عالم التقنية

هل تصبح حياتي أبسط بالعودة لاستخدام هاتف نوكيا 3210؟

توقعت أن أكتب هذه الجملة بفرح وحنين- للمرة الأولى منذ عقدين- وأنا أشغّل هاتف نوكيا 3210 بشكله الجديد والمحسن. بعد مرور 25 عاماً على عصره الذهبي الأول، أعيد إطلاق هاتف نوكيا 3210 الشهير في أيام شبابي بحلته الجديدة عام 2024 – في خطوة ذكية وسط فورة ردود غاضبة على الآثار السلبية التي يرتبها الإفراط في استخدام الهاتف الذكي. لكنني عبثاً انتظرت للأسف: إذ كي يتسنى لي أن أكتب رسالة مقتضبة وبليغة كهذه، يجب أن تصلني بداية رسالة نصية. لكن لم يعُد أحد- ولا حتى والدتي البالغة من العمر 72 سنة- يرسل رسائل نصية هذه الأيام. بل يستخدمون “واتساب”.

وهذا ليس سوى مثال واحد من بين أمثلة كثيرة على تكيف كل جانب من جوانب الحياة مع الأجهزة التي أصبحت محوره الأساسي في حقبة الهواتف الذكية. وشخصياً، أدركت بعد فترة قصيرة بأن كل شبر من حياتي تسهله شاشة بحجم كف اليد، بطريقة أو بأخرى: عملي وحياتي الاجتماعية وحياتي العاطفية وسفراتي وحساباتي المالية.

في الماضي، كنت أفخر باعتبار نفسي “فتاة الأنالوغ” [شكل تكنولوجيا الاتصالات السائدة قبل التكنولوجيا الرقمية] التي تحبذ التكنولوجيا التناظرية البسيطة غير الذكية (إجمالاً لأن هذا المصطلح يبدو ألطف من عبارة “غريبة الأطوار الرجعية التي تهاب التكنولوجيا”). فضلت قراءة الكتب الورقية على أجهزة “كيندل” الإلكترونية واستخدمت مفكرة “فايلوفاكس” الورقية العادية وواظبت على استخدام بطاقتي البنكية البلاستيكية لشراء الحاجيات [وليس تطبيقات الدفع الرقمية]. تأخرت في اعتماد التكنولوجيا لدرجة أنني عندما بلغت هذه المرحلة في النهاية كان الجميع انتقل إلى مرحلة رقمية أجمل وأكثر بريقاً.

ما زلت أذكر كيف كنت أرسم خرائط على الورق لأي وجهة أريد أن أقصدها لأنني اعتبرت دفع مبلغ إضافي للبيانات [باقات الإنترنت] تبذيراً للمال، وأذكر إلى الآن كيف تفقدت إحدى الصديقات شاشة هاتفي وسحبتها إلى اليسار لتجد شاشة فارغة فسألتني بفزع “أين تطبيقاتك؟”.

أما الآن وقد أصبحنا في 2024، فصحيح أنني ما زلت بعيدة ممن تبنوا التكنولوجيا باكراً، لكن الحصن الذي بنيته ضدها لم يتمكن من الصمود في وجه مجتمع تطغى عليه الإنترنت. وأصبحت مدمنة على العالم الرقمي شأني في ذلك شأن الباقين.

وفقاً لدراسة صدرت عن موقع “داتا ديبورتال” عام 2023، بلغ متوسط الوقت المخصص للشاشات من قبل المستخدمين في كل أرجاء العالم بين 16 و64 سنة من العمر ست ساعات و37 دقيقة يومياً، منها ثلاث ساعات و46 دقيقة تخصص لاستخدام الهواتف الذكية. ويفيد بحث أجرته هيئة تنظيم الاتصالات “أوفكوم” بأن البالغين في المملكة المتحدة يقضون ما يعادل 56 يوماً من السنة على الإنترنت، فيما يحمل أبناء جيل الألفية [الأشخاص الذين ولدوا بين عامي 1981 و1996] الذي أنتمي إليه أعلى عدد من التطبيقات بين كل الفئات العمرية، ومتوسطها 41 تطبيقاً. هنا أيضاً، قد تشعر نسختي السابقة من “فتاة الأنالوغ” بالفزع: لدي حالياً 43 تطبيقاً (من دون احتساب تلك التي تأتي في الهاتف أساساً).

 في الآونة الأخيرة، شعرت بضيق متزايد من سهولة تكيفي مع هذا “الوضع الاعتيادي الجديد” – أي حياة محورها الجهاز الموجود في جيبي. كما أن الأبحاث الأخيرة التي تربط أزمة تردي الحال النفسية لدى الأطفال واليافعين بارتفاع استخدام الهواتف الذكية مخيفة، واعتراف المسؤولين عن تطوير منصات التواصل الاجتماعي بأنهم خلقوا وحشاً يعطيان الإنسان حافزاً إضافياً كي يخفف من استعمالها لها. وأحد الأساليب التي يشجع عليها الناشطون في هذا الخصوص، ومن بينهم خبير علم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت، مؤلف كتاب “الجيل القلق” The Anxious Generation، هو استخدام هواتف “بدائية” أفضل لتفادي إعطاء الأطفال هواتف ذكية. تتزايد شعبية “الهواتف الغبية” – المزودة بوظائف مثل الاتصال وكتابة الرسائل النصية وضبط المنبه – لا سيما بالنسبة إلى “الجيل زد” [الأشخاص الذين ولدوا بين عامي 1996 و2010]  الذي يشعر أربعة من كل 10 من أبنائه بالقلق إزاء قضاء وقت طويل على الهاتف الذكي. وهو الجيل الوحيد الذي تراجع استخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي منذ 2021 بحسب تقارير صحيفة “ذا غارديان”.

وبسبب الاستفهامات حول الخصوصية وجمع البيانات وأساليب التلاعب بنا كي نظل نتصفح الإنترنت إلى ما لانهاية، اكتسبت بعض الحملات مثل حملة “#أعيدوا_الهواتف_القابلة_للطي” #bringbackflipphones على “تيك توك” زخماً كبيراً. في الأثناء ازدادت نسبة مبيعات هذا النوع من الهواتف التي تصنعها شركة “إتش إم دي” التي أعادت إطلاق هاتف “نوكيا”، فتضاعفت مرتين بحلول أبريل (نيسان) 2023. عادت التكنولوجيا القديمة لتصبح رائجة مجدداً.

وهكذا وجدت نفسي وقد ركبت موجة قطع الاتصال المتواصل بالإنترنت وفتحت بحماسة علبة هاتف جديد من طراز 3210 وهو موديل أول هاتف خليوي اقتنيته في مراهقتي، كي أرى إن كان تبديل هاتفي من طراز “سامسونغ” بهذا الشكل الجديد من الهاتف الأبسط سيساعدني على الدخول مجدداً في العالم الواقعي. لكن هذا المستوى من الحنين مكلف أكثر: فسعر الهاتف الواحد 74.99 جنيه استرليني (نحو 95 دولاراً)، أي أكثر بثلاثة أضعاف من سعر تلفون “نوكيا” الغبي موديل 105.

وتبدأ رحلتي مع بعض التعثر. أوصل الهاتف بالكهرباء كي أشحنه فلا يحدث شيء. أضغط زر التشغيل ولا حياة لمن تنادي. ثم أقضي 10 دقائق وأنا أحاول بجهد أن أوصله بمقبسٍ تلو الآخر، فأغضب، وأفصل الشاحن وأعيد وصله مرات عدة، وأضغط كل أزرار الهاتف، قبل أن أدرك في النهاية أوضح الأمور أمامي- فأنا لم أضع البطارية نفسها داخل الجهاز بعد. مضت فترة طويلة جداً منذ اقتنيت هاتفاً يمكنك أن تزيل البطارية منه فعلاً، لدرجة أنني نسيت هذا التفصيل تماماً.

قبل نقل بطاقة الهاتف، حملت “واتساب” على الحاسوب- أقله، بهذه الطريقة لن أكون على هامش المجتمع كلياً- وأجريت حسابات ذهنية عن التطبيقات الأخرى الضرورية في هاتفي.

بطاقات القطار!، كلها على تطبيق “تراين لاين” Trainline. لا بأس، لا بد من وجود رمز يسمح لي بطبعها في المحطة. لكن ذلك غير متاح- على رغم كل محاولاتي، لا أتمكن من إيجاد أي شي يسمح لي بالوصول إلى نسخ ورقية من آلة البطاقات. والبديل الوحيد هو أن أطبع رموز الـ”كيو آر” في المنزل، لكنني ابنة جيل الألفية، ولا أملك بالتالي طابعة. أقرر عندها أنني مضطرة إلى الغش واستخدام الهاتف الذكي لكي أدخل لندن بسبب العمل- لا أظن مديري سيقبل بعذر “التهم هاتفي القديم واجباتي”.

وسرعان ما أكتشف أمراً إيجابياً، وهو أن هاتف 3210 الجديد مزود بلعبة الثعبان الكلاسيكية التي راجت في بداية القرن الحالي. وفي الواقع هذا أول سؤال يطرحه عليّ الجميع عندما يرون هاتفي الغبي “هل فيه لعبة الثعبان؟”، (حسناً وسؤال آخر إن كنت تحولت إلى تاجرة مخدرات). لا تزال اللعبة جذابة بصورة عصية على الفهم، كما أتذكرها تماماً، مع أن هذه النسخة فيها تحديث ملون والثعبان يأكل تفاحاً بدلاً من النقاط. تقدم اللعبة بديلاً لإبهاماي المعتادين على تصفح وسائل التواصل إلى أن يذوب دماغي.

ويحوي الهاتف ميزات أخرى مفيدة هي الكشاف الضوئي والمسجل الصوتي والحاسبة الآلية وثماني ألعاب إضافية. كما زُود بخدمات إنترنت من الجيل الرابع وهو ما لم أتوقعه- ذكرتني الوظائف الأساسية هذه بأيام الإنترنت الأولى، فامتلأ رأسي بصور فيها حنين لبرنامج المراسلة “إم إس إن مسنجر” MSN Messenger وصفحات “ماي سبيس” Myspace الشخصية. يمكنك فعلياً أن تسمع أصوات الاتصال القديمة بالإنترنت عبر جهاز المودم الشبيهة بفيلم “ماتريكس” عندما تنقر الأيقونة. يا لها من ذكريات!.

وأنا أجالس حالياً قطط صديقتي وقررت أن أختبر قدرات كاميرا الهاتف المبسطة التي لا تتعدى 2 ميغابيكسل (وهي ميزة كنت أحلم بها في الماضي)، التقطت فيديوهات تبدو بطيئة الحركة ولطيفة فيما الصور غير واضحة بعض الشيء. وهو اختلاف جذري عن عالم هاتفي الذكي بصوره متناهية الدقة والوضوح، وكاميرته القادرة على تصوير كل شعرة والتي تسمح لي بتعديل صوري كي تبدو أقرب إلى الأعمال الفنية. لكن في نوعية هذه الصور البسيطة إيجابية غير متوقعة، وهي أنني لا أهدر الوقت بملء الذاكرة الرقمية بمئات الصور. ألتقط صورتين وأنظر إليهما ثم أستهجن شكلهما الممل، وأرسل واحدة إلى صديقتي. فترد عليّ بامتعاض بسؤالها “لماذا تكتبين لي رسالة نصية؟!”- وهي إجابة ستردني كثيراً في الأيام المقبلة.

ويحين الوقت كي أستقل القطار فأمسك بسماعات البلوتوث لاستخدامها في الطريق إلى المحطة، قبل أن أستدرك خطئي، فأنا غير قادرة على استعمالها لعدم وجود تطبيق “سبوتيفاي” للموسيقى على هاتف “نوكيا”. لا بأس إذاً، سأستمع إلى زقزقة العصافير وهدير السيارات وأفكاري العشوائية. أقف على رصيف المحطة بانتظار القطار، وأعيش تجربة نادرة- أن أكون حاضرة ووحيدة في مكان عام من دون أي شيء يشغلني. عادة، في هذا الوقت الضائع القصير، أقلب بين تطبيقات “تويتر” و”إنستغرام” و”سلاك” وبريد العمل. والآن أقف ثماني دقائق بصمت، أنظر إلى الأشجار في الجهة المقابلة من الرصيف وأراقب كيف يحركها الهواء. المشهد غريب بعض الشيء ولطيف بعض الشيء.

ربما يكون هذا أجمل ما في استخدام التكنولوجيا البسيطة. فمن دون وسائل التواصل الاجتماعي وكل ذلك، ليس في الهاتف ما يجعل المرء يدمنه- لأنه فقط أداة تواصل بلاستيكية خفيفة الوزن. تمر الساعات الأولى عليّ كما تمر على أي مدمن يحاول الإقلاع عن عادته، فتطير يدي وحدها نحو جيبي وتفتح الشاشة قبل أن أدرك غياب كل أنواع التنبيهات والتطبيقات وما شابه- ليس في الهاتف ما يستحوذ على انتباهي ويهدر وقتي. وفي كل مرة أعيد الجهاز إلى جيبي، أشعر بمزيج من الحزن والارتياح الغريب.

وفيما أجلس بانتظار صديقتي في الحانة، أستمع إلى الأحاديث التي تدور حولي بدلاً من مشاهدة سيل من قصص الأصدقاء على “إنستغرام”. وفي طريق العودة إلى المنزل، أجلس ساعة في القطار وأفتح كتاباً بدلاً من مشاهدة “نتفليكس”. يبدأ شعور الارتباط المحموم يخف في ذهني، ويهبط علي شعور بالسلام وقلة الحيلة.

إنما لا يمكن أن نتجاهل اعتماد جوانب كثيرة من حياتنا المعاصرة على الهواتف الذكية لدرجة تجعل استبعادها خياراً غير واقعي. وفيما لست مغرمة بـ”إنستغرام”، هذه هي المساحة التي أروج فيها لحفلات الغناء المستقبلية التي أقدمها كعمل جانبي ممتع، وإن كان متعثراً. ومع أنني قادرة عملياً على استخدام العمليات المصرفية عبر الإنترنت، فهذه العملية أكثر تعقيداً مما هي عليه عبر الهاتف وتتطلب مني كتابة رموز وكلمات مرور لا يمكنني أن أتذكرها. وصحيح أنني أتذكر بحنين أيام رسم الخرائط باليد لكن محاولة التنقل من دون خرائط “غوغل” عملية مزعجة ومحبطة على نحو لا يصدق.

علاوة على ذلك، أنا بحاجة إلى استخدام تطبيق المصادقة لدخول شبكة الحاسوب في العمل عن بُعد، وأحتاج إلى تطبيق “أوبر” لتأمين سيارة أجرة ليلاً، وأحتاج إلى تطبيق “دايس” Dice الذي أخزن عليه بطاقات حفلاتي، وتطبيق “فنتد” Vinted الذي أشتري عبره 90 في المئة من ثيابي وتطبيق “ريلكارد” Railcard الذي يؤهلني الحصول على تذاكر القطار بكلفة منخفضة وتطبيق “براي أز يو غو” Pray As You Go  الذي أستخدمه لصلاتي اليومية والتأمل، وتطبيق “ضبط القيثارة” ukulele tuning الذي يؤدي الغرض منه تماماً، وتطبيق سويفت كي” SwiftKey الذي يسهل علي الكتابة وإرسال الرسائل في ثوانٍ عبر المسح على الشاشة… واللائحة تطول. وتطول، وتطول.

ولهذا السبب، يدور جزء كبير من النقاش في شأن الأطفال والتكنولوجيا حول الحاجة إلى إرجاء استخدامهم للهاتف الذكي قدر الإمكان. (أعلنت مدينة سانت ألبانز مثلاً عن نيتها بأن تكون أول مدينة بريطانية لا يحمل فيها من هم دون الـ14 هاتفاً ذكياً). فعندما يصبح هذا الهاتف في حوزتك، من شبه المستحيل أن تعيد جنّي العالم الرقمي إلى قمقمه. فقد تطورت حياتنا وأنظمتنا على وتيرة تطور أجهزتنا، وتخلينا إلى درجة كبيرة عن عالم الورق والأشياء الملموسة.

ولا أعتقد بأنني قادرة على التخلي عن الهاتف الذكي كلياً، لكن ما أدركته بعد التجربة هو أنه باستطاعتي التخلي عن الفائض من التطبيقات والاحتفاظ بالأساسية بينها، والالتزام الواعي بإبقاء هاتفي داخل الحقيبة ما لم أكن بحاجة إلى استخدامه، وفرض قوانين أكثر صرامة على نفسي- مثل عدم حمله معي عند الخروج للتنزه أو وضعه في غرفة مختلفة أثناء مشاهدة فيلم. ومع أن استعمالي لهاتف بسيط عقّد حياتي بعض الشيء، فقد قدم لي لمحة عن عالم يقل فيه اعتمادي عليه، وعالم يتيح لي استبدال التحفيز بالسكون، بل عالم يسمح لي بأن أحطم أخيراً الرقم القياسي الذي أحرزته عام 2002 في لعبة الثعبان :-).

عن إندبندنت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى