مع تواصل العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، ثمة مواقف تفاقمها الاخبار وبعض التصريحات الغربية والفلسطينية تتحدث عن مخاطر حل السلطة الوطنية لاسيما أمام تغول الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على الضفة الفلسطينية المحتلة واتخاذه أجراءات تعسفية ضدها تحت كلمة عقوبات …!!
في هذا الإطار، ليس من المستغرب أن تخرج مواقف هنا وهناك تتحدث عن حل السلطة الوطنية في ظل حرب الابادة الجماعية في قطاع غزة، وانعدام الأفق السياسي وقيام الحكومة الفاشية الاسرائيلية بتنفيذ مخطط لضم الضفة الفلسطينية، وتوسيع الاستيطان، لتقويض السلطة الوطنية.
في الواقع، تختلف توجهات الداعين الى حل السلطة الوطنية، وتتباين مبرراتهم التي يسوقونها في الدفاع عن وجهة نظرهم، فبعضهم محكوم بمنطلقات ايديولوجية وحزبية، تدفعهم الى معارضة السلطة الوطنية، سواء لاعتبارهم خارج إطار تمثيل السلطة الوطنية، أو بسبب معارضتهم لسياساتها ، وبعضهم يدعو الى حل السلطة الوطنية، من أجل إنتاج حالة من الفوضى تماما كالحالة في قطاع غزة، بحيث لا يبقى في المشهد السياسي أي نظام بديل له شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني.
أما البعض الآخر، فيدعو الى حل السلطة الوطنية من أجل تحميل الاحتلال مسؤولية إدارة الضفة الغربية بما يعني ذلك زيادة كلفة الاحتلال. وهناك من يطالب بهذا الاختيار لكون السلطة الوطنية نتاجا لاتفاق أوسلو، وأخيرا، هناك من يبرر حل السلطة الوطنية بضرورة إصلاح السلطة وجعلها حيوية أكثر .
وبرغم وجاهة بعض هذه المبررات في ظاهر الأمر، الا أن العديد منها يؤدي الى نتائج غير منطقية، بل إنه في كثير من الحالات يعتبر جنوحا وتراجعا للوراء، ولهذا أريد أن أورد بعض الاجابات وربما المبررات التي تدفعنا للتمسك بالسلطة الوطنية الفلسطينية، ومن أهمها:
أولا: تمتلك السلطة الوطنية شرعية داخلية واسعة وكبيرة بإعتبارها نظاما ريعيا يعتمد أساسا على توظيف أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، حيث يعتاش على رواتب السلطة أكثر من 850 ألف فلسطيني، وتحصل أكثر من 30 ألف عائلة فلسطينية على مساعدات مباشرة من خزينة السلطة، كما توفر السلطة رواتب منتظمة لمئات الآلاف من الأسرى والشهداء والجرحى، بحيث أستطيع أن أقدر أن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني تقريبا يعتمد في قوت حياته بشكل مباشر أو غير مباشر على فاتورة الرواتب والمساعدات والمنح الحكومية.
ثانيا: تمتلك السلطة الوطنية شرعية دولية واسعة نجحت في تجنيدها لصالح القضية الفلسطينية على مر العقود السابقة، وتكللت نجاحات السلطة هذه على الصعيد الدولي بالانجازات الدبلوماسية المتعددة في الاعتراف بدولة فلسطين وبمقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية، وكذلك الانضمام لمئات من الاتفاقات الدولية.
ثالثا: تقدم السلطة الوطنية أكثر من ثلث موازنتها لخدمات التعليم والصحة بحيث يستفيد أكثر من مليون طالب من هذه الخدمات، إضافة الى أكثر من مئتي ألف فلسطيني يستفيد من خدمات الرعاية الصحية سنويا. من جانب آخر، تقدم الأجهزة الأمنية الفلسطينية خدمات واسعة ومهمة في حقول حفظ السلم الأهلي ومنع الفوضى والفلتان وكبح جماح الجريمة ومنع انتشار المخدرات.
رابعا: تقوم السلطة الوطنية بتحمل تبعات المشروع الوطني الفلسطيني المتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية، وهي بهذا لا تقوم فقط بتمثيل الشعب الفلسطيني وحفظ هويته نيابة عن منظمة التحرير، وإنما أيضا توظف الجزء الأهم من موازنتها لاستخدام العديد من الأدوات القانونية والدبلوماسية الرامية الى إدانة الاحتلال الاسرائيلي وتحميله المسؤولية الجنائية عن جرائمه والمطالبة بالتخلص منه. وقد حققت في هذا الحقل انجازات مهمة بحيث يبدو أننا قد اقتربنا كثيرا من تجسيد الدولة الفلسطينية.
خامسا: تمثل السلطة الوطنية الفلسطينية الضمانة الأساسية لوجود مجتمع فلسطيني تعددي يحفظ كرامة الناس ويمنع مصادرة الحريات والممتلكات، مجتمع يقدس مبادئ المواطنة ويبتعد عن التطرف والاسلاموية السياسية التي دمرت العديد من الأنظمة السياسية وقزمت الشعوب وسلبت الحريات.
سادسا: هنالك خلط واضح بين انتقاد السلطة الوطنية وبين المطالبة بحلها. فالشعوب عادة تطالب بتغيير الحكومات وليس حل دولها. وهذا بالضبط ما أود الاحاطة به، فحل السلطة الوطنية ليس إجراء وطنيا لأنه يعني إنهيار بنية النظام السياسي الفلسطيني، كما أن المطالبة بالاصلاح ومحاربة الفساد، لا يعني حل السلطة الوطنية، وإنما يجب أن يشير الى ضرورة الاصلاح وإجراء الانتخابات بالأساس، والجميع بعرف أن إجراء مثل هذه الانتخابات لا يكون فاعلاً في ظل الاحتلال، ولن يكون بمقدور أي فلسطيني شريف أن يوافق على إجراء انتخابات بعيداً عن القدس.
وأخيرا، لا يمكن عقد أي انتخابات أو إصلاحات في ظل الابادة الجماعية التي تمر بها غزة، فالأولوية الآن لإعادة إعمار غزة وإعادة غزة الى حاضنتها الوطنية، حاضنة منظمة التحرير.
من جانب آخر، وفي موضوعة المبررات التي يسوقها دعاة حل السلطة الوطنية، أريد أن أشير الى بعض الملاحظات الهامة:
1- إن حل السلطة الوطنية لن يؤدي الى إعادة تحميل اسرائيل مسؤولية إدارة الضفة الغربية المحتلة، بل على العكس ستقوم اسرائيل بما فعلته تماماً في قطاع غزة. هذا السيناريو سيتمثل بإعادة احتلال غالبية المناطق بما فيها السكنية والتدخل العسكري اذا ما تمت الحاجة اليه، وتحويل ملف المساعدات الى الأمم المتحدة والدول العربية، ونشر الفوضى والبلطجة وتجارة المخدرات. بمعنى آخر، ستجد اسرائيل المبرر الكافي للتنصل من أي اتفاق والتزام دولي وستحول الضفة الغربية الى غزة أخرى وربما بنتائج أكثر كلفة على الشعب الفلسطيني.
2- ان ربط السلطة الوطنية بالتنسيق الأمني عملية تاريخية انتهى وجودها، وقد ارتبطت بمرحلة من مراحل بداية تطبيق اتفاق أوسلو، فلم يعد أحد يتحدث الآن عن اتفاق أوسلو، لا الطرف الفلسطيني ولا الاسرائيلي. بل إن اسرائيل نفسها شطبت أكثر من 16 بندا من اتفاق أوسلو بعد الانتفاضة الثانية كما أن قرارات اللجنة التنفيذية للمنظمة قررت منذ عدة سنوات العمل على تخفيف وإلغاء تبعات والتزامات اتفاق اوسلو بما فيها التنسيق الأمني. والجميع في فلسطين يدرك أن اوسلو قد انتهى، وأن اسرائيل انتقلت منذ قرابة العقد الى مرحلة ضم الضفة الغربية. وبهذا، فإن المسألة المهمة بالنسبة لنا كفلسطينيين هي ليست تأييد أو رفض إتفاق أوسلو، وانما أصبحت المسألة المهمة الآن هو كيف يتم التخلص من اتفاق أوسلو؟ أو بالأحرى كيف يمكن تقليص التبعات التي تفرضها اسرائيل علينا في اطار الاتفاق دون أن تؤثر هذه العملية على قدرتنا على المضي قدماً في تحقيق مشروعنا الوطني؟
3-ان التمسك بالسلطة الوطنية الفلسطينية في هذه الظروف الصعبة يعتبر هاما جدا لا سيما أن السلطة الوطنية هي أداة منظمة التحرير الفلسطينية في ادارة الضفة الغربية والقطاع، والمنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي الأقدر على ادارة حكم غزة في اليوم التالي للعدوان وإعادة إعمار غزة وتعجيل عودتها الى حاضنتها الوطنية. صحيح أن المشروع الصهيوني يهدف الى اعادة احتلال غزة ومنع تولي حماس أو السلطة الوطنية قطاع غزة، الا أن السلطة الوطنية تظل الاطار الشرعي المقبول وطنيا ودوليا المناسب لهذه المهمة، ولن تستطيع اسرائيل تغييبها عن المشهد السياسي في القطاع لا سيما اذا ما تم تعزيز التمسك بها جماهيريا.
ما وددت قوله في هذه المقال لم يأت في اطار الجدل الحزبي أو الأيديولوجي، وانما جاء في سياق التمسك بثوابت المشروع الوطني الفلسطيني، والذي اعتبر وجود السلطة الوطنية الفلسطينية ضرورة من ضروراته الأساسية من أجل تمكينه وإقامه الدولة المستقلة.
وفي الواقع، أنا هنا لا أريد ان أخون أو أجهل من يطالبون بحل السلطة الوطنية، وإنما أردت فقط أن أنير بعض النقاط على عمل السلطة وآفاق تحولها الى الدولة. وهنا أجادل بأن حل السلطة لن يكون حلاً للأزمة الوطنية، وإنما على العكس سيفاقم من هذه الأزمة، حيث يعني حل السلطة الوطنية العودة بالمشروع الوطني الى الوراء، ويعني الفوضى، ويعني فوق كل هذا انهيار منظمة التحرير الفلسطينية التي ناضل من أجل تثبيتها الشعب الفلسطيني لعقود طويلة. وفي النتيجة، فإن السلطة الوطنية هي ملك للشعب الفلسطيني وفصائله الاعضاء في منظمة التحرير، وستبقى هذه السلطة أداة بيد الشعب للوصول الى الاستقلال وتحقيق الدولة، وحتى في ظل الضغوط الاسرائيلية والغربية على السلطة الوطنية، ستظل هذه السلطة حقلا وأداة للنضال ضد المحتل بكل الامكانات المتاحة، لأن الانتماء لهذه السلطة هو باختصار انتماء للمشروع الوطني الفلسطيني.