أحرز وزير الخارجية أسعد الشيباني حضوراً إقليمياً مهماً، يتناسب مع الدولة التي يمثّلها، وأن سورية دولة أساسية في المنطقة. قاد أحمد الشرع ومطبخه السياسي إدارةً مميّزةً لملفّ العلاقات الخارجية، محاولين تصفير المشكلات مع الدول المحيطة بسورية، وانتهت بزيارة أول زعيم عربي دمشق، أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، مهنئاً، ومرسّخاً شرعية الشرع، وقد أسهمت زيارته هذه في ذهاب الشرع إلى السعودية وتركيا. وتعزّزت صفة الانتقالي للشرع بلقاء أمير قطر وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والرئيس التركي أردوغان، وهذا يمثّل استعادةً لدور سورية الإقليمي.
لم تكن خطوات الفِكَر التي أعلنها الشرع بخصوص المرحلة الانتقالية دقيقة بما يكفي لشرعنته خارجياً وداخلياً، فهو اختير عبر الفصائل العسكرية، أي عبر الشرعية الثورية، وبدلاً من أن يُعلِن إعلاناً دستورياً ينظّم كيفية تشكيل الحكومة الانتقالية، والتمهيد للمؤتمر الوطني العام، أي عبر الشرعية الدستورية، كُلّف بتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت. وبذلك، يتحكّم الشرع في كل خطوات المرحلة الانتقالية، وقد قلّص من أهمية المؤتمر الوطني بجعله مؤتمراً للحوار الوطني، أي لم يعد المؤتمر مصدرَ الشرعية، بل وظيفته المشاورات والنقاشات العامّة. إن هذه الفِكَر لا تستجيب لجوهر القرار 2254، وفيها استبعاد (ولنقل تهميش) لدور الفعّاليات الاقتصادية والثقافية والسياسية في المرحلة الانتقالية وكيفية السير بها. كان تعزيز شرعيته يقتضي، السير بخطوات الشرعية الدستورية، وتحديد موعد زمني لكلّ منها، والانفتاح الواسع تجاه الشخصيات الوطنية الفاعلة، للنقاش في القضايا المتعلّقة بإصلاح سياسات الدولة ومختلف مؤسّساتها. هنا نقطة ضعف شديدة، ستستفيد منها الدول المحيطة، ومنها تركيا والسعودية، ولا سيّما أن المرحلة الانتقالية في سورية ستطول أربع سنوات أو خمساً، كما أشار الشرع.
تعاني الإدارة الجديدة العقوبات المالية والأمنية الأميركية ضدّ النظام السابق، وللعقوبات تأثير حاسم في الحدّ من الدعم الإقليمي للإدارة، وعلى كارثية الوضع الداخلي المتفاقم. مع ذلك، رفعت هذه الإدارة بعض العقوبات ستّة أشهر، والاتحاد الأوربي رفع بعضها سنةً. زيارة أمير قطر، وزيارتا الشرع السعودية وتركيا، هي (في جانب منها) للتباحث في كيفية المساعدة في رفع العقوبات ومسألة إعادة الإعمار، وإذ كان هناك ضرورة كبيرة لإبعاد الشخصيات المُعاقَبة من إدارة الشرع، وعدم تمثيلها في أيّ مناصب سيادية، فهناك ضرورة للاستعانة بجوهر القرارات الدولية الخاصّة بسورية، كقراري مجلس الأمن 2254 و2118، للتخفيف من الضغطين الإقليمي والعالمي. إن خطّة الشرع، وانطلاقاً من تكليف الفصائل له قيادة المرحلة الانتقالية، لا تتوافق مع هذه القرارات، ولكن إعلان حكومة من خارج الإدارة، وأن تكون تمثيلية لكل السوريين، سيساعد في العودة إلى الشرعية الدستورية، وضمناً لو ذهب نحو التمهيد للمؤتمر الوطني العام مرجعيةً للشرعية المذكورة، وهذا سيساعد في تعزيز مناخات الثقة الداخلية، والخارجية كذلك.
غيّر إسقاط النظام السوري في 8 ديسمبر (2024)، كل المعادلات الإقليمية، وأنهى محوراً كان يبتزّ دول المنطقة. التغيير السوري فرصة ثمينة لتقارب عربي واسع، وعربي وتركي، وهو كذلك فرصة لعقد اتفاقيات السلام مع الدولة الصهيونية، شريطة الخروج من سورية، واستعادة الجولان، ولبنان، وتشكيل الدولة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة في العام 1967. استغلّت الدولة الصهيونية سقوط النظام لتدمير البنية العسكرية السورية، والتقدّم نحو المحافظات الغربية لسورية، حتى مشارف العاصمة. إن هذا التغيير الذي تضرّر منه المحور الإيراني، ولا تنظر إليه الدولة الصهيونية بعين الارتياح، يتطلّب من المستفيدين منه دعماً واسعاً، ولا سيّما أن أزمات سورية معقّدة للغاية، في كل المجالات، وقوة سورية هي قوة للمستفيدين كذلك.
إقرأ أيضا : تحديات تتطلبها المرحلة الانتقالية في سوريا.. هل ينجح الشرع بالاختبار؟
اتفاق كلّ من السعودية وقطر (بصفة خاصّة) على دعم النظام الانتقالي مؤشّر إيجابي في تشكيل العلاقات الإقليمية من أجل رفع العقوبات ودعم الاستثمار في سورية وإعادة الإعمار، وهذا يتطلّب خطّةً وطنيةً من الإدارة السورية الجديدة، بما ينهض بمؤسّسات الدولة ودعم الشفافية فيها، وتعزيز استقلال القضاء والإعلام، وأن تتحدّد بدقّة المجالات الاقتصادية للاستثمار فيها، والتراجع عن تهميش دور الدولة الاقتصادي، وأن تضع السلطة، وبالتشاور مع كبار رجال الأعمال والخبراء والشخصيات الوطنية، تلك الخطّة بما يحدّد بدقّة موارد البلاد، وقدرات القطاع الخاصّ الوطنية، وحاجات البلاد الكبيرة للاستثمارات، ووضع القوانين الناظمة لهذه القضايا، وللاستثمارات الخارجية، وتحديد مجالاتها الاقتصادية.
زيارة الشرع تركيا واجبة، كما هي زيارة كلّ دولة عربية تبدي الرغبة في فتح علاقات ندّية ومتكافئة. تركيا دولة جارة، والحدود معها أكثر من 900 كيلومتر، ولعبت دوراً كبيراً في مساندة لشعب السوري في محنته منذ 2011. ولكن، وبعد تغيير النظام لا بدّ من علاقات تنطلق من سياسة خارجية تخدم المصالح السورية، وترفض أيّ تدخّلات في السياسة الداخلية. إن التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك، أو التوافق حول قواعد عسكرية في سورية، كما تنشر بعض التقارير الصحافية، يجب ألا ينطلق من الموقف من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو أيّ فصائل داخلية أو أيّ مشكلات داخلية في سورية. التشاور على أرضية الندّية هو الأصل، وأمّا المصالح المشتركة فتتأسّس، وفقاً للاعتبارات الداخلية، وبما يعزّز علاقات سورية مع دول المنطقة والعالم كافّة، ونستثني منها في الوقت الراهن كلّاً من إيران والدولة الصهيونية، نظراً إلى دور إيران في دعم النظام السابق ضدّ مصالح الشعب السوري، واحتلال إسرائيل مناطق واسعة غربي سورية.
تحقيق مصالح الشعب هو الأساس في إرساء العلاقات الخارجية، وهو الأساس في تشكيل النظام السياسي والدولة الجديدة، وضمن ذلك، لا بدّ من تشكيل حكومة وطنية ونشر الإعلان الدستوري المؤقّت، مدخلاً للمرحلة الانتقالية، وبما ينظّم شؤون السوريين، ويعزّز الأمن والخدمات العامّة، ولا بدّ من التحضير الدقيق للمؤتمر الوطني العام، وعدم إقامة أيّ اتفاقات عسكرية في هذه المرحلة، مع تركيا وسواها. يمكن عقد هذه الاتفاقيات حينما تحصل سورية على نظام دستوري، وشرعي، ويتحقّق هذا بعد إجراء الانتخابات العامّة، وانتخاب كلٍّ من المجلس النيابي ورئيس الجمهورية وحكومته، أي في نهاية المرحلة الانتقالية وتحقيق الاستقرار.