أمريكا

أمريكا ضد أمريكا.. الوجه الآخر للانتخابات المقبلة

نتائج الانتخابات المقبلة ستشكل مستقبل أمريكا لمرحلة طويلة مقبلة، وسترسم ملامح جديدة للسياسة العالمية يبقى الثابت الوحيد فيها هو استغلال العالم لمصلحة الأمريكيين،

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، تحول جيمس فانيس لمناصرة الحزب الجمهوري، ليترك سنوات طويلة من الانتماء إلى المعسكر الديمقراطي، كان غاضبا مثل كثيرين غيره من الطبقة العاملة من النزعات الجديدة المتفشية بين الديمقراطيين، الذين أصبحوا يمثلون الكثيرين، على أسس جندرية، أو عرقية وتركوا خلفهم الطبقات الفقيرة المهمشة، بل أصبحوا يتخذون مواقف مضادة لعاداتهم وتقاليدهم الأسرية والعصبوية، ويعتبرونهم الحثالة البيضاء التي تعيش في حياتها الرتيبة والهادئة، بعيدا عن تفاعلات المدن الكبرى وشؤونها الدرامية وذلك التوتر العظيم الذي يصنع الفعل السياسي.

ما الذي كان يتخيله جيمس فانيس بخصوص حفيده جي. دي؟ في الفضاء الاحتمالي الذي تعززه الإحصائيات المتعلقة بالأطفال مثل، جي.دي. فانيس، ولواقع حياة الحفيد الفقيرة، في رعاية والدته مدمنة المخدرات، فأقصى الاحتمالات أن يحصل على وظيفة شرطي في مدينة صغيرة في ولايته، وأكثرها احتمالية أن يتنقل بين وظيفة وأخرى في متاجر التجزئة، وشقيقة فانيس الكبرى حظيت بهذه النوعية من الحياة، ومهما كانت السيناريوهات، التي ربما خطرت في مخيلة الجد، فالمؤكد أنه لم يكن من ضمنها أن يصبح جي. دي. فانيس عضوا في الكونغرس، ومرشحا لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة.

أتى اختيار ترامب لفانيس ليمثل (ضربة معلم) فالشاب الذي سيصل إلى عمر الأربعين، سيحمل على عاتقه صياغة مشروع ترامب على المستوى الداخلي، من خلال خطوات عملية تتقاطع جميعها في مصطلح الطبقة الوسطى الكسولة سياسيا، التي بقيت لسنوات طويلة تعيش معادلة التأثير على التوجهات السياسية، والغاية النهائية عند ترامب، التي تتناسب مع قناعات فانيس هي، المزيد من الوظائف والوظائف والوظائف، وبعبارة أخرى، تمكين هذه الطبقة من الاستمرار في حلمها الأمريكي. فانيس كان من أكثر الجمهوريين عداءً لترامب، ووصفه بهتلر الأمريكي، والبذيء الأحمق، ولكن توجهات ترامب للانقلاب على المنظومة الاقتصادية ووجوهها التجارية، ومقارباته لاستعادة الزخم الصناعي في أمريكا قوض المسافة بين فانيس الخجول وترامب الوقح.
في المقابل، تأتي كمالا هاريس لتمثل أمريكا الأخرى، الشوارع الخلفية للحلم الأمريكي، التي أخذت من الستينيات من القرن الماضي في الاستفادة من سياسات التحيز الإيجابي لمصلحة الفئات المهمشة مثل السود واللاتينيين، والمتسقة مع القضايا النسوية والجندرية المختلفة، ومقابل الأم المدمنة ذات نزعة التدمير الذاتي والأب الغائب لدى فانيس، تقدمت كمالا على أكتاف الأب الأكاديمي في جامعة ستانفورد، والأم عالمة البيولوجيا المرموقة. لأجيال متلاحقة عاشت عائلة فانيس في الريف الأمريكي والحزام الصناعي في منطقة البحيرات، وهي فئة ألقيت في البطالة أو الأعمال الهامشية تباعا لمصلحة الاستثمار في الدول رخيصة العمالة، بينما جاء والد كمالا الجمايكي، ووالدتها الهندية إلى الولايات المتحدة قبل أقل من سبعين سنة، وكان طبيعيا أن تتقدم ابنتهما في دراستها ومسيرتها المهنية، من غير منغصات القروض الدراسية، أو البحث عن سكن صغير في محيط الجامعة.
نموذجان كلاهما أمريكي تماما، حسب تأويله للحلم الأمريكي، يتصادمان في مرحلة حرجة وظروف معقدة، والغاية ظاهريا واحدة، الوصول إلى البيت الأبيض، وحدث ذلك مرارا كثيرة في الماضي، ولكن هذه المرة مختلفة، لأن أصحاب الأعناق الحمر كما تشيع التسمية التحقيرية في المجتمع الأمريكي، يعودون ليطرحوا أنفسهم بوصفهم كتلة صلبة لا تكتفي بالناجين، الذين يذهبون إلى المدن ليندمجوا في عوالمها ويخضعوا لشروطها، وفي المقابل، يتطلع اليسار الهوياتي الذي يركز على قضايا الأقليات والفئات المختلفة التي تعبر عن التنوع والتعدد لإحراز خطوة أبعد مما حققه مع الرئيس باراك أوباما كأول رئيس أسود لأمريكا.

