التي أرتكبتها قوات عثمانية نظامية، بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية، وفضلا عن الضحايا، نزح عشرات الأف من اتباع هذه الكنائس مع عشرات الأف من الأرمن الى ايران وسوريا والعراق. وفي شمال سوريا على ضفاف نهر الخابور توزعت على اكثر من خمسين قرية صغيرة جماعات النازحين وصل عددها الى قرابة عشرة الأف نسمة من الآشوريين والكلدان مواجهين صدمة ما بعد المذابح. وكرسوا أنفسهم بعد سنوات التكيف مع البيئة الجديدة، لزراعة الأرض وبناء قدرات مجتمعهم الصغير الناجي من الإبادة الجماعية من جديد. وبعد ما يزيد على عقد من الزمن أصبحت حاجتهم ماسة الى مزيد الاستقرار النفسي والاجتماعي والروحي من خلال وجود المدراس والمستشفيات والكنائس.
بتاريخ 1 شباط سنة ١٩٥٢ طلب مجمع الكنائس الشّرقيّة من الآباء المخلّصيين عددا من الرهبان ليقوموا بالخدمات الروحية للآشوريين والكلدان الساكنين بجوار الخابور. وأخذ اقليم الرهبنة البلجيكي (الذي ينتمي اليها الشاب البلجيكي “فنسنت جوزيف فان فوسل”) على عاتقه ارسال هؤلاء الآباء الى هذا المجتمع المسيحي المشرقي الصغير. وتم تعين الأب (موريس ديماريه) رئيسا لمجموعة الرهبان الجديدة، وكان اول مساعد له هو الأب (حنا براتس) على أن يلحق بهما اخوة أخرون حسبما تدعو الحاجة، وتطلبت منهم المهمة الإلتزام بتبني الطقس الكلداني، فسافر الأبوان في 3 تشرين الثاني سنة ١٩٥٢ الى باريس لتعلم اللغة والليتورجيا الكلدانية على يد الخوري (عبد الاحد دهان).
بعد اتمامهم هذه المهمة، تعين عليهم تعلم اللغة العربية لتواصل مع جمهور المؤمنين في الشرق الأوسط، لذا انتقلا في عام 1953 الى لبنان، وبالتحديد إلى بيت الدراسات العائد إلى الآباء اليسوعيين في بكفيا لتلقي اللغة العربية على أصولها. في هذه الفترة أصبحا قريبين جغرافيا على المجتمع الصغير الذي سيكرسان أنفسهم لخدمته، وحاولا الإنكباب ليل نهار على الكتب لتعلم المزيد عن المنطقة وتاريخها وذاكرتها، وكانا يلتقيان بالمطران نعمو المسؤول الكلداني في المنطقة، وزارا قرى الخابور لتقدير الحاجات وترتيب الأولويات.
بعد حصول ثورة الجنرال عبد الكريم قاسم التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق 1958، وثورة الشواف في الموصل 1959، هاجر العديد من الكلدان من قرى نينوى شمال البلاد الى العاصمة بغداد، لتصبح العاصمة المنطقة الأكثر تركزا من حيث عدد المسيحيين بحلول ستينيات القرن الماضي.. وبعد انتقال رئاسة الطائفة إلى بغداد ممثلة بشخص (بطريرك بابل على الكلدان) وانتقال مقر البطريركية الكلدانية في عام 1960 من الموصل الى بغداد، اشترت رئاسة الطائفة العديد من قطع الأراضي في مناطق مختلفة من بغداد، وقامت بتشييد الكنائس والأديرة الحديثة عليها لخدمة الطائفة المتنامية الحجم. وفي حين لم تكن العاصمة بغداد تضم وجودا كثيفا للطائفة الكلدانية حتى الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن العشرين، أصبح واضحا وبالتدريج حجم هذه الطائفة في العاصمة، مع تشييد مدن جديدة شكل المسيحيون غالبية سكانها.
في شهر تشرين الثاني 1958 تم انتخاب المطران (بولس شيخو) بطريركا للكلدان، وكان على احتكاك مع الآباء المخلّصيين عندما كان مطران حلب (قبلها كان مطرانا لعقرة). وبفضل وجوده في سوريا تابع المخلّصيين عن كثب. لذا، وجه البطريرك الجديد رسالة الى الأب ديماريه بعد عام من انتخابه يطلب فيها معلما للمعهد الكهنوتي في بغداد، وهكذا تقاطر الآباء المخلّصيين الى بغداد للتدريس (منهم الأب ديماريه نفسه). في البداية اعطى اثنان منهم دروسا في العام الدراسي 1960-1961، وبعدها في عام 1964-1965 أقبل اخرون كان منهم الأب الشاب منصور المخلّصي الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عاما وقتذاك. اعطى المخلّصي الشاب في البداية دروسا في السيمنار الكلداني 1965-1970. ثم أصبحت مهامه تتنامى وتعلقه بالبلد يزداد، لا سيما بعد رحيل الآباء المخلّصيين تباعا، إذ توفي الأب ديماريه في بداية عام 1974 ودفن في مقبرة راهبات التقدمة في بغداد، وقبله بأربع سنوات توفي الأب براتس في عام 1970.
