أزمة تجنيد الحريديم ومستقبل ائتلاف حكومة نتنياهو
مثّلت مسألة تجنيد اليهود المتدينين المتزمتين “الحريديم” في الجيش نقطة خلاف مستمرة داخل المجتمع الإسرائيلي منذ عام 1948. وقد تفاقم هذا الخلاف في العقود الثلاثة الأخيرة بسبب ازدياد عدد اليهود الحريديم، وتعاظم عدد الشباب منهم الذين يجري إعفاؤهم من الخدمة الإلزامية في الجيش. ففي حين بلغ عدد من جرى إعفاؤهم من الخدمة الإلزامية وقت الاتفاق الذي أبرمه عام 1948 رئيس الحكومة ووزير الأمن حينها، دافيد بن غوريون، مع كبار حاخامات الحريديم، نحو 400 شاب من الحريديين الذين كانوا يدرسون في معاهد دينية يهودية (يشيفوت)، ارتفع عدد الحريديم الذين يعفون كل سنة من الخدمة الإلزامية تحت شعار “توراته مهنته” إلى أكثر من 12 ألف في دورة التجنيد لعام 2023، أي ما يعادل 16 في المئة من مجمل عدد الإسرائيليين الذين بلغوا سن الخدمة الإلزامية في الجيش في ذلك العام[1].
انقسامات مجتمعية عميقة
الخلاف بين اليهود الحريديم وبقية المجتمع اليهودي في إسرائيل هو خلاف عميق متعدد الجوانب، ومسألة خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي أحد مظاهره[2]. ويحتفظ مجتمع اليهود الحريديم في إسرائيل بقيم وطرق حياة مختلفة عن بقية المجتمع الإسرائيلي[3]. ويحرص الحريديون بشدة على نمط حياة ديني وفق فهمهم الأصولي للتوراة والتقاليد اليهودية، ويقود مجتمعهم حاخامات كرسوا حياتهم لدراسة الديانة اليهودية وتقاليدها، لهم تأثير واسع النطاق في رعيتهم. ويكرس الشباب الحريديون فترة زمنية طويلة من حياتهم لدراسة الديانة اليهودية وتقاليدها في المعاهد الدينية، تصل لدى شريحة واسعة منهم حتى سنّ الأربعين.
وقد زاد الحريديون من تمثيلهم في الكنيست في العقود الثلاثة الأخيرة بما يتناسب مع نسبة تكاثرهم الطبيعي المرتفعة. ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه في المدى المنظور، وهو الأمر الذي يقلق قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. وينشط في صفوف الحريديم حزبان أساسيان هما حزب “شاس” وحزب “يهدوت هتوراه”. ويركز حزب شاس نشاطه في صفوف الحريديم الشرقيين وغيرهم من اليهود الشرقيين التقليديين، وله 11 مقعدًا في الكنيست الحالي. أما حزب يهدوت هتوراه الذي تشكّل من تحالف حزبي “أغودات يسرائيل” “وديغل هتوراه”، فيركز نشاطه في صفوف اليهود الحريديم الغربيين، وله سبعة مقاعد في الكنيست الحالي. وينتمي اليهود الحريديم هم وأحزابهم السياسية إلى معسكر اليمين المتطرف واليمين الفاشي في إسرائيل، ويتبنّون، بصورة عامة، مواقف عنصرية تجاه الفلسطينيين والعرب وتقف أغلبيتهم الساحقة ضد الديمقراطية الليبرالية وضد المحكمة العليا في إسرائيل[4].
نسب زيادة طبيعية مرتفعة
للقيم العائلية الدينية التقليدية، بما يشمل زيادة عدد أفراد العائلة، أهمية قصوى في المجتمع الحريدي، باعتبارها جزءًا من التزام ديني صارم[5]. وتبلغ نسبة التكاثر الطبيعي لدى الحريديم، 4.2 في المئة في مقابل 1.9 لدى مجمل السكان في إسرائيل، و1.4 في المئة لدى اليهود من غير الحريديم. وقد وصل عدد الحريديم في إسرائيل في نهاية عام 2023 إلى مليون و335 ألف نسمة[6]. وتزداد نسبتهم من مجمل عدد اليهود في إسرائيل باطّراد. ففي حين بلغت هذه النسبة 12 في المئة عام 2009، فإنها بلغت 17.2 في المئة في نهاية عام 2023. ويتميز مجتمع اليهود الحريديم بوجود نسبة مرتفعة من صغار السنّ في صفوفه، فنسبة الذين تقلّ أعمارهم عن 19 سنة، تبلغ 58 في المئة، وذلك مقابل 32 في المئة للذين تقلّ أعمارهم عن 19 سنة في صفوف مجمل اليهود غير الحريديم في إسرائيل. وتتوقع دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن يبلغ عدد الحريديم عام 2033 مليونَي نسمة، ونحو مليونين و900 ألف نسمة عام 2043، وسيزيد عددهم هذا حينئذ عن عدد العرب الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر بقليل، في حين سيبلغ عدد اليهود غير الحريديم في إسرائيل نحو 7 ملايين و950 ألف نسمة[7].
