استخدمت إدارة بايدن “حق” الفيتو ضد الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة كبديل للاحتلال الإسرائيلي المزمن، وضد إرادة 12 دولة عضوا في مجلس الأمن، وضد إرادة 139 دولة في الجمعية العامة وجلهم صوتوا لصالح إقامة دولة بالمواصفات المعتمدة من قبل الأمم المتحدة.
لم يكن “الفيتو” الأميركي مفاجئا فقد اعتاد الشعب الفلسطيني على هذا “الفيتو” الصادر عن الإدارات الأميركية المتعاقبة من موقع تشاركها مع دولة الاحتلال ونظامها الاستعماري العنصري في منع وكبح وإحباط الحق المشروع للشعب الفلسطيني في نيل حريته منذ نكبة 48 وحتى يومنا هذا.
وجه الغرابة الأول بعد 7 أكتوبر يتبدى، في إسهاب الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، في الحديث عن حل الدولتين، وفي حث حكومة نتنياهو على تحديد رؤية سياسية تكون ناظما للحرب وتؤدي إلى حل سياسي، عرَّفته الإدارة بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن الإدارة استخدمت “الفيتو” ضد المحاولة الفلسطينية المدعومة من الأكثرية المطلقة من دول العالم لنقل مشروع الحل من حيز القول إلى حيز الفعل. ووجه الغرابة الثاني هو إدارة الظهر للمطالب الأميركية الشعبية ومن داخل الكونغرس التي طالبت بوضع شروط على تزويد إسرائيل بصفقات السلاح كالتوقف عن استهداف الأبرياء الفلسطينيين وتزويد المواطنين في قطاع غزة بالغذاء والدواء والعلاج. لكن إدارة بايدن منحت 26 مليار دولار لإسرائيل بدون قيد أوشرط. ما هو سبب المناورتين الأميركيتين والعمل في اتجاههما المعاكس؟
تحدثت وسائل الإعلام عن انحياز إدارة بايدن لمنع الانجرار إلى حرب إقليمية بين إيران والمنظمات المسلحة التابعة لها، وإسرائيل، فقد تطول الحرب وتؤدي إلى خسائر اقتصادية وبشرية ودمار، تشوش علاقات الهيمنة القائمة والمحتملة، وتمس المصالح الأميركية الإسرائيلية. تحدثت وسائل إعلام عن توصل إدارة بايدن إلى تفاهمات تخفض بموجبها دولة الاحتلال من غلواء ردها العسكري على هجوم الصواريخ والمسيرات الإيرانية، مقابل تأييد أميركي للهجوم على رفح، مع الأخذ بمحاذير تحول دون ارتكاب مجازر كبيرة. ويُعتقد أن إدارة بايدن وعدت نتنياهو باستخدام “الفيتو” في مجلس الأمن ضد مشروع الاعتراف بعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، فضلا عن تيسير مشروع الدعم الدعم الأميركي لإسرائيل بـ 26 مليار دولار بلا قيد أو شرط.
وكانت إدارة بايدن قد ساهمت في هندسة الهجوم الإيراني بحيث لا يستهدف مدنيين ولا يلحق خسائر اقتصادية، وساهمت في صده وحولته إلى هجوم رمزي يحافظ على ماء وجه إيران ولا يوقع خسائر إسرائيلية.
التبرير الأميركي لاستخدام “الفيتو” قدم عذرا أقبح من ذنب. والعذر يقول، إن الدولة الفلسطينية تكون فقط عبر التفاوض والتفاهم الفلسطيني – الإسرائيلي. في الوقت الذي يعلم فيه بايدن وبلينكن، أن نتنياهو صعد إلى الحكم في العام 1996 بمواقف رافضة للدولة الفلسطينية، ورافضة بما هو أقل منها وهو حكم ذاتي بمرجعية اتفاق أوسلو. وقد عزز موقفه المعادي لإقامة دولة فلسطينية من خلال إطلاق العنان للاستيطان في طول وعرض الضفة الغربية ومدينة القدس، وممارسة أشكال من التطهير العرقي في القدس والأغوار والخليل، وفي فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية ومأسسة الانقسام الفلسطيني.
