كانت مؤشرات الربع الأخير من العام 2024م ومطلع عام 2025م تؤكد على أن نهاية حرب غزة أواخر شهر ديسمبر 2024م لأسباب متعددة أهمها انتهاء الانتخابات الأمريكية وقرب تولي الرئيس الأمريكي الجديد للإدارة، وانتهاء حقبة إدارة سابقة، وضغط أهالي الأسرى على حكومة نتنياهو، واعلان قيادة جيش الاحتلال بأن العملية البرية أنهت أهدافها.
ضغوط أمريكية ومحاولات مصرية وقطرية ونوايا لحركة حماس ودولة الاحتلال الإسرائيلية لم تكفي للوصول إلى هدنة محدودة وذلك لاختلاف النوايا في معادلات مزدوجة معقدة.
اقرأ أيضا.. دروس غزة.. وأوجاع العرب
فعلي الصعيد المعادلة الفلسطينية:
تسعى حركة حماس أن تبقى هي الحاكم الفعلي والمسيطر عمليا على أرض غزة وقد لجأت في ذلك إلى خيارين:
الأول، محاولة إيصال الطرف الفلسطيني الآخر المتمثل في السلطة الفلسطينية إلى قناعة بأنه لا سبيل من أجل إنقاذ غزة وأهلها أمام تعنت حركة حماس سوى القبول بتشكيل لجنة صورية تملك ولا تحكم، وهو الأمر الذي رفضه الرئيس الفلسطيني محمود عباس وبشدة ورفض كافة الضغوط المصرية بقبول ذلك، وأصر على تولي السلطة الفلسطينية كافة مقاليد إدارة الحكم في قطاع غزة.
هذه المعادلة الفلسطينية المعقدة هي نتاج انقسام قارب على عقدين من الزمن، لم تشفع لها غزة ولا سكانها ولا ما يمرون به من إبادة بكل معانيها أن تتفكك وتنتهي بالوحدة لتكشف عن قيادة أقل ما يمكن أن توصف بأنها طابور خامس.
ففي الوقت الذي يدعم تشكيل إدارة لغزة موقف الوسطاء في الضغط على الاحتلال لإيقاف الحرب، كان الصراع على الصلاحيات والسيطرة على الأرض هو سيد الموقف بين طرفي النزاع الفلسطيني.
أما الخيار الآخر أمام حركة حماس الاتجاه نحو مخادعة الاحتلال بمهادنته والتسلل خطوة بخطوة للإستمرار في حكم غزة، من خلال العودة الجزئية باتفاقيات جزئية بعد فشل العودة دفعة واحدة باتفاقية شاملة رفضها الاحتلال وهو ما قد يؤيده نتنياهو لأهداف مرتبطة باستمرار الانقسام الفلسطيني.
أما على صعيد الاحتلال الإسرائيلي،
بداية لابد من الإشارة بأن حرب غزة (طوفان الأقصى) ساعد الائتلاف اليميني على الثبات لأكثر من عام بعد أن كان النظام السياسي مهدد بالانهيار بفعل تدخلات اليمين الإسرائيلي التي طالت أسس ودعائم الدولة الديمقراطية في النظام السياسي لدولة الاحتلال، إلى جانب محاكم الفساد المقامة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وبذلك فاستمرار الحرب هي خدمة للثبات وبقاء الائتلاف المهدد بالسقوط، لكن لكل حرب نهاية، فكانت الإشكالية لهذا الائتلاف من سيحكم غزة في اليوم التالي للحرب وكافة الخيارات المطروحة أحلاهما مر بالنسبة لهذا الاحتلال،
فالخيار الأول، الإبقاء على حكم حماس حتى ولو منزوعة السلاح، لكن هذا الخيار يهدد بقاء هذا الائتلاف الذي أعلن منذ أول يوم في الحرب هدفه القضاء على حركة حماس، مع الإشارة بأن نتنياهو قد يكون أفضل الخيارات لديه هو الإبقاء على حكم حماس ولكن بما لا يمس كينونته وائتلافه ويضمن له استمرار الحرب في شكلها الأخير استهدافات جوية وعمليات خاطفة سريعة.
الخيار الثاني، عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة وهو خيار يرفضه نتنياهو كليا، فهو لن يسمح لعودة الوحدة السياسية والجغرافية بين غزة والضفة الغربية الأمر الذي يسمح بقيام دولة فلسطينية وينهي ما عمل عليه نتنياهو طوال عقدين من الزمن بالمحافظة على هذا الانقسام وترسيخه، إلا في حال توافقه مع أمريكا على دولة مقطعة أشبه بكانتونات تنهار بها أسس الدولة من تواصل جغرافي وسيادة ورقابة أمنية للاحتلال على كل جزء فيها لتمسي إدارات محلية فقط.
