أفريقيا

أزمة القانون الأسري الجزائري تحت قبة البرلمان

الدولة الجزائرية لم تؤسس مراكز وطنية مكرّسة للبحث في المسائل الاجتماعية المتصلة بعلاقات الأبناء بالآباء في المجتمع الجزائري، وما زالت ماهيته الصلبة تقليدية. وفي الحقيقة هناك دراسات مهمّة أنجزها باحثون جزائريون ولكنها لم تؤخذ في الاعتبار.

يحاول البرلمان الجزائري استدراك النقائص القانونية التي أدّت ولا تزال تؤدي بفئات مهمّة من المجتمع الجزائري إلى التهميش والإقصاء، وتتمثل أبرزها في العجزة الذين لا يجدون السند المالي والنفسي والأمن الاجتماعي عندما تضيق بهم السبل، حيث يُقذف بهم في دور العجزة ويعيشون معزولين، وكثيراً ما يتوفون ويدفنون مثل الغرباء.

في هذا الإطار، تناقلت الصحف الجزائرية هذا الأسبوع خبر تقديم عدد من أعضاء البرلمان الجزائري مقترح، بتحفيز من البرلمانية الجزائرية ليلى اليازيدي، يهدف إلى سنَ قانون صارم يمنع الأبناء من إجبار آبائهم وأمهاتهم على ترك بيوت عائلاتهم والانتقال إلى بيوت العجزة بالقوة ومن دون رضاهم. وفي الواقع، فإنّ تخلّي الأبناء عن آبائهم قد أصبح أمراً شائعاً منذ مدة طويلة، الأمر الذي أحدث تمزقات ضمن البنية العائلية الجزائرية التي تميّزت في الماضي بالتماسك والعيش في مناخ التكافل والتعاون والتضامن.

وفي هذا الخصوص، يتساءل المتخصّصون في القانون الأسري الجزائري عن السبب وراء عدم قيام الحكومة الجزائرية بإطلاق مبادرة لتبنّي هذا المشروع وتقديمه إلى البرلمان؟ ولماذا لم تطرح الأحزاب السياسية مثل هذا المقترح أمام البرلمان، علماً أنّها ممثلة فيه ويُفترض أنّها الأكثر قرباً من المشكلات التي تعاني منها العائلات في الجزائر العميقة، وبينها مشاكل ذوي الاحتياجات الخاصة والعجزة، ذكوراً وإناثاً؟

بداية، يرى هؤلاء المتخصصون أنّ ظاهرة تخلّي الأبناء عن مسؤولية رعاية آبائهم وأمهاتهم حتى وفاتهم يمثل انحرافاً خطيراً في المجتمع الجزائري وتقاليده التاريخية، كما يعتقد هؤلاء أنّ هذه الظاهرة لم تنزل من كوكب نبتون وإنما هي نتيجة عوامل عدة مترابطة تكرّست في ظلّ غياب دولة الرعاية الاجتماعية ومجتمع مدني مؤسس على قواعد أخلاقيات التكافل.

ومن هذه العوامل على سبيل المثال، استيراد الجزائر، منذ وصول الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلى الحكم، النموذج الرأسمالي المتناقض مع أسلوب الحياة الاجتماعية الوطنية، والذي نتجت منه أزمات أخلاقية واقتصادية واجتماعية قد فكفكت فعلاً النسق الأسري الجزائري، وبخاصة نسيج العائلات الفقيرة في الأرياف والمدن.

هناك أيضاً عامل آخر لا يقلّ خطورة عن العوامل المذكورة آنفاً ويتلخّص في استمرار أزمة السكن النمطية التي بسببها تُحشر آلاف العائلات الكبيرة في منازل صغيرة جداً لا تتسع لأكثر من شخصين، أو في أكواخ مهلهلة تضيق بأفراد الأُسر ولا تتوفر فيها شروط العيش لأفرادها.

