“أعطني إعلامًا بلا ضمير، أُعطك شعبًا بلا وعي”
بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 زاد الخطاب التحريضي كيل بعير، عندما اختزل المشهد العام في أنَّ الذين يساندون القوات المسلحة وينادون باستمرار الحرب بأنهم "الكيزان" و"فلول" النظام القديم، والذين يرفعون شعار "لا للحرب" بأنهم "القحاتة" وأنصار قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة.
بول يوزف غوبلز (Paul Joseph Goebbels)، سياسي ألماني (1897-1945)، شغل منصب وزير الدعاية النازية في حكومة أدولف هتلر (1889-1945) أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وكان يتمتع بمهاراتٍ خطابيةٍ فائقة وقدراتٍ استثنائيةٍ في تحريك الشارع العام؛ إلا أن خطبه التعبوية افتقرت إلى القيم الأخلاقية، لأنها استندت إلى إحدى مقولاته التأسيسية: “أعطني إعلامًا بلا ضمير، أُعطك شعبًا بلا وعي.” فلا غرو أنَّ مثل هذا الخطاب الدعائي الفاقد للمصداقية يسود في أوقات الأزمات السياسية والعسكرية، ويصرف العقلاء عن جذور المشكلات الحقيقية، ويفسح المجال لمروجي الدعايات الفاسدة، الذين ينطلقون من مذهبيات مغلقة وذاهلة عن مقاصد الأشياء، فتجد تلك الخطابات ضالتها في البيئات ذات المناسيب العالية من الجهل والأمية. ونتيجة لذلك يبتعد شركاء المصلحة عن القضايا الكلية، التي تحتاج إلى معالجات جذرية-مستدامة، ويصبح الرأي العام منشغلاً بتنميط الآخر تنميطاً سطحياً، قوامه خطاب الكراهية والاصطفاف الحزبي أو القبلي الأعوج.
يرى الناظر في الساحة السودانية بإمعانٍ وتجردٍ أنَّ أنماط هذا الخطاب التحريضي المختزلة قد ظهرت بجلاء أثناء ثورة ديسمبر 2018، وبعد إسقاط الرئيس عمر البشير في 11 أبريل 2019، وأثناء عملية التفاوض لوضع لبنات الفترة الانتقالية. وقد استشهد البروفيسور محمد الحسن ود لبات بنماذج منها، مثل اتهام بعض قيادات قوى الحرية والتغيير لقادة منظومة الدفاع والأمن (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية) بأنهم و”كلاء للنظام” القديم، وعملاء “يأتمرون بأمر القوي الأجنبية”، و”أعداء حقيقيون للشعب، لا تربطهم به وشائج الدم، وليس لديهم أي شعور بالتعاطف معه. إنَّ الجلوس معهم على طاولة المفاوضات يعتبر خيانة للثورة وإساءة إلى أرواح الشهداء.” (السودان على طريق المصالحة، ص 94) وعلى الضفة الأخرى، اتهم بعض العسكريين ومناصريهم قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير بأنها “مجرد حثالة من المرتزقة الأجانب، ومن مدمني المخدرات، ومن المغامرين، يتخذون لبوس الشيوعيين، والناصريين، والبعثيين، والديمقراطيين، والوحدويين، والوسطيين، والمتمردين على الدولة الخارجين على القانون، ومن أحزاب بالية عفا عليها الزمن، ولم يعد لها مكان إلا في متحف التاريخ.” وفعلاً قد صدق حدس ود لبات أن الخطاب التحريضي الذي أشار إليه قد قاد البلاد إلى الانزلاق في “مهاوي الفوضى المدمرة.” (السودان على طريق المصالحة، ص 95).
وبعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 زاد الخطاب التحريضي كيل بعير، عندما اختزل المشهد العام في أنَّ الذين يساندون القوات المسلحة وينادون باستمرار الحرب بأنهم “الكيزان” و”فلول” النظام القديم، والذين يرفعون شعار “لا للحرب” بأنهم “القحاتة” وأنصار قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة. وفي وسط هذا الخطاب التضليلي راجت عبارات مختزلة كثيرة، مثل “بل بس” و”جغم بس”، والقضاء على “قيادة دولة 1956″، وأبعاد أبناء الشريط النيلي” من مركز السلطة، وأقصاء “أبناء الغرب” المساندين للدعم السريع من الولايات الشمالية الآمنة. ونتج عن ذلك سلسلة من الصراعات الهامشية والتحالفات الآنية، التي أبعدت الحادبين على مصلحة البلد عن مناقشة جذور الأزمة المزمنة التي قادت إلى الحرب، واقعدتهم عن التصدي للأسئلة الجوهرية: كيف تُوقف الحرب المدمرة؟ وكيف يعوض الذين احتلت قوات الدعم السريع منازلهم ونهبت ممتلكاتهم؟ وكيف تعالج قضايا حقوق المواطنة المتساوية في سودان ما بعد الحرب، وإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والديني، ووحدة الجيش السوداني وإعادة تأهيله، وحل المليشيات العسكرية باختلاف مسمياتها، وتداول السلطة ديمقراطياً، وتحقيق التنمية المتوازنة، ومعالجة مشكلات الفقر والجهل والمرض.