الخيار الثالث، طرف فلسطيني من غزة لا من الضفة ولا من حماس وهو خيار يشكل عقبة أمام رغبة نتنياهو في استمرار الانقسام الفلسطيني بكافة أشكاله وامتداداته، لأن أي حكومة فلسطينية ستتبع حتما للسلطة الفلسطينية مع مرور الوقت.
والخيار الرابع، التواجد الدولي وهو ما يمكن أن يسمح به نتنياهو بشكل يحقق أهدافه السياسية والأمنية ويعزز من موقفه أمام المجتمع الاسرائيلي لفترة زمنية محددة تنتهي بالعودة للحرب.
الجدير بالذكر أن تأخير موافقة الاحتلال على الهدنة أو انتهاء الحرب قد يكون مربوطين بهدفين:
الأول؛ ممارسة الاحتلال حالة من الابتزاز السياسي للإدارة الأمريكية الجديدة بإعطائها شرف إنهاء الحرب قبل وصولها مقابل اتفاقيات تطبيع مع دول عربية جديدة.
والآخر، رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة أن يسجل في بداية تولي عملها ومهامها إنهائها لحرب غزة خصوصا أن المجتمع الأمريكي شهد مسيرات منددة للحرب والعدوان ومطالبات بإنهائه وصلت حد الإضرابات داخل أكبر الجامعات الأمريكية.
لكن النوايا الحقيقية للاحتلال أمام كل الخيارات السابقة تكمن في إخراج كافة أسرى الاحتلال من غزة أحياء وأموات، والاستمرار في حرب غزة حتى عام 2026م فذلك يضمن بقاء الائتلاف الحاكم في حالة ثبات حتى نهاية حكومة الإتلاف عام 2026م، ويضمن تأجيل جلسات محاكمة الفساد لبنيامين نتنياهو.
لذلك فإن النوايا والرغبات المكشوفة لكلا الطرفين مرتبطة بالمصالح الخاصة بهما، لذلك حجم الفجوة كبير لا يمكن رأبه أو تضييقه بتقريب وجهات النظر وحتى لو أعلن الوسطاء هدنة على مراحل وجزئيات فستكون العودة إلى الحرب هو الثابت الوحيد في هذه الهدنة وهذا هو الخيار الوحيد الذي يسعى كل من نتنياهو وائتلاف اليمين له للبقاء في الحكم كما تسعى له حكومة حماس للبقاء في الحكم بالعودة على مراحل عبر الاتفاقيات الجزئية.
وقد دفع الطرفين للتوقيع على وقف إطلاق النار لأسباب ذاتية، فمن جهة حركة حماس كانت حجم المعاناة التي يمر بها غزة، وسلال الخسائر البشرية والمادية واستغاثة أهالي الجرحى، وتعنت السلطة برفض استمرار حكم حماس لغزة، والموقف الإقليمي والدولي المتفق مع الرؤية الأمريكية لليوم التالي للحرب غزة بلا حكم حماس وبإدارة السلطة الفلسطينية ومساندة وإشراف جهات دولية وإقليمية، ذلك أوصلها لقناعة لا مناص إلا بالخروج بهدنة تحقق من خلالها حتى لو انجازات قليلة قد تقف عند انسحاب كامل من غزة والإفراج عن جزء كبير من الأسرى في سجون الاحتلال.
أما الاحتلال خصوصا رئيس وزرائه نتنياهو فقد شكل فشل العملية البرية في استعادة أسرى الاحتلال على قيد الحياة والاستمرار في الوصول إلى أسراهم قتلى عبئا أمام أهالي الأسرى والمجتمع الإسرائيلي، إلى جانب حجم الخسائر في جنود الاحتلال المستمر كلما طالت العملية البرية والتي يتحمل مسؤوليتها بدرجة كبيرة خصوصا بعد أن أعلنت قيادة الجيش انتهاء أهداف العملية البرية، وأن الاستمرار يكبد الجيش خسائر مادية وبشرية بلا جدوى، إضافة إلى حاجة نتنياهو إلى إنجاز سياسي لا يستطيع تحقيقه إلا بالتحالف مع الإدارة الأمريكية الجديدة وإعطائها شرف إيقاف حرب غزة.
أوراق مكشوفة ومعادلات معقدة ومواقف متغيرة تحكمها نوايا ورغبات مختلفة، تعجز أمامها كافة العلاقات والضغوطات والمحاولات التي تجري من أجل وقف الحرب وتغيير المعادلة اليمينية القائمة في كلا الاتجاهين، والراجح أننا أمام عمليات جزئية لا كلية، يحتم نجاحها وثباتها قدر الوسطاء على فرض الهدنة بالقوة.