حتى، عندما تلفظ نتنياهو بدولة فلسطينية وضع شروطا تعجيزية تَنفي وجودها جملة وتفصيلا، كالاعتراف بيهودية الدولة، وشطب قضية اللاجئين، واعتبار مدينة القدس خارج التفاوض، والمستوطنات محسومة البقاء. لقد أوقفت حكومة نتنياهو التفاوض العام 2014. ومنذ ذلك الوقت شهد الموقف الإسرائيلي انحدارا متتاليا، مسجلا انعطافة نوعية بإقرار قانون القومية في العام 2018 الذي اعتبر – حق تقرير المصير على جميع أراضي فلسطين التاريخية هو حق حصري للشعب اليهودي – وما يعنيه ذلك من إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وانعطافة أخرى بتشكيل حكومة نتنياهو ــ بن غفير التي كرر برنامجها الحق الحصري للشعب اليهودي في كامل الأرض واعتمد سياسة استيطان في كل مكان، وقد تحول الاستيطان إلى أهم بند على جدول أعمال الحكومة من زاوية تخصيص الموازنات الضخمة ونشر البؤر الاستيطانية والشروع ببناء آلاف الوحدات السكنية في كل المستوطنات وصولا إلى رفض صريح وقاطع للدولة الفلسطينية، والتراجع حتى عن اتفاق أوسلو، بنزع كل صلاحيات السلطة باستثناء التنسيق الأمني، وجردها من أهم مصدر مالي – المقاصة -.
عندما تربط إدارة بايدن إقامة دولة فلسطينية بموافقة حكومة إسرائيلية تعمل ليل نهار على تقويض مقوماتها على الأرض، فإن مثل هذا الربط لا يحترم العقل وليس له تفسير غير التساوق مع الموقف العدمي الإسرائيلي. وحدث التساوق فعلا عندما لم تُعد إدارة بايدن فتح مكتب “م.ت.ف” في واشنطن، ولم تُعد فتح القنصلية في القدس، ولم تتراجع عن قرار ضم القدس واعتبارها بشطريها عاصمة موحدة لإسرائيل، ولم تُعد الدعم للسلطة الفلسطينية، بمعنى آخر، لم تتراجع عن تركة ترامب – صفقة القرن وتطبيقاتها على الأرض -.
وتساوقت إدارة بايدن مع حكومة بينيت/ لابيد التي اعتبرت أن الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي غير قابل للحل، وأن أقصى ما يمكن عمله هو خفض التوتر، وتحسين الوضع المعيشي، فقط التنسيق الأمني هو الشيء المشترك الوحيد.
بعد 7 أكتوبر والعدوان الإسرائيلي الشامل على غزة، والاشتباك الإسرائيلي مع ايران في عمليتين متبادلتين كانتا تحت الضبط والسيطرة، انكشف الاعتماد الإسرائيلي على أميركا والغرب عسكريا واقتصاديا وسياسيا، بصيغة التقاء المصالح، والتحالف معا دفاعا عنها. بعد 7 أكتوبر، فتحت مخازن السلاح وصناديق المال، وحج زعماء الغرب إلى تل أبيب تعبيرا عن دعم الحلفاء المفتوح. ومن المنطقي أن يتشارك الحلفاء المواقف وعلى الأقل ألا يكون التنافر في المواقف بالمستوى الذي عبرت عنه ومارسته كل من اسرائيل وأميركا والغرب في الموضوع الفلسطيني حدث ذلك قبل استخدام “الفيتو” ولكن مع استخدام “الفيتو” وتقديم المليارات بدون شروط، حدث الانسجام بين الموقف الأميركي والموقف الإسرائيلي.
هذا ينقلنا إلى قضية أخرى، وهي أن نظام التوحش الرأسمالي، لا يحترم الضعفاء ويتجاهل حقوقهم كما يتجاهل القوانين والمعاهدات والمواثيق إذا تعارضت مع مصالحه. حاولت الحركة السياسية الفلسطينية الخروج من موقع الضعفاء إبان الثورة المسلحة في الأعوام 65- 90 بالاعتماد على النظام العربي لكنها أخفقت في زمن كامب ديفيد وتحولات النظام العربي، ولأن مستوى الاعتماد على الشعب الفلسطيني كان ضعيفا وتكتيكيا.
وحاول الإسلام السياسي الخروج من موقع الضعفاء وها هو يخفق بسبب قيود الأيديولوجيا ومصالح النظام الإيراني الضيقة، وبسبب استخدام الشعب والتفريط بوجوده. ومن الطبيعي أننا لن نتجاوز حالة الضعف ما لم نتجاوز أسباب الإخفاق.