مشهد سوري جديد، تتسارع أحداثه المباغتة التي أطلقتها فصائل المعارضة بدءا من سقوط حلب- المدينة الإستراتيجية- وتمددها باتجاه حماة وحمص، لتقلب “لغة القوة” موازين الخريطة العسكرية وتعرض نفوذ الأسد وحلفائه إلى الخطر برقعة اللعب السورية.
فبشار الأسد الذي صمد حكمه طيلة 13 عاما بدعم عسكري كبير قدمته روسيا وإيران، إذ أنقذت تفاهمات موسكو وطهران من سقوط حكومة دمشق، وتوسيع قبضة بشار بملعب سوريا بموجب اتفاقات “خفض التصعيد”.
يواجه حكم الأسد “طوفان” التصعيد بالساحة السورية، فبعد سبات لمناوئي الأسد، عادت جبهة “تحرير الشام” للعب أوراقها السياسية بوجه النظام بين ليلة وضحاها، لتتبدل معها خرائط السيطرة لكفة المعارضة، وتربك حسابات الأسد وحلفائه أمام المشهد المتفجر في سوريا.
ليلة سقوط حلب عام 2012، احتاجت حكومة دمشق إلى 4 سنوات لاستعادة حلب بعد سقوط جزء منها بيد المعارضة، في حين سيطرت عليها تحرير الشام الآن في أقل من 4 أيام، وهو مشهد، لم يكن التوقيت فيه مصادفة في شرق أوسط تتعدد فيه جبهات الصراع ولا تنتهي.
فسقوط حلب تزامن مع إعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ليقلب هجوم فصائل المعارضة السورية المفاجئ بـ “معركة ردع العدوان”، المشهد السوري رأسا على عقب.
فحلب ثاني كبرى المدن السورية وبوابة الشمال السوري، أصبحت خارج سيطرة حكومة دمشق، ويعد سقوطها تحولًا إستراتيجيًا كبيرًا في مسار الحرب السورية.
بالتالي، تعرض النظام السوري وداعميه التقليديين الروس والإيرانيين لأكبر الضربات العسكرية وقُرب بوصلتها من باب دمشق مع التغير السريع على الأرض، سيكون له الأثر البعيد على إعادة تشكيل ميزان القوى بسوريا.
اقرأ أيضا.. التغيير بالسلاح لن يضمن غداً أفضل لسوريا
خريف الأسد
ربما أخطأ بشار الأسد عندما اعتقد أنه خرج منتصرا بحرب هي الأطول في القرن الحادي والعشرين، ومراهنته الدائمة على حلفائه بموسكو وطهران، اللذان هبًا لإنقاذ كرسي حكمه في 2015، وثبتا “شرعية سلطته” طوال هذه السنوات، ورسمت هذه القوى في تلك الفترة خطوط أمر واقع بالملعب السوري سياسيا وعسكريا.
زيادة على ذلك، فبشار الطبيب الذي ورث رئاسة سوريا، ظن أن بمسكه العصا من الوسط ستفك عزلته العربية، مع بوادر الترحاب في الحضن العربي وتعويمه، وبالتالي إعادة دمشق إلى معسكرها العربي، فالقادة العرب راهنوا على بقاء الأسد هناك بدل الفوضى التي يمكن أن يسفر عنها سقوطه.
ومع التجميد التدريجي للأزمة وسيطرة الخطوط النظامية وقضم المزيد من المناطق لصالحه، في ظل خفوت أصوات المعارك في خرائط سوريا، تراجع الاهتمام الدولي بما يحدث في ذلك البلد، وساد اعتقاد بأن بشار الأسد هو المنتصر الحتمي بالجبهة السياسية السورية.
بعدها، أدارت عواصم العالم ظهرها لملفات أخرى بالمنطقة، فيما توقفت الدبلوماسية الموجهة نحو سوريا تقريبا، وصرفت انتباهها عن دمشق في الوقت الذي انهار فيه النظام السوري من الداخل بتدهور اقتصاده بعد أن حوّلته آلة الحرب خلال العقد الأخير إلى اقتصاد هش يعاني من تفتت وانتكاسات ويظهر ذلك من خلال ارتفع الدين العام للبلاد لنحو 208% نسبة إلى الناتج المحلي، وفقدان العملة المحلية نحو 97% من قيمتها، لتبلغ خسائر الاقتصاد نحو 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة، بحسب دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات.
بقاء الأسد بكرسي حكمه لم يغير من معاناة السوريين بشيء، بل تفاقمت الأزمة الإنسانية في السنوات الأخيرة، إذ تقول الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 90 بالمئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر، وأن الأسد لم يفلح باحتواء الأزمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إفلاس الدولة.
المستنقع الأوكراني
“دلال” بشار الأسد على داعمه الأكبر سيد الكرملين، تبدلت أحواله مع غرق روسيا برمال أوكرانيا وخوض الروس حرب استنزاف طويلة هناك، ما فتح شهية فصائل المعارضة على شن هجمات مفاجئة لاسترجاع سيرة صراع لم يحسم منذ 2011.
فالحرب التي يخوضها جيش بوتين في أوكرانيا منذ فبراير/ شباط 2024 قلصت كثيرا من إمكانات موسكو العسكرية، وفرضت الأحداث الأخيرة الاستعانة بعناصر أجنبية في القتال ضد الأوكران، من بينهم سوريون أرسلوا من مناطق نفوذ الأسد إلى جبهة الحرب رداً لمعروف بوتين على أمل تمديد حكمه.
ولًى ذلك الزمن وتغيرت معها خارطة النفوذ القديمة، فروسيا لم تعد قادرة على الفعل بـ “سوريا الأسد”، وهو ما تهامس به مقربون من الكرملين “أنه لا خطة لدى روسيا لإنقاذ الرئيس بشار الأسد”، الأمر الذي يفسر غياب الدعم الروسي لقوات الأسد بمعارك الشمال السوري وإحجامها عن الهجمات الجوية، كسابق تدخلاتها في 2016 عندما شارك الروس برا وجوا لاستعادة شطر حلب الشرقية من قبضة الفصائل المعارضة.
طهران.. خيارات محدودة
خسر الأسد رهانه على “دعم موسكو” ولم يتبق بأوراقه سوى طهران وأذرعها التي تتمسك بالبوابة السورية، ورغم خطاب طهران المطمئن بأن سوريا جزء من استراتيجية طهران الإقليمية، باعتبار سوريا الحديقة الخلفية لعمليات إيران، فبسقوط نظام حليفها بسوريا ستخسر طهران حصتها بالكعكة السورية وسيتبعها خسارة لبنان أيضا وفرط عقد ما يسمى بـ “محور الممانعة”.
فحزب الله “الابن البكر” لطهران، لم يتعاف بعد من جراح حربه مع إسرائيل، بعد أن فقد كثيراً من قوته في لبنان وخارجه، وانشغاله بالتقاط أنفاسه من آلة الحرب الإسرائيلية، ففي عام 2015، اتكأت طهران على “حزب الله” لدعم جهود الأسد العسكرية.
أما الآن، فإن إيران غير قادرة على توفير أعداد كافية من المقاتلين للتصدي لتقدم المعارضة في الوقت الذي تحاول فيه طهران الموازنة بين تقديم الدعم لحليفتها دمشق وتجنب التصعيد مع القوى الدولية مثل إسرائيل والولايات المتحدة.
ربما فهمت طهران أن التطورات المتسارعة في الميدان السوري ليس قرارا بيد فصائل المعارضة على الخطوط الأمامية، بل هو رفع غطاء دولي لفتح صفحة أخرى سوريا بلا أسد.
“سوريا الأسد” شعار رفعه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد منذ تسلمه قيادة البلاد وصولا إلى وريث الرئاسة بشار، خارطة السيطرة الحالية تنبئ بعدم بقاء “الأسد إلى الأبد”.. لكن سوريا ستبقى رغم المساومات بكواليس “صراع الأمم”.