تغلّب صوت العقل، وتوصلت حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا إلى اتفاق مع القوى الأمازيغية على تشكيل القوة العسكرية المشتركة لتأمين معبر رأس جدير. وتم تعويم الخلاف في إطار أشمل، حيث ستتكون القوة من دوريات مجهزة لرصد ومتابعة ومكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية وتهريب الوقود والمخدرات والمؤثرات العقلية والسلع بكافة أنواعها والعمل على بسط الأمن والنظام وإظهار هيبة الدولة في المنطقة الحدودية مع تونس الممتدة من البحر شمالا وحتى حدود منطقة العسة جنوبا ونشر الأمن والأمان والطمأنينة بين الناس في المنطقة.
وكان يمكن للأوضاع أن تتعقد بشكل غير مسبوق، لو سارت في اتجاه الحرب، فوزير الداخلية المكلف عماد الطرابلسي المعروف بأنه أحد أبرز أمراء الحرب منذ العام 2011، ينتمي إلى قبيلة الزنتان العربية التي تقيم في جبل نفوسة موطن الأمازيغ، ورغم أنه ليس محل أجماع من قبل أبناء قبيلته، إلا انه سيجد الدعم منهم جميعا في حالة تعرض للاستهداف من الأمازيغ. وستجد الزنتان مساندة من عدد من القبائل العربية الأخرى التي لا تزال تحافظ على أواصر التحالف التاريخي معها، أو التي تسعى إلى مشاركتها المصالح والتحديات.
وبلدية زوارة اتهمت الطرابلسي بتوجيه تصريحات عنصرية وجهوية ضد “مكون الأمازيغ” في ليبيا. فرئيس المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا الهادي برقيق اعتبر أن ما حدث في رأس جدير “مفتعل الغاية منه سيطرة ميليشيات الزنتان على منطقة تنتمي لمكون الأمازيغ، بغرض السيطرة عليه وتحجيمه”. ومقررة المجلس وحيدة الحشان رأت أن “التصريحات المستفزة التي أطلقها الطرابلسي، أشعلت غضب العديد من السكان الأمازيغ”، وحورت النقاش حول ما يجري في معبر رأس جدير، من طبيعته الأمنية، إلى حديث حول هوية السكان الأمازيغ، وهو أمر غير مقبول. وفق تقديرها.
ففي يوليو الماضي، أثار قرار حكومي بدمج عدد من مديريات الأمن في الجبل الغربي وتقسيمها إلى ثلاث مديريات تابعة لغريان ونالوت والرياينة وكلها مدن عربية، غضب الأمازيغ الذين اعتبروا أن القرار يستهدف النسيج الاجتماعي لمنطقة الجبل الغربي، لكن رئيس الحومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة استدرك الأمر وأرجأ تنفيذ القرار حتى استكمال جمع الملاحظات بشأنه.
وفي نوفمبر، لوّح المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا بالتصعيد العسكري في حال قيام قوات الدبيبة بالهجوم على مدن الأمازيغ، محذّرا من أيّ تحركات مسلّحة قد تجرّ المنطقة إلى أحداث لا يمكن توّقع نتائجها. جاء ذلك، بعد قرار الدبيبة تشكيل غرفة أمنية مشتركة وتكليفها بالسيطرة على المعبر الخاضع منذ العام 2011 لسيطرة قوات أمنية من مكوّن الأمازيغ تابعة لمدينة زوارة الواقعة في أقصى الشمال الغربي للبلاد، وفي محاولة لتهدئة الأوضاع قالت الحكومة إنّ مهمّة غرفة العمليات المشتركة تتمثل في الدفاع عن المنطقة الغربية والجنوب الغربي ومكافحة التهريب وفرض الأمن، ومواجهة وردع المجموعات الخارجة عن القانون والمعتدين على مدينة غريان، نافية نيتّها استهداف الأمازيغ.
وبمناسبة رأس السنة الأمازيغية في يناير الماضي، أعلن الدبيبة أنه سيوجه رسالة للسجل المدني بشأن حل مشكلة تسمية الأسماء الأمازيغية من أجل تأكيد حقوق كل المواطنين في ليبيا الذاتية والثقافية وإبراز فخرهم الدائم بهذه الهوية. كما أصدر تعليماته لوزيري الداخلية والتربية والتعليم بالإذن لمراقبات التعليم بالبلديات الناطقة بالأمازيغية باقتراح تسمية المدارس التابعة لها، والسماح بتسجيل الأسماء الأمازيغية.
