تم الإعلان رسميا عن تعيين رئيسة جديدة لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وهي الغانية حنا سيروا تيتيه. يؤكد المتابعون لسيرتها ومسيرتها أنها قادرة على تحقيق اختراقات في المشهد الليبي، انطلاقا من تجربتها ورؤيتها وجرأتها وقدرتها على تقييم الوضع وتحليل معطياته والاستفادة من مؤشراته السياسية والاجتماعية والثقافية في البحث عن الفرضية الأمثل للحل المؤجل منذ سنوات.
ربما تدرك تيتيه أن ليبيا ما قبل 2011 لن تعود إلا إذا عاد نظامها، كما أن ليبيا ما قبل 1969 لن تعود إلا إذا عاد نظامها الملكي. في الحالتين، لن يعود الملك إدريس السنوسي من قبره في مقبرة البقيع، ولن يعود معمر القذافي من قبره المجهول في صحراء مصراتة. ولن يقبل الليبيون بنظام ملكي ولو كان دستوريا، ولا بنسخة ثانية من النظام الجماهيري الذي كان يتخذ من الكتاب الأخضر نظرية عالمية ثالثة شعارها مؤتمرات شعبية تقرر ولجان شعبية تنفذ.
كذلك، فإن الوضع الحالي لن يثمر لا تعددية ولا ديمقراطية ولا صناديق اقتراع تعبّر عن الإرادة الشعبية. بات واضحا أن ثقافة الغنيمة هي التي سيطرت منذ العام 2011، وأن المنتصر بقوة السلاح أو السائد عبر التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة هو الذي يحكم، وأن من وصل إلى الكرسي يصبح لصيقا به ومن الصعب فصل عجيزته عنه. ما نراه حاليا هو النتيجة الحتمية لصراع السنوات الماضية، فالسلطة في طرابلس أو في بنغازي لم تعد شأنا طارئا ولا منصبا قابلا للتداول عليه، وإنما أصبحت منظومة متكاملة وفق تراتبية الأسرة والجماعة والفريق والجهة وربما القبيلة أو اللوبي المهيمن وشبكة التحالفات الإقليمية والدولية.
ولا شك أن تيتيه تعلم جيدا أن سلام الفقراء قد يكون أيسر بكثير من سلام الأثرياء، وأن الصراع على حكم بلد يطفو على بحيرة من النفط والغاز هو في الأصل صراع من أجل الثروة الباطنية والإيرادات اليومية والاعتمادات المستندية والصفقات المعلنة والخفية، ومن أجل العلاقات المصلحية مع الدول الأجنبية، ومن أجل تلك الامتيازات التي لا تتوفر في الدول الفقيرة: كيف تستطيع بتوقيع واحد أن تجعل من هذا الشخص أو ذاك ثريا يلعب بالملايين من الدولارات، وكيف تطرق أبواب العواصم الكبرى وأنت مطمئن البال إلى أنك ستجد من يستقبلك طمعا في التعاقد معك على مشاريع أو صفقات تخفي وراءها رشاوى وعمولات، وكيف تمسك بميزان العدالة فتلعب بكفتيه كما تشاء، وتزج بمن تشاء في السجن، وتمنح من تشاء ميزة الإفلات من العقاب، وربما ترفعه إلى أعلى درجات المسؤولية ليكون عينك التي ترى بها وسمعك الذي تسمع به ويدك التي تبطش بها، اقتناعا منه بأن سلامته من سلامتك ونجاته من نجاتك وبقاءه في ما هو عليه من بقائك في ما أنت عليه.
إقرأ أيضا : مغزى قرارات مجلس الأمن بخصوص ليبيا
في طرابلس، يتمسك المهندس عبدالحميد الدبيبة بكرسي رئيس الوزراء، ويؤكد بمناسبة وغير مناسبة أنه لن يتخلى عنه إلا في حال مجيء حكومة جديدة ناتجة عن انتخابات معترف بها تُجرى وفق قوانين منبثقة عن دستور يتم استفتاء الشعب عليه ويحظى بالموافقة، وهو ما يتطلب سنوات أخرى بلا عدد في ظل الظروف الحالية. ولا يكف عن إجراء الاتصالات مع قادة الدول الإقليمية والأجنبية وإبداء التبعية وعرض المغريات وإطلاق التصريحات المنافقة بهدف كسب الداعمين الخارجيين لفكرة استمراره في السلطة إلى حين التوصل إلى ما يطمح إليه، وهو ببساطة: التوافق على دستور يعتمد نظاما برلمانيا ويمهد الطريق لانتخابات برلمانية مع استبعاد الاستحقاق الرئاسي ليتم انتخاب رئيس للدولة من داخل البرلمان يكون منزوع الصلاحيات، وتتولى الأغلبية البرلمانية انتخاب رئيس للحكومة يتميز بالسلطة المطلقة. وهو ما يعني أن الفريق الأقوى المدجج بمميزات السلطة والمال هو الذي يمكنه احتكار السلطة، لاسيما أن الأغلبية الناخبة موجودة في المنطقة الغربية التي لا تزال خاضعة لحكم ميليشيات موالية في أغلبها لمصالحها مع الحكومة الحالية.
والمهندس الدبيبة لا يمثل نفسه كما يعتقد البعض، وإنما هو نتاج لتحالف قائم بين سلطتي رأس المال والميليشيات، ومرتبط بتيار الإسلام السياسي بزعامة رئيس دار الإفتاء التابعة لحكومة الوحدة الوطنية الشيخ الصادق الغرياني الذي يصر على تحويل الخلافات الفقهية إلى اشتباك سياسي قد ينقلب في أيّ وقت إلى مواجهة مسلحة بين المالكية والمدخلية، والذي يعبر عن مواقف شخصيات لا تزال تتحرك من وراء ستار الأحداث حتى لا تتورط في نتائجها التي قد تكون عكس أهدافها، ومن بينها الشيخ علي الصلابي المعروف بشراكته السياسية مع رجل الأعمال علي الدبيبة العرّاب المرجعي للسلطة التنفيذية الوافدة من اتفاق الحوار الوطني وانتخاباته بجنيف في فبراير 2021.
قبل أيام قليلة، أشار الدبيبة إلى وجود ثلاثة أنظمة قال إنها تهدد استقرار ليبيا، وهي النظام العسكري، النظام الأيديولوجي، وأنصار النظام السابق، واعتبر في رسالة مفتوحة من منتدى دافوس إلى القوى الغربية أن مهمة الحكومة بعد الاستقرار ستكون ترسيخ مفهوم الديمقراطية باعتبارها الحل الأساسي للبلاد، مع التطلع لإقرار دستور حقيقي بعد منع الشعب من التصويت عليه. هذه واحدة من مخرجات الاستشارات التي يستمع إليها من فريقه السياسي وعلى رأسه الخبير في علوم الاتصال المهندس وليد اللافي، انطلاقا من أن العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن لا تقبل مسارا ديمقراطيا قد يؤدي إلى انتصار الجنرال خليفة حفتر حليف الروس، أو سيف الإسلام القذافي وريث سيادة الدولة في مواجهة مخططات تفكيكها، أو تيار الإسلام السياسي الذي يتحالف معه في دار الإفتاء ومجلس الدولة وأجهزة السلطة ومنظومة الميليشيات وينتقده علنا في سياق ازدواجية المواقف المتفق عليها سلفا. وبالتالي فإن الدبيبة يقدم نفسه على أنه الزعيم الديمقراطي الليبرالي حليف العالم الحر والممسك بمفاتيح فرص الاستثمار الكبرى في بلاده والقادر على تحجيم النفوذ الروسي واحتواء التيار الديني وضمان مصالح الحلفاء.
لم يشر المهندس الدبيبة إلى الاحتمال الرابع وهو نظام المافيا الذي يمكن أن يلعب بالدولة والمجتمع، وينهب الثروة، ويرتهن السيادة، ويبرر الفساد، ويمارس لعبة المهرج في إدارة الشأن العام بقفازات اللصوص، ويستعمل في تحقيق غاياته سلاح المنظومة العسكرية وانتهازيي النظام السابق وبراغماتيي التيار الأيديولوجي.
الوضع في طرابلس ليس أفضل حالا من الوضع في بنغازي، حيث تدار شؤون الحكم من قبل الجنرال حفتر وأسرته والمقربين منه والمحسوبين عليه، وحيث يمكن لبعض مفردات النقد الجريء أن تزج بصاحبها في سجن بلا نوافذ، أو تحكم عليه بالتصفية الجسدية كما حدث في حالتي عضوي مجلس النواب سهام سيرقيوة أو إبراهيم الدرسي.
سواء في طرابلس أو في بنغازي، ليس هناك من يبحث عن حل سياسي، وليس هناك من يسعى إلى توحيد الجيش أو تحقيق المصالحة إلا إذا كان ذلك في مصلحته ومصلحة فريقه. فكما أن هناك أسرة في بنغازي، هناك أسرة تحكم في طرابلس وتعتبر أن ليبيا غنيمتها ورزقها ورزق أبنائها وأحفادها. إذا كان القذافي بدأ يفكر في التوريث بعد 30 عاما من الحكم، فإن الحكام الحاليين فكروا في التوريث بعد ثلاث سنوات فقط.
الحل العملي الذي يمكن التركيز عليه في مواجهة جميع العراقيل الداخلية والتدخلات الخارجية هو العودة إلى دستور 1951 لتأمين الغطاء الفيدرالي للدولة على أن يكون لكل إقليم نظامه السياسي. قد يكون ذلك وحده كافيا لطمأنة الفرقاء الحاليين على مصالحهم وامتيازاتهم، والدفع بهم لقبول التوافق والتضامن في ظل كيان اتحادي يضمن حقوق الجميع. وتحريك العملية السياسية وفق مصالح المجتمع بتوطيد أركان الحكم المحلي والتوزيع العادل للثروة، وتنظيم عملية حل الميليشيات وجمع السلاح وإجلاء المرتزقة والقوات الأجنبية. المطلوب حاليا هو العودة بليبيا إلى 1951، فقد يأتي اليوم الذي تتحقق فيه لحظة 1963 عندما تم تعديل الدستور بمغادرة حيز الدولة الاتحادية وتكريس الدولة الموحدة.