الحريديم وسوق العمل
ثمة فرق كبير بين نسبة الحريديم الذين يشاركون في سوق العمل وبين بقية اليهود. ففي عام 2002 كان فقط ثلث الرجال الحريديم الذين في سن العمل يعملون، وكانت 50 في المئة من النساء اليهوديات الحريديات يعملن. وارتفعت نسبة مشاركة الحريديم في سوق العمل منذ ذلك الوقت بفضل مجموعة من العوامل كان من بينها ازدياد معدلات الفقر في أوساطهم والحاجة إلى الخروج إلى العمل، إلى جانب الجهود والمحفزات المختلفة التي تقدّمها مؤسسات الدولة لحثّ الحريديم ومساعدتهم في دخول سوق العمل. فقد وصلت نسبة المشاركة في سوق العمل بين الرجال الحريديم، في سنّ 25-66 سنة، إلى 53 في المئة عام 2022، وهي نسبة تبقى منخفضة جدًا مقارنةً بنسبة مشاركة بقية الرجال اليهود، التي بلغت 87 في المئة في العام نفسه. أما نسبة مشاركة النساء اليهوديات الحريديات في سوق العمل فقد ارتفعت كثيرًا لتصل عام 2022 إلى 79.5 في المئة وباتت قريبة من نسبة اللواتي يشاركن في سوق العمل من بقية النساء اليهوديات، والتي بلغت 83 في المئة في العام نفسه[8].
أما الفرق بين متوسط الدخل الشهري للفرد في صفوف الحريديم وبقية اليهود، فقد ظلّ مرتفعًا. ففي عام 2021 بلغ متوسط الدخل الشهري لليهودي الحريدي 50 في المئة فقط من معدّل الدخل الشهري لليهودي غير الحريدي، في حين بلغ معدل الدخل الشهري للمرأة الحريدية 67 في المئة من معدل الدخل الشهري للمرأة اليهودية غير الحريدية في العام نفسه[9].
المحكمة العليا وتجنيد الحريديم
ظلّ عدد طلّاب المعاهد الدينية الذين يعفون من الخدمة في الجيش الإسرائيلي بذريعة “توراته مهنته” محدودًا، حتى عام 1977. ففي العقدين الأوّلين من تأسيس إسرائيل اقتصر هذا العدد على نحو 400 شخص سنويًا، ثم ارتفع في أواخر ستينيات القرن الماضي إلى 800 شخص سنويًا[10]. وعند وصول حزب الليكود إلى سدة الحكم أوّل مرة عام 1977، ألغت حكومة مناحيم بيغن عملية تحديد عدد طلّاب المعاهد الدينية الذين يعفون من الخدمة في الجيش بذريعة “مهنته توراته”، وذلك وفق اتفاق الائتلاف الحكومي مع الحزب الحريدي الوحيد حينئذ وهو حزب “أغودات يسرائيل”، الذي كان له أربعة مقاعد في الكنيست. وقد أدى ذلك إلى ازدياد أعداد الحريديم الذين يعفون من الخدمة في الجيش في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، خاصة في ضوء نسبة تكاثرهم الطبيعي المرتفعة وازدياد قوة الأحزاب الحريدية[11].
ونظرًا إلى ازدياد عدد الحريديم الذين يعفيهم وزير الأمن من الخدمة في الجيش، جرى التوجّه إلى المحكمة العليا، التي قررت، عام 1998، أنّ صلاحيات وزير الأمن لا تخوّله منح طلّاب المعاهد الدينية إعفاءً شاملًا من الخدمة الإلزامية في الجيش، وأنّ على الكنيست أن يسنّ قانونًا في هذا الشأن[12]. وحصل ذلك عام 2002 حين شرّع قانون تأجيل الخدمة العسكرية لطلّاب المعاهد الدينية. ومدّة سريانه خمس سنوات قابلة للتجديد. ومنح هذا القانون وزير الأمن صلاحيات تخوّله إعفاء طلّاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية وفق شروط معيّنة حدّدها القانون[13]. بيد أنّ هذا القانون لم ينفَّذ، وظلّت نسبة الذين يعفون من الخدمة تزيد على 80 في المئة. وإزاء هذا الوضع قررت المحكمة العليا، عام 2012، أنّ الكنيست لا يمكنه تمديد هذا القانون مرة أخرى بسبب إخلاله بمبدأ المساواة في الخدمة العسكرية، وهو ما يتناقض مع قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته[14]. وعام 2014، سُنَّ قانون جديد بخصوص تجنيد الحريديم فرض فيه عقوبات جنائية على المتهربين من الخدمة الإلزامية[15]. بيد أنّ الكنيست أجرى تعديلات على هذا القانون، في إثر دخول الأحزاب الحريدية إلى الائتلاف الحكومي، التي ألغت العقوبات الجنائية فيه[16]. وظل موضوع قانون تجنيد الحريديم محلّ خلاف بين الحكومة والكنيست والمحكمة العليا في السنوات الأخيرة.
وفي ضوء فشل حكومة نتنياهو في سنّ قانون ينظّم تجنيد الحريديم، أصدرت المحكمة العليا في 26 شباط/ فبراير 2024 أمرًا مؤقتًا يُلزم الحكومة بأن تشرح، حتى 31 آذار/ مارس 2024، سبب عدم تجنيدها طلّاب المعاهد الدينية الحريدية في الجيش الإسرائيلي[17]. ثم طلب نتنياهو، في 27 آذار/ مارس 2024، من المحكمة العليا منحه 30 يومًا لبلورة قانون بشأن تجنيد الحريديم في الجيش، بحيث لا تتخذ المحكمة قرارًا في خلال هذه الفترة. بيد أنّها أصدرت، في 28 آذار/ مارس 2024، أمرًا يُلزم الحكومة بالتوقّف في مطلع نيسان/ أبريل 2024 عن تقديم المخصصات المالية للمعاهد الدينية التي لا يتجنّد طلّابها في الجيش[18]. وفي أيار/ مايو 2024، ستُصدر المحكمة العليا قرارها بتركيبة موسّعة مكوّنة من تسعة قضاة بخصوص مسألتَي مخصصات المعاهد الدينية وتأجيل خدمة طلّابها في الجيش[19].
أزمة التجنيد والائتلاف الحكومي
لم تترك المحكمة العليا للحكومة مجالًا للمزيد من التسويف بخصوص سنّ قانون تجنيد الحريديم وفق المعايير التي كانت المحكمة حددتها في قراراتها السابقة، بما في ذلك معيار المساواة في عبء التجنيد الإلزامي بين الحريديم وغيرهم من اليهود الإسرائيليين، وفرض عقوبات على الحريديم الذين لا يتجندون. ويواجه ائتلاف نتنياهو الحكومي صعوبات تعرقل سنّ هذا القانون نتيجة الأجواء السياسية السائدة في المجتمع الإسرائيلي منذ عملية “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، بما في ذلك لدى بعض قادة حزب الليكود نفسه، الذين يدعون إلى مشاركة الحريديم في تحمّل عبء الخدمة العسكرية أسوةً بغيرهم من اليهود في المجتمع الإسرائيلي. ويتلخص أبرز الصعوبات التي تعرقل سن القانون وتهدد من ثم ائتلاف نتنياهو في:
إذا لم تسنّ حكومة نتنياهو قانون تجنيد الحريديم، أو إذا تلكّأت في سنّه، فسيزداد الضغط على وزير الأمن يوآف غالانت وعلى المؤسسة العسكرية للشروع في تجنيد طلّاب المعاهد الدينية الحريدية. وإذا ما قام الجيش باستدعاء الطلّاب الحريديم للخدمة العسكرية الإلزامية وشرع في فرضها عليهم، أو على نحو 40 في المئة (نحو 5200) من مجموع الحريديم الذين يبلغون سنّ الخدمة العسكرية (وصل مجمل عددهم عام 2023 إلى نحو 13000)، كما يطالب الجيش، فإنّ ذلك سيقود إلى خروج حزبَي يهدوت هتوراه وشاس اللذَين يعارضان الاستجابة إلى مطالب المحكمة العليا فيما يخص قانون تجنيد الحريديم، من الائتلاف الحكومي، الأمر الذي يقود إلى سقوط الحكومة.
من الصعب التوصّل إلى صيغة متّفق عليها لقانون تجنيد الحريديم في داخل ائتلاف نتنياهو الحكومي تحظى بتأييد أغلبية في الكنيست (من دون المعسكر الرسمي بقيادة غانتس)؛ فبينما يريد حزبا يهدوت هتوراه وشاس أن يحافظا على الوضع القائم بخصوص تجنيد الحريديم ويرفضان حلًّا وسطًا بخصوص نسبة الذين ينبغي إعفاؤهم أو الحدّ الأدنى من الحريديم الذين ينبغي تجنيدهم، فإن العديد من قادة حزب الليكود وفي مقدّمهم وزير الأمن يوآف غالانت[20] يعارضون ذلك ويدعمون بصورة عامة توجّه المؤسسة العسكرية التي تهدف إلى تجنيد نحو 5200 حريدي في السنة. ومن المتوقّع أن يصوّت غالانت وأعضاء آخرون في حزب الليكود ضد مقترح القانون الذي يسعى نتنياهو إلى تقديمه بهذا الخصوص.
تقف أحزاب المعارضة في الكنيست ضد سنّ أيّ صيغة لقانون تجنيد الحريديم تتعارض مع متطلبات المحكمة العليا في هذا الشأن. وتسعى هذه الأحزاب إلى إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة في أسرع وقت ممكن؛ لذلك فهي تستثمر في هذه الأزمة وتتشدد في معارضتها لهذا القانون. وتشمل أحزاب المعارضة أيضًا حزب “أمل جديد” بقيادة غدعون ساعر، الذي انشق عن حزب “المعسكر الوطني” في 13 آذار/ مارس 2024[21]، ثم انسحب من الائتلاف الحكومي في 25 آذار/ مارس 2024، بعد أن رفض نتنياهو طلب ساعر الانضمام إلى كابينت الحرب[22].
يعارض حزب “المعسكر الرسمي” بقيادة غانتس الشريك في حكومة الطوارئ التي شُكّلت عقب طوفان الأقصى في تشرين الأول/ أكتوبر، القانون المقترح لتجنيد الحريديم. فقد أعلن غانتس أنّ القانون الذي تبلوره الحكومة هو فشل قيمي خطير، وأنه يُحدث شرخًا عميقًا في المجتمع “في الوقت الذي علينا فيه القتال سوية ضد أعدائنا”. وأضاف أنّ حزب “المعسكر الرسمي” لا يستطيع البقاء في حكومة الطوارئ إذا سنّ الكنيست هذا القانون[23]. ورغم أنّ الحكومة شرعت في سنّ قانون تجنيد الحريديم من دون الحصول على موافقة غانتس، ومن دون حتى التشاور معه، ما يمثّل خرقًا لاتّفاق تشكيل حكومة الطوارئ، فمن الملاحظ أنّ غانتس حدّد توقيت خروج حزبه من حكومة الطوارئ باستكمال عملية سنّ القانون فعليًا، أي بعد أن يمرّ بالقراءات التمهيدية والأولى والثانية والثالثة في الكنيست، وربما تستغرق هذه العملية عدة شهور.
خاتمة
يبذل رئيس الحكومة نتنياهو جهدًا كبيرًا ليحافظ على ائتلافه الحكومي أطول فترة ممكنة، أملًا منه في تحسين شعبيته وشعبية حزبه ومعسكره، قبل أن يضطر إلى تقديم انتخابات الكنيست. ويبدو أنّ تراكم العوامل والضغوط المتعددة سيؤدي في الشهور القليلة القادمة إلى تقديم موعد الانتخابات. فتأجيل المشاكل التي يواجهها ائتلاف نتنياهو الحكومي بذريعة استمرار الحرب، وفي مقدّمها الفشل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والإخفاق في تحقيق أهداف حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، وتوتر العلاقات مع الإدارة الأميركية، وازدياد الاحتجاجات الشعبية، وتوتر العلاقات بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية والأمنية، لا يحلّها. وفي هذا السياق يأتي قرار المحكمة العليا إلزام حكومة نتنياهو بسنّ قانون تجنيد الحريديم وفق المعايير التي حددتها، وقرارها بوقف دفع المخصصات للمعاهد الدينية التي لا يخدم طلّابها في الجيش، ليزيد من عمق التحديات التي يواجهها ائتلاف نتنياهو الحكومي.