أبعد من غزة بكثير
الوقائع تؤكد أن القصة ليست قصة دفاع عن النفس، هذه مجرد ذريعة، ما حصل في غزة كان مخططاً له ليحصل، اذا لم يكن في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ففي يوم آخر. ما كان يمكن أن يستمر الحصار الاسرائيلي على غزة والضفة الغربية.
تتضح الصورة يوماً بعد يوم، ليست حرباً لاقتلاع “حماس” من غزة ولا لإبعاد “حزب الله” عن الحدود وإعادة سكان المستوطنات الشمالية. هي حرب أكبر من ذلك بكثير، ما يعيد تشكيل الأسئلة عن مقدماتها وخلفياتها ومآلاتها، وأيضاً عن عملية “طوفان الأقصى” وحرب “المساندة” وعن كل ما حدث خلال الإثني عشر شهراً الماضية.
تتدحرج الحرب ككرة ثلج، لكنها لا تتدحرج من تلقاء نفسها، تدحرجها اسرائيل، لا تدعها تتوقف، لا في غزة ولا في لبنان، ودائما بذريعة أنها ليست هي من بدأتها وأنها في حالة دفاع عن النفس، وأي دفاع عن النفس هذا الذي يغرق بلدين في الدمار والدماء؟
الوقائع تؤكد أن القصة ليست قصة دفاع عن النفس، هذه مجرد ذريعة، ما حصل في غزة كان مخططاً له ليحصل، اذا لم يكن في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ففي يوم آخر. ما كان يمكن أن يستمر الحصار الاسرائيلي على غزة والضفة الغربية والاعتداءات المتتالية على الفلسطينيين المدنيين والتضييق والقهر والإمعان في الإذلال من دون توقع حصول انفجار في يوم ما. وإسرائيل بمنظريها واستخباراتها وسياسييها كانت تعرف تماما أن الانفجار آت وكانت تتهيأ له وتعد العدة للانقضاض على غزة وعلى لبنان، لأنها كانت تعرف أيضا أن “حزب الله” لا يمكن الا أن ينخرط في حرب ما الى جانب “حماس” في غزة.
كل ما يجري في غزة ولبنان يجري وفق منطق منهجي: أطروحة ونقض الأطروحة والخلاصة. كل القرارات والعمليات تسير في سياقات مدروسة وفق مخططات موضوعة بعناية وبعد تقليب. لا تدخل اسرائيل في حروب من دون تخطيط لاستثمارها حتى أقصى حد. حتى الحروب التي تخسرها تستفيد منها في مرحلة لاحقة. حرب الـ 67 قضت على قرار التقسيم وعودة اللاجئين الذي رفضه العرب عام1947 ، حرب تشرين أخرجت مصر من الصراع العربي -الاسرائيلي، حرب الـ 1982 التي أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان مهدت لاتفاق أوسلو الذي أخرج منظمة التحرير من الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي، الحروب على غزة أدت الى سيطرة “حماس” على القطاع كلياً وصولاً إلى الحرب الأخيرة التي دمرت القطاع المجهول المصير حتى الآن بانتظار تسوية ما لن تعيد الأوضاع الى ما كانت عليه قبل الحرب الجارية حالياً.
الحرب في المنطقة حالياً ليست بالتأكيد حرب اسرائيل دفاعاً عن نفسها بعد “طوفان الأقصى”، بل هي حرب اسرائيل لفرض رؤيتها الى مجمل الصراع وإلى منطقة الشرق الأوسط برمتها. هذا كلام قاله بنيامين نتنياهو صراحة وبعجرفة وفوقية، لكن الحقيقة قد تكون أبعد من ذلك، فالحرب الدائرة لا تبتعد أهدافها عن أهداف أميركا ومعها الغرب اللذين ربما يكونان ضاقا ذرعاً بالتكاليف التي يدفعانها في السلم كما في الحرب ثمناً لهذا الصراع، فرأيا فرصة لإنهائه عبر إنهاء أحد طرفيه الذي بدأ يتوسع من فلسطين ولبنان الى العراق واليمن وإيران مشكلاً محوراً “ممانعاً”، وبالطبع هذا الطرف ليس اسرائيل التي أكدت الحرب انها لا تزال الابن المدلل والمحمي لأميركا وللغرب.
اقرأ أيضا| مآسي من لا علاقة لهم بعمليات حماس وحزب الله
فيما ينشغل العالم العربي والإسلامي في البحث عن وقف الحرب على لبنان وغزة وحض القوى الدولية الفاعلة على التدخل لتحقيق ذلك، تنقل اسرائيل الحرب الى مستوى آخر، مستفيدة من التطورات الميدانية ومن التغيرات السياسية الهائلة التي أعادت دونالد ترامب الى البيت الأبيض في واشنطن وحملت اليمين المتطرف المعادي للعرب والاسلام عموماً الى مراكز متقدمة في البرلمانات والحكومات الأوروبية، لتكشف عن مخطط خطير جداً يوازي نكبة 1948 في فلسطين.
بدأ نتنياهو وفريق اليمين المتطرف، وكل حكومة إسرائيل هي يمين متطرف، الحديث عن اعادة الضفة الغربية الى تحت السلطة الإسرائيلية، عملياً ضم الضفة، كما حصل للقدس والجولان السوري المحتل، وعادة تمهد اسرائيل لتنفيذ مخططاتها بالحديث الإعلامي عنها، ثم بافتعال بعض الحوادث، ثم بتثبيت القرار في الحكومة والكنيست وانتظار الفرصة للحصول على اعتراف دولي، والاعتراف الدولي عندها هو فقط الاعتراف الأميركي الذي “يكفي ويوفي”، اذ تضرب بعرض الحائط كل الرفض الدولي لإجراءاتها المخالفة للقرارات الدولية.
ليس عبثياً تصاعد الحديث الاسرائيلي عن ضم الضفة الغربية في هذا الوقت بالذات مع وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض وتشكيله فريق عمله من عتاة مؤيدي إسرائيل، فالرئيس الاميركي العائد “إسرائيلي” الهوى والسياسة وقدم لإسرائيل كل ما تطلبه لا سيما نقل السفارة الى القدس باعتبارها عاصمة “أبدية” لاسرائيل والاعتراف بضم الجولان، ولن “يبخل” عليها بمساندة إضافية لتكبير مساحتها التي قال يوماً إنه يجدها ضيقة عليها.
اسرائيل التي تريد التخلص من الفلسطينيين الذين يشكلون هاجساً ديموغرافياً لها تريد رمي المشكلة على الأردن، لكنها ربما لا تدرك أن طرد ثلاثة ملايين فلسطيني إلى البلد المجاور سيخلق على حدودها دولة فلسطينية من نحو عشرة ملايين نسمة.