إقرأ أيضا : أذن ترمب وأذان مكبرات غزة

فانيس الصلب الذي سافر إلى العراق بعد الدراسة الثانوية ليجني بعض المال يمكنه من الالتحاق بجامعة أوهايو العامة، يرى العالم من منظور طبقته، فعند حديثه عن العلاقات الخارجية للولايات المتحدة، كان يحيل جميع الملفات مثل أوكرانيا والشرق الأوسط إلى خدمتها لمصالح الطبقة الوسطى وانسجامها مع عقائدها. كان ترامب في الانتخابات السابقة وأمام انتفاخه بذاته، يفتقد لشريك يمكن التعويل عليه ليعبر الخط الفاصل في شخصيته، بين رجل الاستعراض والقائد السياسي، وفي حال تمكنه من الفوز بالانتخابات فإن ذلك سيفتتح عصرا جمهوريا ممتدا، لأن الديمقراطيين لا يمتلكون تلك الشخصية العقائدية المتماسكة أمام توزعهم بين تراث آفل للدفاع عن حقوق الطبقات الفقيرة، والتيه الطويل في قضايا المهاجرين والأقليات والجندر، لدرجة الإفراط في الطروحات التي أعطت هذه الفئات حقوقا مبدئية.

ما الذي يعنيه فانيس للشرق الأوسط، وهل يوجد خلاف جوهري في المؤسسة الأمريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين في هذه المسألة؟ إلى حد بعيد، يرى رجل مثل فانيس التورط في العراق وأفغانستان استثمارات فاشلة، وليست لديه أي مشكلة في أنظمة الحكم السائدة وأي سلوكيات استبدادية، وهو ليس مختلفا عن ترامب في هذه القضية، بما يعني أن تأثيره في الملفات الخارجية سيكون محدودا وغير متعارض مع توجهات ترامب، التي ستسعى إلى تسوية صادمة توضع على الطاولة بصورة فوقية، مع الاستعداد للتنازل لروسيا عن الملف الأوكراني بالكامل. هل يعني أن هاريس ستكون مختلفةً وستمثل فرصة للمنطقة، وخاصة ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ وفقا لما نراه ونتابعه، فالكلمات اللطيفة والتعبيرات الإنسانية تفقد أي قيمة على الأرض، وتصبح ترفيها وتعويضا نفسيا للسيدة التي تحصلت على تدليل المظهرية السياسية للديمقراطيين في مسيرة تمثل تأويلهم الخاص للحلم الأمريكي.

نتائج الانتخابات المقبلة ستشكل مستقبل أمريكا لمرحلة طويلة مقبلة، وسترسم ملامح جديدة للسياسة العالمية يبقى الثابت الوحيد فيها هو استغلال العالم لمصلحة الأمريكيين، والاختلاف يكمن في الأدوات بين خشنة وناعمة، بين قبضة فانيس الخشنة وأظافر كمالا المصبوغة بعناية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى