أسانج وشرف الصحافة: في انتظار «ويكيليكس» تالية
إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خضعت، في نهاية المطاف، لسلسلة مركبة من الضغوط الداخلية والدولية وإغراءات تجميل الصورة في سنة انتخابية حاسمة شهدت وتشهد انحطاط معدلات تأييد بايدن
لو نجحت شبكات التآمر ضدّ جوليان أسانج، مؤسس موقع «وكيليكس» الشهير، وفيها تضافرت جهود حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد ثمّ الإكوادور وأستراليا نفسها بين إدارة وأخرى، وتمّ ترحيله بالفعل إلى محكمة على الأراضي الأمريكية؛ لتوجّب أن يخضع الرجل لـ17 إدانة جنائية بموجب قانون التجسس الأمريكي لعام 2017، وجناية إضافية بسبب مساعدة فضّاح «وكالة الأمن القومي» إدوارد سنودن على الفرار إلى روسيا، بحيث تتجمع على أسانج أحكام سجن تبلغ 175 سنة.
الضغوط الدولية حوّلت أسانج إلى رمز بشري من لحم ودمّ، يجسد شرف الصحافة كمهنة مُلزَمة بتوفير المعلومات وعرضها على الملأ، وحقّ الصحافي في أداء هذا الواجب كاملاً وشاملاً، أياً كانت مقادير التفضيح، وهذه سطور تضامنت مع أسانج، في هذه الأعمدة تحديداً، على مدار مناسبات شتى شهدت تقلّب ملفات الرجل بين حملات حكومية وأمنية شعواء، وقضاء تُعرض عليه تُهم ملفقة (لم يكن أقلّها وطأة ما ساقته السويد حول اغتصاب قاصرتين) وخطف من السفارة الإكوادورية في لندن إلى سجن بيلمارش ذي الصيت البغيض…
إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خضعت، في نهاية المطاف، لسلسلة مركبة من الضغوط الداخلية والدولية وإغراءات تجميل الصورة في سنة انتخابية حاسمة شهدت وتشهد انحطاط معدلات تأييد بايدن. والتسوية التي عقدتها وزارة العدل الأمريكية مع محامي أسانج تضمنت، كما بات معروفاً، إقراره بالذنب في جناية واحدة أثيرة لدى الإدارات الأمريكية كافة، أي فضح جرائم الحرب؛ لكنها انطوت، أيضاً، على تنازل أوّل من وزارة العدل الأمريكية تمثل في عقد المحاكمة على جزيرة سايبان التابعة للولايات المتحدة والقريبة من أستراليا، ثمّ اعتبار السنوات الخمس التي قضاها في السجن البريطاني بمثابة تنفيذ لعدد الأعوام التي حكمته بها الصفقة المتفق عليها.
غير أنّ الحقد الأمريكي على أسانج لم يكن سيكتمل من دون إلزامه بسداد قرابة نصف مليون دولار أمريكي، نفقات الطائرة الخاصة التي أقلته من بريطانيا عبر الجزيرة إلى موطنه أستراليا. كذلك توجّب أن تستقبله غالبية وسائل الإعلام الأسترالية، المرتبطة على نحو أو آخر بالمليارديرات وشبكات الرساميل العملاقة العابرة للقارات، بالتشكيك والتنكيل وبعض الشتائم المقذعة، لاعتبارات لا تخفى لدى صحافة تابعة خاضعة ساءها أن تُفتضَح أنساق تواطؤها مع السلطات؛ سواء في أستراليا ذاتها، أو هنا وهناك على نطاق مجموعة الكومنولث، فضلاً عن الولايات المتحدة باستثناء عدد محدود من المنابر ذات الصفة التقدمية.
وفي أيام حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، والتواطؤ الأمريكي مع دولة الاحتلال على أصعدة شتى لا تبدأ من البيت الأبيض والكونغرس ولا تنتهي عند وسائل الإعلام وإدارات الجامعات الكبرى؛ جديرة بالاستذكار مجموعة من الوقائع في هذا الصدد، أي الانخراط الأمريكي خلف جرائم حرب الاحتلال، كان أسانج وموقع «وكيليكس» خلف تفضيحها. وهو أتاح للملايين، في طول العالم وعرضه، الاطلاع على كتلة وثائق دبلوماسية أمريكية بلغت قرابة 1,7 مليون وثيقة، من البرقيات والمذكرات والتقارير. ورغم أنّ السلطات الأمريكية رفعت الصفة السرّية عن بعض تلك الوثائق، بالنظر إلى تقادمها طبقاً للقوانين المرعية، فإنّ الاطلاع عليها ظلّ مقيداً بشروط الدخول إلى الأرشيف الوطني الأمريكي؛ ومن هنا كان امتياز نشرها، وفتحها للعموم.
وكانت الجولة الأولى من نشر الوثائق الأمريكية قد كشفت عن طائفة من الأسرار تظلّ في عداد الأشدّ دراماتيكية من حيث هتك العجائب والغرائب؛ بينها، في مزيج من المأساة والمهزلة، أن يفكّر العقيد معمّر القذافي بدعم الإسلاميين المعارضين لنظام حافظ الأسد، ثمّ يرسل مساعده عبد السلام جلود إلى دمشق، لطمأنة الأسد هذه المرّة! كذلك أعلمتنا كشوفات «وكيليكس» أنّ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، في شخص هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية يومذاك دنيس روس المساعد المزمن، ظلّت تماطل وتراوغ بصدد أفضل الوسائل للتعامل مع إيران، على حساب ملفات أخرى جيو ـ سياسية حساسة.
كذلك اكتشف أبناء منطقة الشرق الأوسط طرائقَ المتاجرة الأمريكية مع أنظمة الاستبداد والفساد، والترويج لخرافة «شرق أوسط جديد» يولد من رحم القديم ولا يخدم في المقام الأول سوى المصالح القومية الأمريكية وأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وبفضل «وكيليكس» تأكدت شعوب المنطقة من ازدواجية مواقف جبهة «الاعتدال» كما مثّلها ذات يوم العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، مقابل جبهة «الممانعة» كما نصّب بشار الأسد نفسه زعيماً لها، تجاه الملفات إياها: إيران، «حزب الله» «حماس». ولقد توجّب أن تفضي وثائق «وكيليكس» إلى اتضاح حقيقة عالية الفرق والتفريق: لأنّ إيران ليست جمعية خيرية لإغاثة المستضعفين في الأرض، وتسليحها النوعيّ العالي لـ«حزب الله» أشبه بتسليحها لجيوشها الوطنية دون كبير نقصان؛ فإنّ آيات الله سعوا بدورهم إلى أن تكون معركة «حزب الله» ضدّ الاحتلال الإسرائيلي بمثابة امتداد لمعاركهم ضدّ واشنطن، في الآن ذاته.
كذلك قادتنا كشوفات «وكيليكس» إلى قطع الشكّ باليقين في أمر السياسات المراوغة التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما، بين مداهنة المسلمين في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة، في العلن؛ والإمعان أكثر فأكثر في تخريب العلاقات مع العالم المسلم من خلال تحويل إيران إلى شغل شاغل أقرب إلى الهوس اليومي، واستقبال التحريض عليها، أو تصنيعه أو الإيحاء به، هنا وهناك في المنطقة. كأنّ ما تغيّر على مستوى الأفراد في البيت الأبيض، ظلّ ثابتاً أو يكاد على مستوى السياسات، لا سيما خطب ودّ الدول أو رشوتها كي تمرّر مشاريع عقوبات اقتصادية أقسى فأقسى على إيران في مجلس الأمن الدولي.
ويبقى أنّ الأصل في التضامن مع أسانج أنه، في نهاية المطاف، كان مبلِّغاً شجاعاً، من الطراز الذي تصنّفه الرطانة الأمريكية تحت مسمى الـWhistleblower؛ وإنْ شابت شخصيته، في هذا المضمار، نزعةٌ أكثر ميلاً إلى التفضيح الانتقائي، وأقلّ استعداداً لهتك الأسرار على نحو متساوٍ وعادل (كما في تجنيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مغبّة الكثير من الفضائح). ذلك الاعتبار، وسواه عناصر أخرى غير قليلة كما يتوجب القول، لا يبدّل من الخدمة المعلوماتية الكبرى، الثمينة والنادرة وغير المسبوقة، التي قدّمها للعالم بأسره حول أجهزة الاستخبارات والدفاع والدبلوماسية الأمريكية؛ المخفيّ المكتوم من أفعالها على وجه التحديد.
ولم يكن غريباً حجم استشراس تلك الأجهزة في السعي إلى ترحيله وإخضاعه لقضاء أمريكي لا يمكن له إلا أن يبدأ من حكاية الـ»باتريوت أكت» إياه، الذي اعتمده الكونغرس على سبيل التحصين القانوني لأعمال التلصص على المواطنين الأمريكيين أنفسهم، والتضييق على حرياتهم الشخصية وحقوقهم المدنية. ذلك لأنّ وثائق «وكيليكس» كانت بمثابة غسيل دماغ، بالمعنى الإيجابي، عند أولئك الذين اعتقدوا أنّ السياسات الأمريكية الكبرى، بصدد الشرق الأوسط تحديداً، يمكن أن تشهد طفرات جوهرية، أو تبدّلات تكوينية تفضي إلى انقلابات رأساً على عقب.
هؤلاء كانوا أوّل خائبي الرجاء حيال لغطٍ أمريكي تعالى عشية غزو أفغانستان والإعداد لغزو العراق، وروّج أنّ البيت الأبيض بصدد الانتقال من سياسة عقد صفقات التسوية مع أنظمة الاستبداد بذريعة ترجيح مبدأ الاستقرار حتى على حساب الشعوب، إلى سياسة الانفتاح على الشعوب البائسة ذاتها وتزويدها بمختلف الصادرات الديمقراطية. الأمر الذي يستوجب إطلاق «وكيليكس» تالية، أعلى تفضيحاً لقبائح السياسات المكتومة، وأكثر تكريماً لشرف الصحافة والصحافي.