وقف حرب غزة وما بعدها
نقاط الاختلاف بين "حماس" وإسرائيل وبخاصة الحكومة الحالية أن معيار تحقيق انتصار الأخيرة في الأقل في البداية كان القضاء على الأولى عسكرياً وسياسياً، وهي أهداف صعبة المنال.
تناولت في المقال الأخير توقعاتي لسيناريو وقف الحرب في غزة وما يليها من تطورات، وترددت بعض الشيء حينذاك خشية أن تتطور وتحسم الأحداث ويتم التوصل إلى اتفاق قبل النشر، خصوصاً ومفاوضات وقف إطلاق النار والإفراج عن المختطفين والمحتجزين كانت انصبت على اقتراح أعلنه الرئيس الأميركي جو بايدن مع التنويه بأن إسرائيل وافقت عليه.
ومع هذا قررت النشر لقناعتي بأن أي اتفاق يتم التوصل إليه سيكون مرحلياً وتكتيكياً، وأن تباين المواقف بين إسرائيل و”حماس” أوسع مما يسمح باستقرار أي اتفاق والتزام أي طرف به.
وللأسف أصبت في تقديراتي وتحليلي، ويرجع أسفي إلى أن أي تأخير في الاتفاق يصاحبه مزيد من الاقتتال والضحايا، معظمهم من المدنيين والأبرياء الفلسطينيين الذين يتعرضون لأبشع وأشد الظروف الإنسانية.
وتعثرت المفاوضات بالفعل على رغم صدور قرار مجلس الأمن رقم 2735 المؤيد للأفكار المطروحة بتأييد 14 عضواً وامتناع روسيا، وهو القرار الذي استقبل بنغمة إيجابية من “حماس” ومجموعة من الملاحظات والتعديلات المكملة للصياغة التي طرحها بايدن، وصمت رسمي من الحكومة الإسرائيلية على رغم أن مضمون الأفكار سبق الموافقة عليه أو المبادرة به من حكومة الحرب الإسرائيلية ذاتها.
ومن أهم خلاصاتي المبدئية من متابعة الأيام الأخيرة أن هناك تشابهاً كبيراً في تكتيك إسرائيل و”حماس”، واختلافاً جوهرياً في مواقفهما، وفقدان كامل الثقة بينهما، وقلقاً عاماً ومبرراً من المستقبل.
وكل من إسرائيل و”حماس” تسعى إلى تجنب تحمل مسؤولية رفض الاقتراحات والمساعي، بغية تحميل الطرف الآخر مسؤولية ذلك، وهو مؤشر لحجم الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لوقف الحرب التي أفقدت المجتمع الدولي أجمع كثيراً من الصدقية بعد أن تجاوزت تسعة أشهر، راح ضحيتها أكثر من 40 ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى، وخسائر لا تحصى أو تعوض من دون حساب أو عقاب حتى الآن.
وأبرزت تصريحات واقتراحات الجانبين الإسرائيلي و”حماس” في أعقاب بيان بايدن وقرار مجلس الأمن حجم الفجوة بينهما حول النقاط الجوهرية في المفاوضات، إذ تتمسك “حماس” بأن الهدف من مراحل المبادرة المختلفة يجب أن يكون وقف إطلاق النار بالكامل ورفع الضغط العسكري الإسرائيلي ضمن أمور أخرى، لذا اقترحت إضافة نص واضح بأن المراحل الثلاث من المقترح مترابطة ومتشابكة تجنباً لاستئناف العمليات بعد انتهاء المرحلة الأولى، أو في منتصف الطريق مع الإفراج عن عدد أكبر من الرهائن، في حين أعلن رئيس وزراء إسرائيل مراراً أن الأفكار المقترحة لا تتضمن نصاً بوقف كامل ودائم لإطلاق النار، وأنها ستواصل حربها في جميع الأحوال.
ومن نقاط الاختلاف بين “حماس” وإسرائيل وبخاصة الحكومة الحالية أن معيار تحقيق انتصار الأخيرة في الأقل في البداية كان القضاء على الأولى عسكرياً وسياسياً، وهي أهداف صعبة المنال، وبخاصة أن العنف يولد تيارات سياسية فلسطينية أخرى تناضل ضد إسرائيل عسكرياً، في حين أن النجاح بالنسبة إلى “حماس” عسكرياً وسياسياً أمام الرأي العام هو الصمود أمام الاجتياح الإسرائيلي العنيف حتى في ظل خسائر مدنية فلسطينية.
ومن مؤشرات غياب الثقة بين الأطراف التزام الأطراف بما يتفق عليه، إذ أكدت إسرائيل مراراً أنها وحدها صاحبة القرار في ما يتعلق بالحرب، حتى إذا اضطرت الوقوف وحدها، بمعنى حتى إذا اختلفت مع صديقها الأميركي.
في حين طالبت “حماس” بأن تضاف الصين وتركيا وروسيا إلى الدول الضامنة للاتفاق المقترح لتوزيع وتدعيم صدقية الضمانات لشكها في جدية إسرائيل وانحياز الولايات المتحدة لها على حساب الحق الفلسطيني وإنسانيته.
وارتباطاً بكل هذه الملاحظات هناك قلق وعدم ارتياح واضح لدى الجانبين الإسرائيلي و”حماس” بالنسبة إلى المستقبل، فكلاهما سيضطر لتغيير منهجه جوهرياً ليكون له أي نصيب سياسي في التركيبة السياسية الإسرائيلية أو الفلسطينية، بصرف النظر عن الحق أو الباطل أو المنتصر أو المهزوم.
فبقدر نجاح “حماس” في الصمود طويلاً وما شهدناه من إحياء التركيز على حل الدولتين واعتراف عدد من الدول بدولة فلسطين، هناك ما يقابل ذلك الكثير من التشدد والرفض الدولي للتعامل معها في صورتها الحالية وحتى كتيار سياسي متشدد.
وبقدر التأييد الذي تحظى به إسرائيل والدعم الأمني والسياسي والعسكري في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هناك تنام واضح للامتعاض الدولي من إدارة رئيس وزراء إسرائيل للأحداث والصورة الحالية لحكومة إسرائيل.
ويدفع البعض أن على إسرائيل إعادة طرح نفسها مرة أخرى، وبصورة أقرب إلى المنظومة الدولية الليبرالية إذا أرادت الاحتفاظ بالتأييد الدولي المجتمعي في الأعوام المقبلة.
وأتمنى أن تصل المفاوضات الجارية إلى حلول في المستقبل القريب لاعتبارات إنسانية في المقام الأول، لكنى لا أستطيع إخفاء استبعادي توقف القتال أو استقرار الأمور حتى إذا توصل إلى اتفاق.
وأرجح أن تتواصل المهاترات والاتهامات والمعارك من دون التوصل إلى اتفاق أو حتى في ظله، لأن إسرائيل في حاجة إلى نجاحات ملموسة مثل قتل قيادات “حماس” الأساسيين، أو استعراض للعضلات عسكرياً في ساحات تتميز فيها قدراتها العسكرية التكنولوجية المتطورة، بعد معارك دامية وغير حاسمة في قطاع غزة، مما يحمل في طياته أخطار انفراط الأمور والتصعيد العسكري مع جيرانها العرب وبخاصة في الساحة اللبنانية.
ولعلنا بدأنا بالفعل صيفاً ساخناً عسكرياً يواكب ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوقة التي نشهدها منذ أسابيع والله يكون في عون الجميع لتحقيق الأمن والأمان.