بقي عدد قليل من الآباء المخلّصيين، لا يتجاوز ثلاثة، كرسوا انفسهم للعمل في حقل التعليم المسيحي والخدمة في المعهد الكهنوتي في الدورة ببغداد. ورحلوا تدريجيا عن الحياة بسبب التقدم في السن. ويعد الأب منصور المخلّصي أخر شخصية على قيد الحياة من المجموعة، بعد أعوام طويلة من التدريس في النصف الأخير من ستينات القرن الماضي، ثم التزامه اللاحق بتعليم التفسير الكتابي في معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل، مرورا بالتدريس في كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت (في منطقة الدورة سابقا وفي عينكاوه حاليا). وصولا الى عام 2000 حيث عين راعيا مسؤولا عن الروم الكاثوليك في بغداد من قبل البطريرك الملكي (غريغوريوس الثالث لحام).
بعد تفجير كنيسة الروم الكاثوليك في بغداد بهجوم أرهابي عام 2004 قام الراهب المخلّصي بتجديد الكنيسة على حسابه، ثم أشرف من داخل هذه الكنيسة على مركز الدراسات المشرقية قدم فيه دروسا تشجع على الحوار والتفاهم بين مكونات المجتمع المتنوعة، ونظم زيارات للاماكن الأثرية في البلاد، منها زيارة رافقته فيها الى كنيسة كوخي 35 كلم جنوب مدينة بغداد، والتي تعود للقرن الأول الميلادي، وتعد الكنيسة الأقدم في الشرق الأوسط (أكتشفتها بعثة آثارية المانية عام 1929). وفي سياق هذا العمل المتواصل لعقود طويلة ألف الأب المخلّصي 30 كتابا بالعربية حول موضوعات تراثية وفلسفية وطقسية وفنية.
يعد مركز الدراسات الشرقية الذي يشرف عليه الأب المخلّصي استمرارا لحلقة الآباء والطقوس التي تأسست على يد المرحوم الدكتور(يوسف حبي) رئيس المجمع العلمي العراقي، والتي كانت تنسق برامجها مع كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت. استمرت هذه الحلقة لمدة 15 عاما ومن دون انقطاع بالرغم من التحولات العنيفة التي شهدتها البلاد منذ الغزو الأميركي عام 2003. وفي عام 2013 تم قبول مركز الدراسات المشرقية ضمن برامج كلية بابل الحبرية في مرسوم بطريركي من قبل البطريرك (روفائيل الأول ساكو) عام 2013، مع منح شهادة دبلوم في الدراسات الشرقية. وتقع أهمية المركز من وجهة نظري في هدفه المتمثل في تعزيز تجذر المواطن العراقي المسيحي في حضارات وادي الرافدين وحضارات المنطقة بشكل عام. والتشديد على التقاليد المسيحية العربية والسريانية والأرمنية، والآثار الفنية والشعبية الشرقية.
لذا، فإن منح الأب منصور المخلّصي الجنسية العراقية وتحقيق وصيته بأن يموت عراقيا ويدفن في البلد الذي كرس حياته من أجله يعد التزاما أخلاقيا على الحكومة العراقية. وقد نقلت بنفسي طلب الراهب المخلّصي لنيل الجنسية العراقية الى حكومتين عراقتين متتاليتين، وسلمته شخصيا بيد أربعة من مستشاري هاتين الحكومتين، لكني لم أتلقى ردا إيجابيا او سلبيا طوال أربعة أعوام متتالية، ما دفعني الى تقديم الطلب للمرة الثالثة -عبر وساطة-الى معالي وزير الداخلية العراقي. د حال عائق إداري اجراءي دون استكمال أوراق تجنس الأب منصور. إذ منعته ظروف صحية حالت دون أن يستكمل بعض الإجراءات الإدارية او يتخلف عنها لنيل الجنسية العراقية، والتي من الممكن تخطيها نظرا لتاريخ خدمة هذا الراهب المخلص للعراق ولمواطنيه. وذلك على الرغم من إنه تقدم بطلب نيل الجنسية العراقية عملا 26 أ من قانون الجنسية 26 لسنة 2006 بوساطة ديوان أوقاف المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين في جمهورية العراق تحت رقم 20-6 في 14 نيسان 2021.
وتمت مخاطبة مديرية الجنسية في وزارة الداخلية واكتملت المعاملة في قسم التجنس (الإضبارة 731 في 26-5-2021). وأجريت له الفحوص الطبية في مدينة الطب، وصدرت الكتب الأخرى المطلوبة من الأوقاف ومن التسجيل الجنائي. غير إن المعاملة توقفت في مديرية الإقامة (قسم أوربا الغربية-رقم الاضبارة 12) بسبب وجود غرامات تأخيرية بسبب تأخره في تجديد الإقامة سنة 2020-2021. لكن تأخره لم يكن إراديا، إذ أصيب بفايروس كورونا أنذاك، مع إنه بعد التعافي مباشرة راجع دائرة الإقامة لإكمال الأوراق اللازمة. لكن مديرية الإقامة أعلمت مديرية الجنسية-قسم التجنس بالرفض لهذا السبب.
لذا، نلتمس اليوم من الحكومة العراقية إعادة النظر في قضية الأب منصور المخلّصي، وتكريمه في أيامه الأخيرة بمنحه الجنسية العراقية، بعد عقود طويلة كرسها لخدمة بلده الرافديني الذي ينتمي اليه روحيا.