يمكن الإشارة أيضاً إلى عامل سلبي آخر وهو كثرة حالات الطلاق والعنوسة التي صارت تفضي بشكل حاد إلى بروز المشكلات السلوكية ذات الطابع الإقصائي وانتشار الأنانية داخل النسيج العائلي. وفي هذا الخصوص بالذات، تقدّر الجهات المتخصّصة في الإحصاء العائلي عدد اللواتي يعانين العنوسة بحوالى 11 مليون شابة جزائرية. وفي الواقع فإنّ الحكومات الجزائرية المتعاقبة ليس لديها استراتيجيات دولة الرعاية الاجتماعية المتطورة، بما في ذلك رعاية المسنين وفق أطر وشروط عصرية تضمن الحياة الكريمة للطاعنين في السن.

وزيادة على ما تقدّم، فإنّ السلطات الجزائرية لم تفتح نقاشاً جدّياً، بمشاركة تنظيمات المجتمع المدني، حول سلسلة التغيّرات التي شهدها المجتمع الجزائري، والتي تؤثر عميقاً في نسيج الأسرة الجزائرية. فقد أشار عدد من دارسي علم الاجتماع في الجزائر إلى ظهور بوادر انقسام وتشظي العائلة، ولكن السلطات لم تهتم بذلك، بل اكتفت في فترة الثمانينات من القرن الماضي بتكليف لجنة وطنية لإنجاز ملف الأسرة، وذلك في عهد احتكار حزب جبهة التحرير الوطني، فضاء الساحة السياسية الوطنية، ويلاحظ أنّ ذلك الملف قد تغلّبت على أدبياته الشعارات الفضفاضة غير القابلة للترجمة إلى الواقع.

ومن ناحية أخرى، فإنّ الدولة الجزائرية لم تؤسس مراكز وطنية مكرّسة للبحث في المسائل الاجتماعية المتصلة بعلاقات الأبناء بالآباء في المجتمع الجزائري، وما زالت ماهيته الصلبة تقليدية. وفي الحقيقة هناك دراسات مهمّة أنجزها باحثون جزائريون ولكنها لم تؤخذ في الاعتبار، رغم أنّها قد توقّعت مبكراً الأخطار التي أصبحت تظهّر ضمن بنية الأسرة المشكلات التي يفرزها تعاقب الأجيال وما ينتج من كل ذلك من تناقضات في السلوك والحس بالانتماء.

وأشار أحد زعماء حركة التحرّر الوطني وهو مصطفى الأشرف في كتابه المعروف “الجزائر أمة ومجتمع”، إلى اهمال السلطات الجزائرية حلقة أسياسية تُعتبر من شروط بناء هوية الدولة العصرية، حيث نجده ينتقد بوضوح عدم المرور طوال فترة الاستقلال في طور المجتمع الحداثي أولاً، وجعله مصدراً ينشأ منه طور الدولة الحديثة وأجهزتها السياسية لاحقاً.

وفي هذا السياق أيضاً، أهملت السلطات الجزائرية تفعيل أفكار مفكر آخر كان قد ساهم في حركة التحرر الوطني الجزائري، وعاين من كثب بعض تفاصيل المشكلات النفسية والثقافية والاجتماعية ضمن بنية الأسرة الجزائرية التقليدية، وهو فرانز فانون، الذي دقّ ناقوس الخطر مبكراً في كتابه “العام الخامس للثورة الجزائرية”، وذلك من خلال ملاحظته التي سجّلها في مقاله عن “الأسرة الجزائرية” حين قال إنّ الأب الجزائري “على صعيد الوعي الوطني قد بات يعاني تأخراً هائلاً عن الابن”، علما أنّ هذا التأخّر الذي أشار إليه فانون لم يُعالج في مرحلة الاستقلال، رغم علم السلطات السياسية بوجود تناقضات جذرية بين رؤية الآباء للحياة وللأسرة، وبين رؤية الأبناء في مرحلة الاستقلال.

لقد ساهم عدم معالجة هذه التناقضات في تعميق الهوة الفاصلة التي ما فتئت تظهر آثارها وتداعياتها إلى السطح في وقتنا الراهن، وتتسبّب في إفراز سلوكيات نفور الأبناء من آبائهم مادياً وعاطفياً.

أزراج عمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى