نجحت مجموعة بريكس فى تحقيق نقلات نوعية منذ تأسيسها فى عام 2009، سواء من حيث حجم العضوية، التى بدأت بأربعة اقتصادات (الصين، روسيا، البرازيل، الهند)، ثم لحقت بها دولة جنوب إفريقيا (2010). وفى تطور كان هو الأهم لحق بهؤلاء كل من مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية، وإيران، وإثيوبيا (يناير 2024)، الأمر الذى ساهم فى تزايد ثقل المجموعة داخل النظام الاقتصادى العالمي، مقاسا بمؤشرات نصيبها من الناتج العالمي، والمعاملات الاقتصادية الدولية، خاصة التجارة والاستثمار والسياحة.. إلخ.
وقد حرصت بريكس على التأكيد على طابعها الاقتصادى من خلال التأكيد على أجندتها الاقتصادية والمالية، وهو أمر انسحب على كافة المجموعات والمنتديات الاقتصادية الدولية التى تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بدءا من منتدى آبك APEC الذى تأسس فى عام 1989، ورابطة الدول المطلة على المحيط الهندى IORA التى تأسست فى عام 1997، ثم مجموعة العشرين G20 التى تأسست فى عام 1999. ما يجمع بين هذه الأطر أنها بدأت كأطر تُعنى بالأساس بإدارة أهداف وقضايا اقتصادية. آبك يهدف إلى إدارة حالة التكامل الاقتصادى فى منطقة آسيا المحيط الهادئ التى بدأت بشكل طوعي، لكن هذا لم يمنع دول المنطقة من تأسيس إطار تنظيمى للحفاظ على هذا التكامل وتعميقه. الأمر نفسه فيما يتعلق برابطة الدول المطلة على المحيط الهندي، ومجموعة العشرين؛ الأولى استهدفت إدارة التعاون الاقتصادى بين الدول المطلة على هذا المسطح المائى المهم، وبدأت الثانية كجسر بين اقتصادات مجموعة السبع الصناعية والاقتصادات الناشئة على خلفية الأزمة المالية التى ضربت الاقتصادات الآسيوية فى منتصف تسعينيات القرن الماضي.
اقرأ أيضا.. «بريكس 2.0».. ماذا بعد انتهاء القمة؟
هكذا، كان العامل الاقتصادى رئيسا فى تأسيس هذه المجموعات، وظل حاضرا منذ تأسيسها. لكن هذا لم يحل دون تصاعد الوزن السياسى لهذه المجموعات، أو تحولها إلى مناقشة قضايا ذات طابع سياسى أو أمنى بدرجات مختلفة. ورغم أن هذا التحول كان محدودا فى حالات آبك، ورابطة المحيط الهندي، ومجموعة العشرين، فإن الأمر قد يكون مختلفا فى حالة بريكس لأسباب عدة تميزها عن باقى المجموعات والأطر الاقتصادية الدولية. من ناحية، فإن بريكس تتميز عن باقى هذه المجموعات والأطر بأنها تعبر عن تيار دولى محدد، يشمل الاقتصادات الصاعدة والناشئة والقوى الوسطى داخل النظام العالمي، وهى سمة تميزها عن كل من آبك ورابطة الدول المطلة على المحيط الهندى ومجموعة العشرين؛ فرغم أن هذه الأطر تضم عددا مهما من الاقتصادات الصاعدة والناشئة لكنها لا تعبر بشكل متجانس عن مصالح هذه الاقتصادات المهمة بالنظر إلى وجودها داخل هذه المجموعات جنبا إلى جنب مع عدد من الاقتصادات الصناعية المتقدمة، الأمر الذى انعكس على أجندة عملها وعلى مناقشاتها الداخلية، ومن ثم انعكس على مخرجاتها ومدى قدرتها على تبنى سياسات تعكس مصالح الاقتصادات الصاعدة والناشئة.
اقتصار بريكس على فئة الاقتصادات الصاعدة والناشئة داخل الاقتصاد العالمى يعزز فرص الانسجام داخل المجموعة، الأمر الذى يعزز من فرص تبنى مواقف وسياسات تعبر عن مصالحها وبشكل يضع حدودا فاصلة بين تيار الاقتصادات الصاعدة والناشئة من ناحية، والاقتصادات الصناعية والمتقدمة من ناحية أخرى. يعزز هذا التوقع العودة إلى مجموعة السبع الصناعية التى تأسست فى عام 1975، والتى مثلت إطارا للتعبير عن المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية للدول المتقدمة، ولعبت، بجانب ذلك، دورا بارزا فى إدارة العديد من الأزمات الدولية والإقليمية.
يعزز هذا الاحتمال أيضا اللحظة المهمة التى يمر بها النظام العالمى والتى تتسم بوجود صراع على قمة النظام بين الولايات المتحدة وعدد من حلفائها من ناحية، والصين وروسيا من ناحية أخرى. هذا الصراع لا يقتصر على الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية لكنه بات صراعا اقتصاديا وماليا أيضا، بما يشمله ذلك من سعى الصين وروسيا إلى استحداث عدد من الأبنية الاقتصادية والمالية economic architecture التى تعبر عن مصالح هذه الفئة من القوى الدولية. وقد زادت أهمية هذا التوجه فى ضوء اصطدام عملية إصلاح صندوق النقد الدولى بالاعتراضات الأمريكية، الأمر الذى عزز القناعة لدى هذا التيار بأنه لا بديل عن إقامة مؤسسة اقتصادية تعبر عن مصالحه، حتى وإن لم تصل بعد إلى بناء بديل كامل للنظام المالى العالمى القائم. فى هذا السياق، يمكن النظر إلى «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية» (الذى تتمتع فيه الصين بالوزن النسبى الأكبر)، و«بنك التنمية الجديد» الذى يمثل الذراع المالية لمجموعة بريكس على أنها خطوات مهمة على هذا الطريق. إن أى تقييم لهذا التحول يجب أن يأخذ فى اعتباره المدى الزمنى اللازم لاكتماله، والأبعاد السياسية التى ينطوى عليها رغم طابعه الاقتصادى الظاهر.
لا يعنى ذلك حتمية دخول مجموعة بريكس فى صراع حاد أو صراع عسكرى مع معسكر الدول الصناعية أو مؤسسات بريتون وودز، بقيادة الولايات المتحدة، لكن هذا الصراع سيأخذ طابعا اقتصاديا وماليا بالأساس على الأبنية الاقتصادية والمالية الدولية، وعلى الفلسفة الرئيسية الحاكمة لهذه الأبنية وللنظام الاقتصادى والمالى العالمي. هذا الصراع لم يعد صراعا افتراضيا لكنه أصبح واقعا فى ظل هيمنة الاقتصادات الغربية على مصالح دولية أساسية، وعلى رأسها الحق فى التنمية، والحق فى النفاذ إلى التمويل غير المشروط سياسيا، والحق فى الوصول إلى الأسواق الدولية بدون تمييز مُخِل، والحق فى النفاذ إلى عمليات صنع القرارات المهمة ذات التأثير على الاقتصادات الناشئة والنامية. لقد نجحت الدول الصناعية المتقدمة فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية دون شروط سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو بالأحرى على حساب العدد الأكبر من اقتصادات العالم.
زيادة الوزن الاقتصادى لمجموعة بريكس، وتزايد تأثيرها فى حجم واتجاهات تدفق المعاملات الاقتصادية الدولية، خاصة عقب استقرار وتعاظم دور الأبنية الاقتصادية والمالية الجديدة، سيساهم دون شك فى تسريع التحول فى موازين القوى، الأمر الذى سيحتم على بريكس الانتقال إلى مناقشة القضايا السياسية والأمنية. لا يقلل من ذلك تأكيد قادة المجموعة على طابعها الاقتصادى والمالى حتى الآن، إذ إن عملية الانتقال والتطور تتطلب شروطا تحتاج إلى مدى زمنى كافٍ. ولا يقلل هذا التحول من أهمية المجموعة، إذ لم يعد من الممكن الفصل بين الدورين الاقتصادى والمالى من ناحية، والسياسى والأمنى من ناحية أخرى. كما أن إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية لا يمكن أن تتم دون تحقيق توازن مماثل على المستوى الاقتصادى والمالي. وهى مسئولية لا يمكن تحقيقها فى هذه اللحظة المهمة دونما دور رئيسى للقوى الصاعدة والوسطى فى النظام العالمى.