غزة

قراءة متأنية لأحداث متسارعة

هناك مشهد مغاير يثير تخوفات من أن القادم قد يكون أخطر وأسوأ وأن كل ما سبق لن يردع العدو عن تحقيق هدفه الاستراتيجي من الحرب وهو محاولة تصفية القضية الوطنية وإنهاء وجود السلطة في الضفة وإعادة ترتيب الوضع الجيواستراتيجي في قطاع غزة

عملية طوفان الأقصى الحمساوية كانت بالفعل وكأنها زلزال ضرب القضية الفلسطينية وكان له ارتدادات وتداعيات عربية ودولية لم تتوقف بعد مرور حوالي الثمانية أشهر. وتفاوتت التقييمات والتحليلات حول الحدث، وإن تجاوزنا الجدل حول الحدث بحد ذاته إن كان فعلا حمساويا خالصا يندرج في سياق حق المقاومة أم يندرج في سياق مؤامرة إسرائيلية حمساوية لتصفية القضية الوطنية وتكريس دولة غزة الحمساوية، فإن تداعيات الحدث أوجدت مشهدين متناقضين: الأول يُعطي انطباعا أوليا ومؤشرات بالتفاؤل وكأن القضية الفلسطينية تحقق تقدماً وأن العدو الصهيوني يخسر الحرب؛ والمشهد الآخر متشائم ولا يرى فيما جرى بعد عملية طوفان الأقصى إلا خرابا ودمارا ومؤشرات نكبة جديدة.

المؤشرات التي يعتمد عليها المتفائلون:

1- التقدم في وضعية فلسطين بالأمم المتحدة حيث اعترفت 143 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة بدولة فلسطين دولةً ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة.

2- مظاهرات الطلبة في أميركا والغرب والتحول في الرأي العام العالمي لصالح الفلسطينيين.

3- طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية بإصدار مذكرات جلب ومحاكمة قادة الاحتلال كمتهمين بارتكاب جرائم حرب.

4- إجراءات محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية كدولة تمارس جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وصدور قرار بوقف الأعمال العسكرية في رفح.

5- اعتراف مزيد من الدول الأوروبية بدولة للفلسطينيين، وآخرها ايرلندا والنرويج واسبانيا.

6- استمرار أعمال المقاومة وصمود الشعب ضد محاولات التهجير في قطاع غزة والضفة.

7- سقوط هيبة جيش الاحتلال وتآكل قوة الردع عنده بالإضافة الى تكبيده خسائر في الجند والعتاد.

هذا المشهد يوحي وكأن الخناق يضيق على إسرائيل وأنها تخسر استراتيجياً بالرغم مما تحققه ميدانياً، وهو مشهد إن كان يرفع معنويات قطاع كبير من الشعب ويجد قبولا عند المؤيدين والمتعاطفين مع المقاومة في غزة إلا أنه في نفس الوقت يجب لفت الانتباه إلى أن البعض يبالغ في تضخيم المشهد ويخلق وهما بأن القضية الفلسطينية بخير والمقاومة وخصوصا حركة حماس قادرة على تحقيق النصر على العدو. ومن جهة أخرى وبالرغم من إيجابيات هذا المشهد إلا أنه يجب التذكير بأن كل ما صدر عن الأمم المتحدة لصالح القضية الفلسطينية قرارات وتوصيات غير ملزمة ويمكن التراجع عنها من نفس الجهة التي أصدرتها. وهنا نستحضر قرار الجمعية العامة 3379 في عام 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية والذي تم التصويت عليه مرة أخرى في عام 1991 وتم الغائه من الجمعية العامة نفسها وللأسف فإن بعض الدول العربية امتنعت عن التصويت. كما يجب ألا ننسى أن عمر بعض القرارات الدولية الخاصة بفلسطين حوالي 75 سنة كقرار التقسيم 181 وقرار عودة اللاجئين 194 ولم تنفذ حتى الآن. حتى قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 وقرار 338 بعد حرب أكتوبر 1973 لم يتم تنفيذهما. بل إن ما صدر من قرارات من المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية فيثور جدل إن كانت ملزمة لإسرائيل أو غير ملزمة كما أن واشنطن قادرة على وقف تنفيذها في جميع الحالات.

أيضا يجب الحذر من المراهنات المريحة لهذا التحول في الرأي العام، فبالرغم من أهميته فلا يوجد حتى الآن حاضنة فلسطينية أو عربية أو إسلامية لهذا التحول يمكن البناء عليه وتطويره ومأسسته حتى لا يتلاشى مع مرور الزمن من خلال قوة سيطرة الإعلام والمال اليهودي في أميركا والغرب.

في المقابل هناك مشهد مغاير يثير تخوفات من أن القادم قد يكون أخطر وأسوأ وأن كل ما سبق لن يردع العدو عن تحقيق هدفه الاستراتيجي من الحرب وهو محاولة تصفية القضية الوطنية وإنهاء وجود السلطة في الضفة وإعادة ترتيب الوضع الجيواستراتيجي في قطاع غزة من خلال تهجير غالبية سكانه باتجاه سيناء وبعضهم عبر البحر مما يقطع الطريق على قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967.

المؤشرات في المشهد السياسي والميداني التي تثير القلق والخوف:

1- استمرار حرب الإبادة في الضفة وغزة خصوصا في قطاع غزة حيث التدمير الممنهج للبنية التحتية وقتل أكبر عدد من المدنيين دون اهتمام إسرائيل بما يجري دولياً.

2- تأييد غالبية الإسرائيليين لنتنياهو والحكومة اليمينية. حتى المعارضة متفقة مع الحكومة على الحرب وأهدافها الاستراتيجية وإن كانت تختلف معها في بعض التفاصيل.

3- إطالة أمد الحرب وإفشال إسرائيل كل جهود الوساطة وتحميل حركة حماس مسؤولية الفشل خصوصا في الجولات الأخيرة من المفاوضات.

4- استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل بالرغم مما يُقال حول خلافات بين الطرفين. بل إن موقف الإدارة الأميركية من الحرب أكثر تشدداً من موقف إسرائيل.

5- انكشاف ونهاية ما يسمى بالشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني وبالتالي نهاية المراهنة عليهم لإنصاف الشعب الفلسطيني والتأثير على سياسات تل أبيب وواشنطن، حيث يتأكد كل يوم أن القوة تتفوق على القانون والمصالح تسمو على المبادئ.

6- انكشاف محدودية تأثير الصين وروسيا في مجريات الحرب وكأن هناك تسليم بتفرد واشنطن في تدبير شؤون الشرق الأوسط.

7- حالة الموات عربياً في الدول المطبِعة وغير المطبِعة، رسمياً وشعبياً، وفي أفضل الحالات تتدخل بعض الدول كوسيط بين حماس وإسرائيل، وهي حالة يمكن تفسيرها وكأنها موافقة على حرب الإبادة لتصفية القضية الفلسطينية.

8- استنفار الجيش المصري وقيامه بمناورات بالذخيرة الحية في سيناء، في تزامن مع احتلال إسرائيل محور فيلادلفيا وعودة الحديث بصراحة عن التهجير إلى سيناء وإقامة دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء.

9- تشكيل اتحاد القبائل العربية، أو قبائل سيناء، برئاسة إبراهيم العرجاني ومنح هذا الأخير صلاحيات واسعة فيما يتعلق بمنطقة سيناء والتعامل مع فلسطينيي قطاع غزة.

10- زيارة وفد قطري لسيناء ومقابلة العرجاني وبحثهم إقامة مشاريع مشتركة. وحيث تتواجد قطر توجد الفتنة والتآمر.

11- استمرار الانقسام الفلسطيني وغياب مرجعية وطنية متفق عليها بالرغم من اعتراف غالبية دول العالم بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وأن السلطة الوطنية عنوان وتجسيد أولي للدولة الفلسطينية.

12- استمرار حركة حماس بالتفرد بكل ما يتعلق بمستقبل القطاع بمعزل عن التوافق الوطني واستمرار رفضها لتواجد أي سلطة فلسطينية غير سلطتها.

ما بين المشهد الأول والمشهد الثاني فجوة كبيرة. وإن كانت مكونات المشهد الأول تعتبر تحولا إيجابيا إلا أن تأثيرها راهنا في تغيير الواقع الميداني وسياسات الدول لصالح فلسطين يبقى محدودا أو بعيد المدى، والمبالغة في التركيز والمراهنة عليها في التأثير على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي راهنا هو هروب من الواقع ومن استحقاقات علينا كفلسطينيين يفترض أننا أصحاب القضية القيام بها، ونقطة المنطلق لإحداث تغيير حقيقي يبدأ بإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق وحدة وطنية والتوافق حول الهدف واستراتيجية تحقيقه في إطار منظمة التحرير الفلسطينية المتجددة، وأن تتحرك الجماهير العربية بنفس قوة حراك الشعوب في الغرب وأن يتم وقف التطبيع الإسرائيلي العربي، فما يرعب الإسرائيليين ويدفع الإدارة الاميركية لتغيير مواقفها هو الوحدة الوطنية الفلسطينية ووحدة الموقف العربي.

نعلم أن أي حديث عن انهاء الانقسام والوحدة الوطنية بات ممجوجا وفاقدا للمصداقية في ظل نفس الطبقة السياسية الموجودة، كما أن المراهنة على تغيير العرب لمواقفهم مستبعد في المدى القريب، ولكن إن استمر حالنا على ما هو عليه ستستكمل إسرائيل مخططاتها في إحداث نكبة جديد أكبر وأخطر بكثير من نكبة 1948. وستقوم دولة غزة كحل لحل الدولتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى