تونس

أزمة الإعلام في تونس: متى حلّها

يتزايد الحديث في تونس عن الدور الذي يُفترض أن يقوم به القطاع الإعلامي من توجيه للرأي العام وتوعيته بالمرحلة الدقيقة التي تعيشها البلاد وأهمية أن يكون للدولة قطاع فاعل يتماشى وطبيعة الاستحقاقات المنتظرة مستقبلاً. لكن على الجانب الآخر، هل تعي السلطة مدى أهمية أن يحظى هذا القطاع الحيوي بنصيبه من الإصلاح والدعم ليستعيد عافيته ويصبح مؤهلاً للقيام بدوره على أكمل وجه؟

أثبتت التجارب أن الدول التي شقّت طريقها إلى الإقلاع والتقدم هي تلك التي أولت أهمية كبيرة لهذا القطاع وراهنت عليه بتحفيزه وتمكينه من جميع الآليات المساعدة على النجاح باعتباره مرآة عاكسة لأيّ نشاط أو فعل تقوم به الدولة.

القطاع الإعلامي أحد أبرز القطاعات الحيوية في تونس، لكنه للأسف ظل رهين التقلّبات السياسية التي عاشتها البلاد ومرّ بفترات متراوحة بين الرقابة والتشديد (زمن الدكتاتورية) إلى التحرّر والانفلات زمن المد الثوري بعد 2011 إلى ما دونهما، حتى بات البعض يشكك في محاولات إصلاحه تفاعلاً مع ما تعيشه تونس اليوم من تحولات بعد المسار التصحيحي الذي رسمه الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021.

يرى البعض أن منظومة الإعلام في تونس عليلة وتعيش مرحلة حرجة، حتى أن هناك من وصف القطاع الإعلامي بكونه انتقل من مرحلة الموت السريري إلى الموت الحقيقي، ويتجه نحو الإعلان عن انهياره بالكامل. وسرعان ما تتأكد هذه المقاربة، التي وإن اختلف النقاد في تحليلها إلا أنهم يجمعون على كون منظومة الإعلام في تونس، سواء أكانت مكتوبة أم سمعية أم بصرية، قد انهارت بالكامل ولم تعد تؤدي الدور الموكول إليها.

يستند أصحاب هذا الرأي على بعض القرائن لتفسير آرائهم، ومنها أن عناصر المنظومة الإعلامية، من إطار قانوني تشريعي وهيئات تعديلية وتسييرية وسياسات عمومية ومؤسسات إعلامية وصحفية ومنظومة تكوين وتدريب، لم تعد تشتغل في تناسق تام في ما بينها وتعرضت لعطب عطّل استمراريتها.

إقرأ أيضا : مصر والصومال رهن المد والجزر مع إثيوبيا

ما يؤكد هذه التحليلات ما تعيشه سوق الصحافة الورقية التي بالكاد تقاوم، خصوصاً في ظل السيطرة التي تفرضها الوسائط الاجتماعية وطفرة السوشيال ميديا، وما بقي منها من صحف فهو يشتغل بطريقة تكاد تكون اصطناعية.

يبدو أن هذا الخلل الذي حصل في مكونات المنظومة الإعلامية وتسبب في تفكّك عناصرها انعكس سلباً على كيفية اشتغالها، لذلك باتت عاجزة عن تحقيق الوظيفة التي من أجلها أنشئت وهي تقديم خدمة إعلامية وبرمجية تكون ذات جدوى ومقبولة في حدها الأدنى.

لكن المشكلة أن هناك حالة عامة من المغالاة تعيشها تونس، في ظلها لم يعد هناك من يهتم بالقطاع الإعلامي، والحال أن تراجع الإعلام وانهياره يعني انهيار نظام أساسي داخل المجتمع، ومن نتائجه الأولى أن المواطن أصبح يعيش في مجتمع تسوده حالة من الانقسام والتشظي بسبب الأيديولوجيات التي باتت تحرّكه.

حينما يفقد التونسي مرآته العاكسة التي ينظر فيها ومن خلالها إلى نفسه، فذلك مؤشر خطير على انهيارات أخرى قد تضرب المجتمع، منها إمكانية أن يتم التلاعب بجمهور واسع والتحكم فيه. والأهم من ذلك أنه حين يفقد المرء الثقة في الإعلام ويتم التشكيك في مصداقية مختلف المؤسسات الإعلامية، فذلك مؤشر خطير على أن المجال قد فُتح أمام قوى خارجية وقوى أجنبية للتحكم في المجتمع وتضليله من خلال المعلومة وتقديمها على أنها أصدق مما يقدمه الإعلام المحلي.

للأسف، لقد تم التفريط في الرأي العام التونسي لصالح قوى التضليل والجيوش الإلكترونية بمختلف شبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت المصدر الأول للمعلومة، حتى بات فيسبوك وتويتر وغيرهما من الوسائط الاجتماعية منابر إعلامية تقوم بدور الإعلام كما تشاء ومثلما تشاء وفق أهوائها وغرائزها وما تريد إيصاله للناس وتوجيه آرائهم.

حين تم التغافل عن قطاع الإعلام ولم تتخذ خطوات للتدخل لإصلاحه وإنقاذه وتم تركه لينهار، سلمت تونس صناعة وتوجيه الرأي العام إلى قوى أخرى مؤثرة. والأخطر من كل ذلك وجود إستراتيجيات لتوظيف الصحافة والإعلام لفائدة غايات اتصالية وتحولها إلى حلقة وصل وظفت لخدمة بعض السياسيين والترويج لأنشطتهم.

السياسي المحنك والواعي هو الذي يؤمن بأن من مصلحته أن تكون هناك صحافة قوية ووسائل إعلام فاعلة تقوم بدورها على أكمل وجه، والأهم أن يسعى لتوفير بيئة مساندة لمختلف هذه الوسائل للقيام بدورها.

حماية المجتمع تحتاج إعلاماً قوياً ومهنياً قادراً على تقديم المعلومة. وعكس ذلك، في حالة انهيار منظومة الإعلام المحلي يحصل التلاعب بالعقول، ويتم إنتاج مجتمع متقلب تتحكم فيه أيديولوجيات مقيتة وجيوش إلكترونية مأجورة. وفي تونس لا تزال قوى الدولة العميقة تلعب على هذا المضمار، واهمة أن من شأنها أن تنجح في تضليل التونسيين ومحاولة استمالتهم.

الدولة دون سواها هي الجهة المؤهلة لإنقاذ الإعلام، ولا يمكن لأهل المهنة إلا أن يساهموا في دعم هذه الخطوة إن وجدت. عملية إنقاذ القطاع الإعلامي في تونس تحتاج إلى إستراتيجية واضحة تكون متسقة مع التطلعات التي ترسمها الدولة للنهوض بالاقتصاد والتعليم والرياضة والسياحة والنقل وغيرها. فقط ما يحتاجه الإعلامي النزيه أو من يحمل على عاتقه أن يكون منتمياً إلى السلطة الرابعة بمسمّاها التونسي أن يكون شريكاً في التغيير بمسمياته وفعله مهما كان إطاره والمكان الذي وجد فيه.

القطاع الإعلامي في تونس يجب أن يُنظر إليه من زاوية أخرى بتشريكه وتحفيزه، والأهم محاولة تقديم الدعم له ليكون شريكاً فاعلاً ومحرّكاً أساسياً لفعل التنمية والنهوض بتونس التي يجب أن تكون.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى