تتزاحم أرقام الجرائم والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتتعدد أشكالها وأنواعها. لكن يبقى الطفل الفلسطيني في غزة القاسم المشترك الأعظم في جميع هذه الجرائم، التي لم تشهد البشرية مثلها منذ عقود طويلة.
وما يبدو غريباً عن السلوك البشري والإنساني هو مفاخرة جنود جيش الاحتلال وتباهيهم بعدد الأطفال الذين تم قتلهم، بحسب ما صورته بعض الفيديوهات التي نشرها أفراد من هذا الجيش، أو ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية، بيد أن ما يقلل من شأن هذا الاستغراب والاستهجان هو ما يؤمن به وما يدعو إليه المتطرفون المتدينون الملتزمون بالتفسير التوراتي الزائف، من وجوب قتل الأطفال في بطون أمهاتهم؛ لأنها وفقاً لتفسيرهم – أي الأم الفلسطينية- ستلد إرهابياً، وهذا ما عبر عنه الباحث الإسرائيلي إلياهو يوسيان في حديث له مع القناة الثانية عشر العبرية.
وفي السياق ذاته ما صرح به الوزير المتطرف الفاشي سموتريتش من ضرورة تجويع مليوني فلسطيني حتى الموت، وما سبقه إلى ذلك وزير التراث النازي عميحاي إلياهو، الذي طالب نتنياهو باستخدام السلاح النووي للتخلص من الفلسطينيين بوصفهم وحوشا بشرية.
إن حقيقة استهداف الأطفال في كل غارةٍ جوية سواءً بطائرةٍ حربية أو بمسيّرة، لا يحتاج إلى إثبات؛ لأن هذا النوع من الطائرات مجهز بمعداتٍ وأجهزةٍ أمريكية فائقة الدقة، تكشف عن نوع الأهداف، سواءً أفراد أو معدات أو غير ذلك، وتحدد إذا ما يوجد أطفال أم لا.
إن بقتلهم الأطفال يقتلون المستقبل، ويقتلون الأمل القادم، ويبيدون من سينهي وإلى الأبد المشروع الصهيوني التوسعي الإحلالي والإجلائي العنصري.
إن قادة الإجرام الصهاينة يقتلون بناة الحياة القادمة.. يقتلون صنّاع الحرية وتقرير المصير. والصهاينة يدركون تماماً ما يقترفون من جرائم، عن سبق إصرارٍ وتصميم.. إنه الخطر القادم إليهم ليس من الشرق، بل من غزة العزة والكرامة؛ التي ما زالت عصيةً على الركوع ولفظ أنفاسها الأخيرة، كما يخططون ويرغبون.
إن أطفال غزة وإن تنوع قتلهم وإبادتهم أفراداً أو جماعات، ما برحوا يتنفسون أوكسجين المقاومة، ويتوعّدون قاتليهم بالهلاك. مازالوا يحملون حلم الحياة وإن جاعوا أو عطشوا. مازال الرّضع قادرين على التنفس، وإن نفد الأوكسجين من حواضنهم. ومازال الأجنة في بطون أمهاتهم ينتظرون اليوم الموعود، ولحظة الخروج إلى الحياة المليئة بما لا يتوقعون.
أطفال غزة لا يموتون ميتةً عادية مثل سائر أطفال العالم.. أطفال غزة يموتون، بل يقتلون، بقذيفة الـ2000 رطلاً الأمريكية، التي أرسل منها بايدن 14000 قذيفة؛ ليُشبع بهم نهم قادة الكيان وشراهتهم لقتل الأطفال وإبادتهم، بعد أن ادّعى زوراً وبهتاناً أنه أوقف شحنة تصديرها واستبدلها بعيارٍ أخف وزناً.
أطفال غزة يموتون على مقاعد الدراسة في خيم النزوح؛ بعد أن دُمّرت مدارسهم وباتت المقاعد والخيم قبوراً لأشلائهم المتناثرة. أطفال غزة يموتون حرقاً بقذائف المسيّرات ومدفعية الدبابات والصواريخ «الغبية»، ولا يستطيع آباؤهم، إن بقي هؤلاء أحياء، التعرّف عليهم، وإن كُتبت أسماؤهم على أجسادهم.
أطفال غزة يموتون جسداً بلا رأس، دون أن يكترث العالم لهذه الجرائم، سوى ذاك البرلماني الأيرلندي الذي بكى وأبكى الكثيرين من أصحاب الضمائر الحية من هول ما رأى.
أطفال غزة يموتون في طوابير انتظار شيء من طعامٍ، فتقصفهم طائرات التجويع والتعطيش، ورصيف منع المساعدات، ومعابر الموت المغلقة.. أطفال غزة وليس فقط الطفلة هند يموتون في سيارات الإسعاف وآخر كلماتهم هي كلمات هند ذاتها «بطخوا علينا رصاص..آه ..آه…». أطفال غزة يقارعون الموت تحت أنقاض منازلهم التي قصفتها طائرات أف 16 و15، وكأن كل طفل منهم قلعةً حصينة أو نفقاً منيعاً.
اقرأ ايضا| إسرائيل تحاول هندسة قطاع غزة جغرافيًا وديموغرافيًا وسياسيًا
أطفال غزة يؤثرون على أنفسهم ويرجون رجال الدفاع المدني أن يخرجوا الجد أو الجدة.. الأب أو الأم من تحت الأنقاض قبلهم. أطفال غزة يُقتلون إعداماً بدمٍ بارد على مرأى ومسمع من ذويهم، الذين يُلحقون بهم عاجلاً وليس آجلاً.. أطفال غزة يحبون العائلة ولا يتركونها؛ لذلك لا يفرقهم الموت، فيُكفَّنوا ويُدفنوا معاً في مقابر جماعية. أطفال غزة يُنقَذون من تحت الركام ويُنقلون إلى المشافي ولكن يموتون هناك إما قصفاً بالقذائف، أو لشح الدواء أو الغذاء أو لخطورة الإصابة.
أطفال غزة لا ينامون على أنغام موسيقى موزارت وباخ وبيتهوفن؛ بل إذا ناموا فإن موسيقاهم هي هدير الطائرات ودوي القنابل وانفجار الصواريخ وأزيز الرصاص وكلها تعزف سيمفونية الموت لهم قبل موتهم.
أطفال غزة لا ينامون على صوت أمهاتهم وجداتهم يحكين الحكايات، كما هو شأن أطفال العالم الآخرين. أطفال غزة لا يلعبون على الأراجيح ولا يشاهدون برامجهم المفضلة على التلفاز، نهارهم ليل، وليلهم ظلام دامس، لا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا كهرباء، يبحثون دوماً عن شريان حياة وكسرة خبز ورشفة ماء.
لقد سكنوا فوق أنقاض منازلهم وأكوام النفايات من حولهم، ومن لم يَمت من القذائف فحسبه الأوبئة والأمراض. إنهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وجرحاهم في مشفى مُدمّر بلا علاج ينتظرون الموت أو الإعدام.
إن أطفال غزة يحصلون على رقم قياسي في سجل غينيس لتعدد أشكال قتلهم وتنوعها، وكذلك سيحصل الجيش الإسرائيلي الأسوأ أخلاقاً في العالم على رقم قياسي جديد في فنون القتل والإجرام والإبادة. يتساءل أطفال غزة الذين مازالوا أحياء: ألم تُحرّم جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية قتل الأطفال، بل دعت إلى حمايتهم؟؟!! أليس من العار أن تبقى كل الإدانات والاستنكارات والاستهجانات في دائرة اللافعل والحفظ في الأرشيف؟؟!! أننتظر موتنا القادم؟ إننا نموت قبل أن نُولد، وقبل أن تُسجّل شهادة ميلادنا، مثلما حدث مؤخراً مع الأب محمد أبو قمصان الذي ذهب لاستصدار شهادة الميلاد لتوأميه، فعاد ليجدهما شهيدين مع أمهم.
إن أطفال المواصي والنصيرات والبريج والفاخورة ومشفى الشفاء ومدرسة التابعين ليسوا كأطفال كييف. إن موت أطفال غزة لا يُفجع ولا يستدعي الإدانة، كما فعل بايدن وشولتز وستارمر وآخرون حيال قتل أطفال أوكرانيا على يد روسيا، بقولهم إن 600 قتيل و1350 جريح يظهران «وحشية روسيا».. أما 15000 طفلا شهيدا وضعف هذا العدد جرحى وعشرات الآلاف مفقودين وأيتام، بحسب أرقام منظمة اليونسيف، يُظهر أن «إسرائيل تدافع عن نفسها». هذه هي معايير «العالم الحر» وقيمه؛ فحتى في الموت هناك عنصرية.
كل ذلك برسم كل الهيئات الدولية وضمائر البشرية ومشاعرها وأحاسيسها.. أطفال غزة يطالبون بـ»مزقة» حياة لا «مزقة» خبز.