وكل المحاولات التي قد تبذلها الحكومة لن تجدي نفعا في تجاوز الخلافات الجوهرية. فأمازيغ ليبيا يدرك أن البلاد ستعود في يوم من الأيام إلى النظام الفيدرالي الذي تأسست عليه دولة الاستقلال في العام 1951 واستمر العمل به حتى العام 1963، لتجاوز التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية بما يضمن وحدتها، وهم يسعون إلى فرض وجودهم كإقليم رابع إلى جانب برقة وطرابلس وفزان، وتضمين ذلك في أيّ مشروع دستور جديد. ففي يناير 2021 جرى طرح الفكرة لأول مرة في سياق مبادرات المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا الذي تم انتخابه في 30 أغسطس 2015 في المناطق التي يقطنها الأمازيغ بالبلاد (مدينة زوارة وضواحيها وبلدات في الجبل الغربي)، ليكون ممثلا لهم وناطقا باسمهم.
ولا يمكن فصل تطلعات أمازيغ ليبيا عن تطلعات نظرائهم في المنطقة المغاربية، وخاصة في المملكة المغربية حيث حصل الأمازيغ على الكثير من الحقوق بما في ذلك دسترة لغتهم والاحتفال برأس السنة الأمازيغية واعتباره يوم عطلة رسمية. وكان من بين أهم أسباب رفض أمازيغ ليبيا مسودة الدستور عدم تضمّنها بنودا للحفاظ على ليبيا كدولة مستقلة تابعة لمحيطها المغاربي، وافتقادها لمتطلبات حفظ الحقوق الثقافية والتاريخية للأمازيغ في البلاد.
فبعد الإطاحة بنظام القذافي في 2011، اعتقد أمازيغ ليبيا أنهم حققوا انتصارا كبيرا، وأنهم سينطلقون في تكريس هويتهم القومية والثقافية في ظل نظام ديمقراطي تعددي ودولة فيدرالية، وكانوا يتطلعون إلى بسط نفوذهم على مناطقهم في الساحل الغربي وجبل نفوسة مع التمدد إلى أمازيغ الصحراء من الطوارق في غرب فزان. وفي خطوة رمزية تمثل لهم الكثير من المعاني، رفعوا على معبر رأس جدير مع تونس علمهم الذي كان الجزائري يوسف مذكور وراء تصميمه في أواخر عام 1969 أثناء نشاطه كعضو في الأكاديمية البربرية في فرنسا، قبل أن يعلن عنه مع حلول عام 1970. وفي عام 1997 جرى اعتماده من قبل المؤتمر العالمي الأمازيغي في مدينة لاس بلماس الإسبانية.
ومثّل وجود علم الأمازيغ فوق الجانب الليبي من منفذ رأس جدير مصدر قلق وإزعاج للكثير من الليبيين، بما في ذلك السلطة المركزية التي ترى في ذلك سابقة يمكن أن تتجه للتعميم من قبل التبو والطوارق في الجنوب، وتهديدا محتملا لوحدة الدولة التي لا تزال مهددة في كيانها وخاصة في جنوبها المفتوح على رياح الصحراء الكبرى وتحولاتها.
ولكن موضوع العلم، لا يجب أن يخفي طبيعة الأمر الواقع الآخر المفروض على السلطة، وهو تحول المعبر إلى أحد أهم منافذ التهريب في المنطقة، وربما في العالم، وخاصة للوقود، ما جعل منه مصدرا أساسيا لتمويل الميليشيات الجهوية، ولإنعاش الاقتصاد المحلي في زوارة ومحيطها. ففي ليبيا يمكن اتخاذ أي قرار، ما عدا ما يمكن أن يمس بالمصالح المالية والاقتصادية للجماعات المحلية والميليشيات المتمسكة بشرعية ترى أنها اكتسبتها بمشاركتها في معركة الإطاحة بنظام القذافي.
وفي ظل كل ذلك، لا يمكن تجاهل جملة من الحقائق، من بينها أن أمازيغ ليبيا يحظون بدعم دولي وخاصة من القوى الغربية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأن لا جدال بالنسبة إليهم حول ملف الحقوق الثقافية والاجتماعية كأحد الشعوب الأصلية النشطة، كما أن ملف الحقوق السياسية لم يغب في يوم من الأيام عن طاولة النقاش، خصوصا وأن ليبيا لم يتم بعد تحديد وضعها النهائي، وقد يكون هناك تأجيل متعمد للوصول إلى تلك اللحظة في انتظار إعادة تشكل خارطة المصالح بين القوى النافذة إقليميا ودوليا.