على غير المعتاد في العلاقات الأمريكية الإفريقية؛ أجرى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) “ويليام بيرنز” زيارة سرية إلى كلٍّ من كينيا والصومال (خلال الفترة من 28 إلى 31 أكتوبر 2024م)، في خطوةٍ استثنائية لا يُقْدِم عليها كبار المسؤولين الاستخباراتيين الأمريكيين، فلا يقومون بزيارة أيٍّ من دول إفريقيا؛ نظرًا لوجود آليات بديلة للتواصل مع دول القارة؛ من خلال المباحثات على مستوى السفراء ووزراء الخارجية، أو مسؤول الملف الإفريقي في الإدارة الأمريكية مع المسؤولين الأفارقة.
ناهيك عن أن جولة “بيرنز” إلى كينيا والصومال هي الثانية له خلال هذا العام، وهو ما يكشف في مُجمله عن أهمية خاصة لهذه الجولة الاستخباراتية السرية؛ ما يدفع للتساؤل عن أهداف جولة بيرنز السرية إلى كينيا والصومال؟
انطلاقًا مما سبق، تهدف الدراسة لمناقشة ما دار من مباحثات أمريكية كينية، وأمريكية صومالية، وما تحمله من دلالات مهمة، بالإضافة إلى مناقشة خريطة الأهداف/ المصالح الأمريكية تجاه الصومال وكينيا بشكل خاص، ومنطقة شرق إفريقيا بشكل عام، في إطار القضايا محل الاهتمام الأمريكي، وذلك على النحو التالي:
أولًا: مخرجات الجولة السرية لبيرنز إلى الصومال وكينيا
في ظل حالة الغموض والسرية المحدودة بشأن جدول أعمال الزيارتين السريتين؛ أجرى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) ويليام بيرنز زيارة سرية إلى كلٍّ من كينيا والصومال خلال الفترة (28- 31) أكتوبر 2024م، ضمن جولته الخارجية التي شملت كذلك مصر؛ حيث التقى بيرنز في مقديشيو بالرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ومدير وكالة المخابرات والأمن الوطني بالصومال “عبد الله سنبلوشي”، أجرى خلالها الجانبان مناقشات رفيعة المستوى حول تعزيز الشراكة الإستراتيجية الدائمة بين الصومال والولايات المتحدة، والتعاون الاستخباراتي، ودعم الحكومة الفيدرالية الصومالية في مكافحة الإرهاب الدولي، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وخطة انسحاب قوات بعثة الاتحاد الإفريقي من الصومال (ATMIS)، وسُبل معالجة التحديات الأمنية الرئيسية في القرن الإفريقي، لا سيما التوترات بين إثيوبيا والصومال. وقد أكد الطرفان خلال اللقاء على أهمية التعاون في القضايا الأساسية للسلام والأمن، والتزامهما بتعزيز الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.
كما بحث اللقاء أمن الملاحة في البحر الأحمر، وما لذلك من صلة بالمساعي الأمريكية لشنّ عمليات تهدف إلى تفكيك قوات الحوثيين في اليمن، وذلك في ثاني زيارة له لمقديشيو خلال العام الراهن؛ إذ سبق أن زار بيرنز مقديشو في يناير 2024م، عقب عملية للقوات الأمريكية لاعتراض شحنة أسلحة إيرانية قبالة الساحل الصومالي.
علاوةً على ذلك، أجرى “بيرنز” زيارة إلى نيروبي هي الثانية له أيضًا خلال هذا العام، التقى خلالها “بيرنز” بالرئيس الكيني “ويليام روتو”، ومدير جهاز الاستخباراتي الوطني الكيني “نور الدين حاجي”، ركَّزت المناقشات خلالها -وفق التقارير الواردة من وكالات الأنباء الكينية- على تصاعد حالة عدم الاستقرار في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، نتيجة عدة أسباب، من بينها الحرب السودانية، والتوترات في الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى مخاطر تنامي نفوذ حركة الشباب الصومالية، وهو ما يُفاقم المخاوف الأمريكية من اتساع دائرة عدم الاستقرار في المنطقة.
ومن اللافت للنظر أن زيارة بيرنز إلى كينيا جاءت عقب أيام من زيارة رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني MI6 “ريتشارد مور” إلى نيروبي لعقد سلسلة من الاجتماعات التي تصدَّر خلالها ملف مكافحة الإرهاب والسلام والأمن في منطقة شرق إفريقيا قائمة المباحثات الثنائية بين الجانبين، وهو ما يعكس حزمة من الملفات الحيوية التي تحتلّ اهتمام القوى الخارجية، والتي تجعل من نيروبي نقطة ارتكاز رئيسية لتحركاتها في منطقة شرق إفريقيا.
ثانيًا: الأهمية الجيوستراتيجية للصومال وكينيا
تكشف الجولة السرية لبيرنز –وهي الثانية خلال عام واحد- لكلٍّ من كينيا والصومال عن الأهمية الجيوستراتيجية للبلدين في قلب الإستراتيجية الأمريكية؛ للحفاظ على النفوذ الأمريكي في شرق إفريقيا. وتتمتع مقديشيو بالعديد من المزايا الإستراتيجية التي تجعلها محطّ أنظار واشنطن؛ أبرزها الموقع الإستراتيجي للصومال؛ حيث تمتلك الصومال أطول ساحل في القارة الإفريقية، يُطلّ على المحيط الهندي شرقًا، وخليج عدن شمالًا، ويُعدّ البوابة الجنوبية لباب المندب والبحر الأحمر الذي يُعدّ أحد الممرات البحرية المهمة في مسار حركة التجارة الدولية ونقطة التقاء القارات الثلاثة (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وهو ما يعني امتلاك مقديشيو فرصة استثمارية مهمة في الثروات البحرية في إطار ما يُعْرَف بالاقتصاد الأزرق.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مقديشيو تتمتع بالعديد من الثروات الطبيعية والمعدنية، فبخلاف ثرواتها الزراعية والحيوانية الضخمة، فهي غنية بثروات معدنية هائلة كالحديد والقصدير والنحاس والملح، إلى جانب امتلاكها كميات كبيرة من احتياطي الغاز الطبيعي والنفط، إضافة إلى ما تم اكتشافه من رواسب كبيرة من اليورانيوم ومخزونات معدنية نادرة في طبقات الأراضي الصومالية.
أما بالنسبة للأهمية الإستراتيجية لكينيا، فهي تُعدّ أكبر اقتصاد في شرق إفريقيا، يُمثِّل ناتجه المحلي أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة، كما تتمتع بمناخ استثماري مستقر نسبيًّا، وهو ما يَجْعلها أكبر وأهم مركز تجاري ومالي ونقلي في شرق إفريقيا، يتدفق 80% من تجارة المنطقة عبر ميناء مومباسا، كما تُعدّ نيروبي مركزًا لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في شرق إفريقيا، هذا إلى جانب أنها رائدة إقليمية في مجال الاتصال عريض النطاق، والبنية الأساسية العامة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والخدمات المصرفية الرقمية، وغيرها من خدمات التكنولوجيا المالية التي تخلق من السوق الكيني سوقًا اقتصاديًّا واستثماريًّا رائدًا، تحوَّلت على إثره نيروبي لمركز إقليميّ للعديد من الشركات التي تتطلع إلى الاستثمار في شرق إفريقيا، لا سيما الشركات الأمريكية، كما أنها مقرّ للعديد من المكاتب الإقليمية للأمم المتحدة، والاقتصاد المهيمن في مجموعة شرق إفريقيا.
إقرأ أيضا : الرابحون والخاسرون منذ سقوط الأسد
يُضاف إلى ذلك، الدور الكيني في التصدّي لخطر تمدُّد حركة الشباب الصومالية وانتشارها في شرق إفريقيا، لا سيما على طول الحدود الصومالية الكينية البالغ طولها 680 كيلو مترًا (420 ميلاً)، والقريبة من مواقع تمركز حركة الشباب في وسط وجنوب الصومال، والذي يُعدّ أحد الملفات الإستراتيجية لواشنطن في علاقات الشراكة مع نيروبي، خاصةً مع تسجيل البلاد (خلال الفترة من أول يناير وحتى 24 مايو 2024م) حوالي 30 هجومًا تركزت في مقاطعات لامو وغاريسا وواجير ومانديرا الحدودية، بينما نجحت نيروبي في الحفاظ على أمنها ضد أيّ هجمات إرهابية في شهر سبتمبر 2024م، وذلك للشهر الثالث على التوالي، وهو ما يجعل من التعاون الأمني الأمريكي الكيني في ملف مكافحة الإرهاب أحد الأهداف الإستراتيجية لواشنطن من تعزيز آلية التواصل مع نيروبي، خاصةً في خضمّ ما تمتلكه القوات الكينية من خبرة قتالية ومعلوماتية حول تكتيكات حركة الشباب اكتسبتها من قتالها إلى جانب القوات الصومالية منذ العام 2011م، إلى جانب احتضان نيروبي للقاعدة العسكرية الأمريكية الواقعة في مقاطعة لامو الساحلية، والتي تُعدّ العمود الفقري لعمليات مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا.
ثالثًا: تأمين النفوذ… الأهداف الأمريكية من تعزيز التعاون مع كينيا والصومال
تتعدد الأهداف الأمريكية من زيارة بيرنز إلى الصومال وكينيا، في زيارة هي الثانية لبيرنز –خلال شغله منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)- في ظل ما يحمله المنصب من دلالة مهمة تكشف عن خصوصية البلدين في الإستراتيجية الأمريكية، يُمكن مناقشتها كالتالي:
1- الحفاظ على النفوذ الأمريكي في شرق إفريقيا في خضم ما تشهده المنطقة من تحولات
إن أحد أبرز الأهداف الأمريكية من زيارة بيرنز إلى كينيا والصومال هو المسعى الأمريكي لترسيخ نفوذ واشنطن في شرق إفريقيا في ظل ما تواجهه الولايات المتحدة من تحولات في علاقاتها مع بعض دول الساحل الإفريقي انعكست في انسحاب القوات الأمريكية من النيجر، والذي تزامن مع تعليق تشاد للأنشطة العسكرية الأمريكية في قاعدة “أدجي كوسي” في إنجامينا في أبريل 2024م، والذي على إثره اتَّجهت واشنطن لتعزيز علاقاتها مع دول غرب إفريقيا بما في ذلك إعادة تموضع قواتها العسكرية التي كانت متمركزة في النيجر. هذا إلى جانب ما تُواجهه شرق إفريقيا من تحوُّلات تُشير إلى إعادة صياغة التحالفات في المنطقة، وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
– توقيع إثيوبيا مذكرة تفاهم مع أرض الصومال في يناير 2024م
في الأول من يناير عام 2024م، تفاجأت الصومال بتوقيع “أديس أبابا” مذكرة تفاهم مع “أرض الصومال”، تمنح الأخيرة لإثيوبيا حق الاستحواذ على حصة غير محددة من ميناء بربرة البالغ طوله 20 كيلو مترًا، وذلك لمدة 50 عامًا، وبالتالي الحصول على منفذ على البحر الأحمر، بالإضافة إلى تمكين إثيوبيا من إقامة قاعدة عسكرية، وذلك نظير الاعتراف الرسمي لأديس أبابا بجمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليًّا، إلى جانب منح الأخيرة حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية، مثلما أوضح رئيس جمهورية أرض الصومال “موسى بيهي عبدي”
ومِن ثَمَّ، أثار الاتفاق غضب الصومال التي سرعان ما أعربت عن رفضها التام لمذكرة التفاهم، ولأي انتهاك للأراضي الصومالية برًّا وبحرًا وجوًّا، تبعها قيام مقديشيو بتوقيع قانون يُلغي بموجبه مذكرة التفاهم، كما قامت بطرد الدبلوماسيين الإثيوبيين من أراضيها، وطالبت بانسحاب القوات الإثيوبية من مقديشيو الذين يتراوح عددهم ما بين 8 آلاف إلى 10 آلاف جندي إثيوبي متمركزين بشكل أساسي في ولايتي جوبالاند وجنوب غرب الصومال، وذلك بحلول نهاية العام 2023م، وهو ما قابله تمسُّك أرض الصومال وأديس أبابا بتنفيذ مذكرة التفاهم.
ولم يقتصر الرفض والاستنكار على الجانب الصومالي، بل إن مذكرة التفاهم أثارت كذلك توترات بين أديس أبابا ودول جوارها الجغرافي، لا سيما المطلة على البحر الأحمر. فعلى سبيل المثال، تسبَّب الإعلان المفاجئ عن مذكرة التفاهم في إحراج جيبوتي التي قامت بوساطة بين مقديشيو وأرض الصومال بقيادة الرئيس الجيبوتي “إسماعيل عمر جيلة”، وانتهت بالتوصل لاتفاق لإقامة تعاون كامل في المسائل الأمنية، واستعادة السلام والاستقرار في مناطق النزاع في 28 ديسمبر 2023م، إلى جانب تعهُّد الجانبين بالاتفاق على خارطة طريق للمحادثات في غضون 30 يومًا، إلى أن تفاجأت جيبوتي بمذكرة التفاهم في الأول من يناير 2024م.
بالإضافة إلى توتر العلاقات بين إريتريا وأديس أبابا، ليس كأحد التداعيات المباشرة لمذكرة التفاهم، وإنما يعود التوتر بين البلدين منذ خطاب رئيس وزراء إثيوبيا “آبي أحمد” في أكتوبر 2023م أمام البرلمان الإثيوبي الذي أعلن عن أحقية أديس أبابا في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، مستندًا في ذلك إلى خرائط تعود إلى حقبة مملكة أكسوم في القرن الثالث لدعم مطالب إثيوبيا الإقليمية بموانئ على البحر الأحمر، وهو ما أثار قلق ورفض إريتريا، وكذلك الصومال كدول ساحلية مطلة على البحر الأحمر، بينما لجأت جيبوتي إلى نهج مختلف لخفض حدة التوترات في المنطقة؛ بعرضها على إثيوبيا إمكانية إدارة كاملة لأحد الموانئ الجيبوتية “تاجوراء” الواقعة في شمال البلاد، وعلى بُعْد حوالي 100 كيلو متر من الحدود الإثيوبية، وذلك في سبتمبر 2024م.
ومِن ثَمَّ، وفي ضوء توتر العلاقات الإثيوبية الصومالية، تأتي زيارة بيرنز الثانية إلى كلٍّ من الصومال وكينيا كسبيل لمعرفة مستجدات المشهد الإقليمي المضطرب إثر الخلاف الإثيوبي الصومالي، وما تبعه من تقارب مصري مع الصومال انتهى بتشكيل تحالف ثلاثي بين كلٍّ من (مصر والصومال وإريتريا) في أكتوبر 2024م، بهدف تعزيز التعاون الأمني فيما بينهم، والذي سبقه إعلان القاهرة في أغسطس 2024م، عن المساهمة بنحو 5 آلاف جندي في بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة لدعم الاستقرار في الصومال، المقرر بدء مهام عملها في يناير 2025م، وذلك كسبيل للخروج برؤية تقييمية يُمكن البناء عليها لمعرفة الخيارات الأمريكية للتهدئة بين الطرفين، ويضمن الحفاظ على السيادة الصومالية على أرض الصومال، بما في ذلك القيام بوساطة أمريكية، خاصةً مع فشل الوساطة التركية في التهدئة.
بل ربما جاءت زيارة بيرنز إلى نيروبي للاطلاع على المقترح الكيني للتهدئة بين أديس أبابا والصومال، والذي يتضمن التفاوض على معاهدة إقليمية بحرية تحكم كيفية وصول دول المنطقة إلى الموانئ بناء على شروط تجارية وفق تصريح وكيل وزارة الخارجية وشؤون المغتربين في كينيا “كورير سينجوي”، الصادر في أبريل 2024م، والذي يبدو أنه تم عرضه على الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود خلال اجتماع مع نظيره الكيني “وليام روتو” في نيروبي، إلى جانب معرفة موقف الجانب الصومالي منه، ومدى إمكانية ترجمته على أرض الواقع، وما يحققه من مكاسب أو ينجم عنه من تنازلات. بمعنى آخر، معرفة فرص نجاحه بشكل مجمل، وإمكانية تبنّيه مِن قِبَل واشنطن كسبيل لتهدئة التوترات في الإقليم.
إقرأ أيضا : جديد في كل مكان ولا جديد بشأن غزة
– تحالف القرن الإفريقي الجديد… الاتفاق الثلاثي المصري الصومالي الإريتري
كانت مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال بمثابة نقطة البداية لمرحلة إعادة صياغة شبكة التحالفات في منطقة القرن الإفريقي بشكل خاص، وربما إقليم شرق إفريقيا بشكل عام؛ فبالمقارنة بين الوضع الإقليمي في العام 2018م عندما وصل رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” للسلطة، وما نجم عنها من تحولات لافتة عززت من الاستقرار والسلام في الإقليم، وتُوِّجت باستعادة العلاقات الإثيوبية مع إريتريا، ثم تشكيل التحالف الثلاثي الإثيوبي الإريتري الصومالي المعروف باسم تحالف القرن الإفريقي، وبين الوضع الإقليمي الحالي تحديدًا منذ توقيع أديس أبابا اتفاقية بريتوريا للسلام مع جبهة تحرير تيجراي في نوفمبر 2022م، والذي أثار بطبيعة الحال توترًا في العلاقات مع إريتريا، ومن بعدها الصومال عقب توقيع أديس أبابا مذكرة التفاهم مع أرض الصومال، وهو ما نجم عنه تفكك أضلع التحالف الثلاثي، يتضح بشكل بَين حجم التغيرات في العلاقات البينية بين دول الإقليم، وأننا في حالة أشبه بإعادة صياغة شبكة التفاعلات في القرن الإفريقي.
فكان الملمح الأبرز في هذا التطور تقارب العلاقات المصرية الصومالية مع مجيء حسن شيخ محمود للسلطة، وتوقيع البلدين برتوكول تعاون عسكري مع مقديشو في أغسطس 2024م، تضمَّن دعم الصومال بمعدات عسكرية في خطوة هي الأولى منذ 4 عقود، عُقِدَ في أعقابها قمة ثلاثية بين مصر وإريتريا والصومال في العاصمة الإريترية أسمرة في أكتوبر 2024م، تم بموجبها تدشين ما أطلق عليه تحالف “القرن الإفريقي الجديد”؛ حيث اتفق قادة القمة على تشكيل لجنة مشتركة دائمة من وزراء الخارجية لتعزيز التعاون الإستراتيجي في كافة المجالات، كما تم التأكيد على دعم الصومال ووحدة وسيادة واستقلال الصومال ووقف الإجراءات الأحادية التي تُهدِّد سيادتها على أراضيها، في إشارة ضمنية إلى الطموح الإثيوبي بالحصول على منفذ بحري وانتهاك السيادة الصومالية.
يُضاف إلى ذلك، أن القادة الثلاثة أكدوا على أهمية مساندة الصومال في مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله البرية والبحرية، بما في ذلك إرسال قوات عسكرية للمشاركة ضمن قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال بدون مشاركة إثيوبيا، ودعم جهود مقديشيو في الحصول على التمويل من الشركاء الدوليين والمؤسسات العالمية لتمويل بعثة الاتحاد الإفريقي القادمة، إلى جانب دعم الصومال خلال عضويتها في مجلس الأمن الدولي 2025– 2026م. وبالتالي، يُعدّ التحالف الثلاثي أداة مناكفة للجانب الإثيوبي، ووسيلة لعزل أديس أبابا عن محيطها الإقليمي.
ومِن ثَم، هدف “بيرنز” من جولته لكينيا والصومال، إلى معرفة أشكال التقارب المصري الصومالي المعلن والخفي وحدوده، وانعكاساته على محيطه الجغرافي، لا سيما الجانب الإثيوبي، وانعكاساته كذلك على النفوذ الأمريكي في الصومال، لا سيما بعدما أطلقت أديس أبابا تحذيرًا رسميًّا لواشنطن من نشر القاهرة لقواتها في الصومال، وهو ما يتطلب لفت الأنظار إلى أن زيارة “بيرنز” إلى كينيا والصومال جاءت ضمن جولة خارجية له شملت مصر، التقى خلالها بيرنز بالرئيس عبد الفتاح السيسي من أجل التباحث في التطورات الأمنية في المنطقة إثر الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى جنوب لبنان، وكذلك تطورات الحرب السودانية، والتصعيد الحوثي في البحر الأحمر، والتي من المؤكد أن تطورات المشهد في القرن الإفريقي أحد ملفات التباحث بين الجانبين.
– احتدام التنافس الإقليمي والدولي في منطقة القرن الإفريقي
إن أحد أسباب المخاوف الأمريكية التي دفعت بيرنز إلى إجراء جولته الثانية هو احتدام تنافس القوى الإقليمية والدولية في منطقة القرن الإفريقي بشكل عام، مع تكثيف الجهود لتعزيز النفوذ في كلٍّ من كينيا والصومال انطلاقًا مما تتمتع به الدولتان من أهمية جيوستراتيجية سبق الإشارة إليها، أبرزها روسيا الصين وتركيا.
إن التحركات الروسية في الصومال وكينيا تُعدّ أحد أبرز التهديدات للمصالح الأمريكية في المنطقة، وذلك في ظل ما تم رصده من تقارب روسي صومالي خلال الآونة الأخيرة، تنعكس في تصريحات السفير الروسي لدى جيبوتي والصومال “ميخائيل غولوفانوف” في يوليو 2024م، حول عزم مقديشيو على توسيع التعاون مع موسكو في العديد من المجالات، في ظل ما تتمتع به الأولى من ثروات معدنية تُعدّ محل اهتمام واسع لدى المستثمرين ورجال الأعمال الروس، سبقها إعلان موسكو عن استعدادها دعم مقديشيو بالأسلحة كسبيل لتعزيز جهود قواتها المسلحة في مكافحة الجماعات الإرهابية في مايو 2023م، وذلك على لسان وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” الذي أضاف بأن موسكو ستواصل تدريب عناصر الشرطة الصومالية([23])، بالإضافة إلى إعلان موسكو إعفاء مقديشيو مما يزيد على 684 مليون دولار، في اتفاق تم التوصل إليه على هامش القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبرج في يوليو 2023م.
يُضاف إلى ذلك، أنه على الرغم من إعلاء إدارة الرئيس الكيني “روتو” سياسة “التوجه غربًا”؛ بالعمل على تعزيز العلاقات مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي؛ إلا أنه تم رصد مؤخرًا محاولات للتقارب الروسي الكيني تنعكس في تصريح سفير كينيا لدى روسيا “بيتر موثوكو” في أكتوبر 2024م حول عزم كينيا تكثيف التعاون مع روسيا في مجالات الطاقة النووية والمتجددة، وذلك على هامش مشاركته في منتدى «شمال القوقاز: فرص جيو-إستراتيجية جديدة»، سبقها إجراء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارة سرية لنيروبي في مايو 2023م، في محاولة لضمّ الصوت الكيني لصفوف الدول الإفريقية الداعمة لموسكو في حربها على أوكرانيا من جانب، ولكسب شريك إفريقي جديد يُعدّ من أهم شركاء واشنطن والقوى الأوروبية، عبر فتح مجالات للتعاون في مختلف المجالات كالتجارة والاستثمار والاقتصاد من جانب آخر، أكد خلالها الرئيس الكيني على اتجاه بلاده إلى تعزيز علاقاتها التجارية مع روسيا، واصفًا العلاقات بين نيروبي وموسكو بـ”الضعيفة”، رغم القدرات الهائلة، بما يُشير إلى حرص نيروبي على تقوية العلاقات الثنائية خلال الفترة القادمة.
ناهيك عن النفوذ الصيني المتنامي في شرق إفريقيا عمومًا، ولدى الصومال وكينيا على وجه الخصوص؛ حيث إن بكين من أبرز الشركاء التجاريين لنيروبي ومصدر رئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد؛ حيث بلغ حجم الاستثمارات الصينية في كينيا حوالي 2.26 مليار دولار، وهو من أعلى المعدلات خلال السنوات الأخيرة في إفريقيا، كما أن هناك مسعًى لتعزيز العلاقات الثنائية في مختلف مجالات التعاون، مثل البنية التحتية والطاقة وغيرهما، لا سيما في مجال التعاون الأمني، انطلاقًا من حرص بكين على حماية تجارتها المارة في المحيط الهندي والمتجهة نحو البحر الأحمر في ظل تنامي نشاط القرصنة، وهو ما تجسَّد في إنشاء بكين أجهزة أمنية لحماية مصالحها الحيوية ومشروعاتها في نيروبي، إلى جانب تدريب قوات الشرطة الخاصة الكينية كسبيل لرفع قدرات الجهاز الأمني الكيني.
يُضاف إلى ذلك، التقارب الصيني الصومالي الذي يستند إلى تاريخ ممتد من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين؛ حيث إن مقديشيو أول دولة في شرق إفريقيا تُقيم علاقات مع بكين، كما أنها دعمت حصول الأخيرة على مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، كما أعلن الرئيسان الصيني والصومالي خلال قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي في عام 2024م رفع العلاقات الصينية الصومالية إلى شراكة إستراتيجية، مع التخطيط لتنمية العلاقات الصينية الصومالية، بالإضافة إلى تأكيد بكين احترام وحدة الأراضي الصومالية عقب إعلان أرض الصومال توقيع مذكرة تفاهم مع أديس أبابا، ناهيك عن الزيارات المكثَّفة للمسؤولين الصينيين إلى الصومال كاللقاء الذي جمع السفير الصيني لدى مقديشيو مع وزير الدفاع الصومالي “عبد القادر محمد نور جامع”؛ لمناقشة تعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب، وإعلان بكين عن تبرعها للشعب الصومالي بأكثر من ألف طن من المساعدات الغذائية الطارئة لمواجهة الجفاف الكارثي الذي يُهدِّد حياة الصوماليين.
يُضاف إلى ذلك، الانخراط التركي في الصومال والمنعكس في توقيع البلدين اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في 3 مناطق قبالة الساحل الصومالي في يوليو 2024م، نجم عنها إرسال أنقرة سفينة الأبحاث السيزمية التركية “عروج ريس” إلى ميناء مقديشو في أكتوبر من نفس العام؛ لإجراء مسح للغاز والنفط، في مهمة تستمر 7 أشهر، وذلك في منطقةٍ “تحظى بكميات كبيرة، من الليثيوم والذهب، والغاز، وغيرها من المعادن التي تحتاج إليها الدول الكبرى، بالإضافة إلى إبرام أنقرة مع نيروبي اتفاقية تعاون في الصناعات الدفاعية في يوليو 2023م، تهدف لتوريد وتطوير كافة أشكال الخدمات والمنتجات التي تحتاجها المؤسسات الأمنية لدى الجانبين وتطويرها وإنتاجها وبيعها لطرف ثالث، والتي كان أحد ثمارها تسليم أنقرة لكينيا طائرات غير مأهولة تركية من طراز “أنكا” تُصنّعها الشركة التركية لصناعات الفضاء، ناهيك عن التعاملات التجارية بين البلدين التي بلغت في العام 2019م نحو 234 مليون دولار أمريكي، وارتفعت في العام 2020م لتُسجِّل 251 مليون دولار أمريكي.
2- التصعيد الحوثي في المحيط الهندي والبحر الأحمر وتنامي نشاط القرصنة
يبدو أن أحد أهداف الزيارة وملفات التباحث غير المعلنة بين بيرنز والرئيسين الصومالي والكيني، بحث ملف التصعيد الحوثي في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ وذلك لما يتصدره الملف من أهمية خاصة لدى الجانب الأمريكي تنعكس في توجيه واشنطن منذ يناير 2024م عدة ضربات استهدفت تمركزات عسكرية لجماعة الحوثي في اليمن، بالتعاون مع بريطانيا، بالإضافة إلى ما تمتلكه مقديشيو ونيروبي من سواحل مطلعة على المحيط الهندي والبحر الأحمر، جعلت البلدين أحد أكثر البلدان تأثرًا من الضربات/ الهجمات الحوثية للسفن المارة عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ حيث تمتلك نيروبي ساحلاً مطلعًا على المحيط الهندي يبلغ طوله 536 كم يضم ثلاثة موانئ هم (مومباسا ولامو وماليندي) ضمن عدة موانئ داخلية.
كما تمتلك الصومال أطول سواحل القارة الإفريقية بطول يبلغ أكثر من 3 آلاف و300 كيلو متر، يُطلع على خليج عدن في الشمال وقناة جاردافوي في الشمال الشرقي والمحيط الهندي في الشرق، كما تمتلك عدة موانئ بحرية أبرزهم بربرة ومقديشو وبوساسو وكيسمايو وميركا، إلى جانب عدة موانئ أخرى صغيرة ومتوسطة الحجم مثل هوبيو وجاراكاد.
ومِن ثَم، فإن التصعيد الحوثي في البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر استهداف السفن وتهديد حركة الملاحة والتجارة الدولية، يُعدّ أحد أبرز التهديدات المشتركة بين الجانبين الصومالي والكيني، والجانب الأمريكي، خاصةً في ظل ما تُعانيه دول شرق إفريقيا من تحديات إثر التصعيد الحوثي، كنقص السلع وارتفاع تكاليف بعضها. فعلى سبيل المثال، 12% من صادرات كينيا، و15% من وارداتها تمر عبر البحر الأحمر.
ومن الجدير بالذكر، أن الزيارة الأولى لبيرنز في يناير 2024م لمقديشيو جاءت عقب عملية لقوات النخبة البحرية الأمريكية لاعتراض شحنة أسلحة إيرانية قبالة الساحل كانت في طريقها إلى جماعة الحوثي في إطار الدعم الإيراني العسكري لذراعها الإقليمي في المنطقة، والتي فقدت خلالها قوات الكوماندوز الأمريكية اثنين من عناصرها، كما أنها تُفسِّر بشكل جزئي السبب وراء إعلان واشنطن في فبراير 2024م تعزيز دعمها العسكري للصومال عبر بناء 5 قواعد عسكرية جديدة تقع اثنتان منها في مدن ساحلية هما مدينتا (مقديشيو وكيسمايو).
علاوةً على ذلك، فإن التصعيد الحوثي في البحر الأحمر والمحيط الهندي أسهم في خلق اضطرابات أمنية خلقت بيئة مناسبة لاستعادة القرصنة نشاطها؛ حيث حذرت عملية أتلانتا التابعة للقوة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي من احتمالية عودة نشاط القرصنة في النصف الثاني من العام 2024م، عقب رصد العملية مجموعة قراصنة مكونة من 13 مسلحًا غادرت مراكز القرصنة الصومالية التقليدية، واتجهت نحو المحيط الهندي، بما يُشير إلى تزايد عمليات القرصنة خلال الفترة القادمة.
جاء تحذير أتلانتا بعدما سجلت الظاهرة عودة نشطة خلال أواخر العام 2023م والربع الأول من العام 2024م، بعدما رصدت أحدث البيانات الصادرة عن مكتب بيرو البحري الدولي التابع لغرفة التجارة الدولية the International Maritime Bureau (IMB) في أبريل 2024م، وقوع نحو 33 حادثة قرصنة وسرقة على طول ساحل الصومال خلال الربع الأول من العام 2024م، بنسبة زيادة تعادل 18.2٪، مقارنةً بالفترة نفسها من العام 2023م التي تم خلالها تسجيل وقوع 27 حادثة، تراجع على إثرها نشاط القرصنة نتيجة الرياح الموسمية، إلى أن تم تسجيل أول نشاط للقراصنة تم الإبلاغ عنه في 7 يونيو 2024م، والذي تمثل في اقترابٍ مشبوهٍ من سفينة الشحن “باسيفيك هونور، وهو ما يجعل من نشاط القرصنة أحد أبرز التحديات المُهدِّدة للمصالح الأمريكية في الصومال وفي البحر الأحمر، والتي من المؤكد أنها تصدرت أجندة مباحثات بيرنز خلال زيارته للصومال، انطلاقًا من كون مجموعات القرصنة نابعة من الداخل الصومالي.
3- المخاوف الأمريكية من تنامي نشاط حركة الشباب
يُعدّ نشاط حركة الشباب الصومالية ومستجدات العملية العسكرية الصومالية لمكافحة الإرهاب أحد الشواغل الأمريكية التي تتصدر اهتمام واشنطن، مثلما كانت أحد الملفات الحيوية في مباحثات بيرنز مع الرئيسين الصومالي والكيني، خاصةً في ظل عدة تحولات مهمة تؤثر بشكل إيجابي على نشاط حركة الشباب، كالانسحاب المحتمل للقوات الإثيوبية من الصومال بناء على طلب مقديشيو، إلى جانب الانتقال من بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال (ATMIS)، إلى بعثة الاتحاد الإفريقي لدعم واستقرار الصومال (AUSSOM) المقرر بدء عملها في يناير 2025م، والتي قد ينجم عنها فراغ أمني تنجح حركة الشباب في استغلاله لتوسيع نفوذها ليس فقط في الصومال، وإنما كذلك في كينيا الامتداد الجغرافي لنشاط حركة الشباب، وبالتالي تحاول واشنطن استباق خطر تنامي نشاط حركة الشباب عبر الوقوف على أبرز مستجدات المشهد الأمني والميداني لحركة الشباب في الصومال وكينيا عبر زيارة بيرنز، خاصةً عقب رصد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في تقريره الشهري لمتابعة أنشطة التنظيمات الإرهابية في شهر أكتوبر 2024م، عن تركز النشاط الإرهابي في الصومال للشهر الثالث على التوالي، مع تمكُّن كينيا من الحفاظ على أمنها واستقرارها للشهر الثالث على التوالي.
فلقد أوضح مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2024م، احتلال الصومال المرتبة السابعة في قائمة الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب في العام 2023م، بينما احتلت كينيا المرتبة الـ18 في المؤشر، وذلك على الرغم من انخفاض عدد الوفيات الناجمة عن العمليات الإرهابية لحركة الشباب في العام 2023م من 800 في العام 2022م، إلى 499 في العام 2023م بنسبة 38%، وقع نحو 86% منها في الصومال، لا سيما في مناطق مثل بنادر وشبيلي عقب انخفاض عدد الوفيات الناجمة عن عمليات حركة الشباب بنسبة 76 و89% على التوالي خلال الفترة (2022 -2023م)، بل من اللافت أن شبيلي الوسطى وهيران تفوقتا على منطقة بنادر التي تضم مقديشيو –مركز النشاط الإرهابي لفترة طويلة- في عدد القتلى في صفوف حركة الشباب بعدما سجلت المنطقتان 133 و117 حالة وفاة على التوالي في عام 2023م.
بينما وقع 14% من عدد قتلى العمليات الإرهابية الناجمة عن نشاط حركة الشباب خلال العام 2023م في كينيا، بواقع 70 قتيلاً في نسبةٍ هي الأعلى في نيروبي منذ العام 2019م، والتي وقع أغلبها في منطقة لامو القريبة من الحدود الصومالية بعدما سجلت لوحدها 26 حالة وفاة في عام 2023م، أي أكثر بعشرة عن العام 2022م، تبعها مقاطعتا جاريسا ومانديرا، اللتان سجَّلتا مجتمعَتَيْن 37 قتيلاً.
ومِن ثَم، تأتي زيارة بيرنز من أجل تقديم رؤية أمريكية ميدانية لمكاسب الإستراتيجية الصومالية لمكافحة الإرهاب وما تواجهه من تحديات تُعيق جهودها في القضاء على حركة الشباب الصومالية، وذلك استكمالًا للجهود الأمريكية لدعم القوات الصومالية في مكافحة الإرهاب منذ العام 2010م، والتي بلغت أكثر من 500 مليون دولار، ناهيك عن نشر حوالي 500 مستشار عسكري أمريكي في المنطقة لدعم جهود مكافحة الإرهاب.
4- تعظيم التعاون الاقتصادي الأمريكي مع الصومال وكينيا
في ضوء ما تتمتع به مقديشيو ونيروبي من ثروات معدنية وموارد طبيعية وموقع إستراتيجي في قلب منطقة شرق إفريقيا، فهناك العديد من المزايا الاقتصادية والتجارية التي تسعى واشنطن لتعظيمها مع كل من مقديشيو وكينيا عبر زيارة بيرنز، بما يُشير إلى سعى أمريكي لتعزيز التعاون الاقتصادي مع البلدين، في ظل ما تُشير إليه أحدث الإحصائيات من ضعف حجم التبادل التجاري الأمريكي مع كلٍّ من الصومال وكينيا.
ففي العام 2023م، سجَّلت واشنطن عجزًا في تجارة السلع مع كينيا، بعدما بلغ إجمالي الصادرات الأمريكية 443 مليون دولار بينما بلغ إجمالي الواردات 895 مليون دولار، وهو بالمقارنة بالعام 2022م تم تسجيل ارتفاع ملحوظ؛ حيث بلغت حجم الصادرات الأمريكية إلى كينيا في العام 2022م نحو 604 مليون دولار، بزيادة 8.1% (45 مليون دولار) عن عام 2021م، وبزيادة 6% عن عام 2012م، بينما بلغ إجمالي واردات السلع الأمريكية من كينيا 875 مليون دولار في عام 2022م، بزيادة 27.7% (189 مليون دولار) عن عام 2021م، وبزيادة 125% عن عام 2012م.
وتدرك واشنطن أن الاقتصاد الكيني اقتصاد ناشئ في شرق إفريقيا، وفي المقابل تسعى نيروبي إلى الاستفادة من قانون النمو والفرص الإفريقية الذي أقرته الولايات المتحدة، والذي يمنح للدولة الإفريقية وضعًا تجاريًّا تفضيليًّا مع واشنطن، عبر زيادة صادراتها، وهو ما يُستدل عليه بإطلاق الرئيسين الأمريكي والكيني في مايو 2024م خلال أول زيارة لرئيس كيني للبيت الأبيض منذ أكثر من عقدين، “رؤية نيروبي– واشنطن”؛ التي ضمَّت مبادرات لتقديم دعم مالي لنيروبي يُمَكِّنها من تجاوز أزمة ديونها، إلى جانب توفير فرص لتمويل القطاع الخاص، بعدما أعلن بايدن توفير مبلغ 21 مليار دولار لصندوق النقد الدولي الذي سيُوفِّر من جانبه مبلغ 250 مليون دولار، وهو ما يكشف عن محاولة أمريكية لاستعادة النفوذ الأمريكي في شرق إفريقيا عبر البوابة الكينية، ويعكس احتلال نيروبي مكانة الشريك الإستراتيجي الأمني والاقتصادي المستقبلي لواشنطن في إفريقيا، خاصة عقب تعيين كينيا كأول حليف رئيسي غير عضو في حلف شمال الأطلسي” في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في مايو 2024م.
أما بالنسبة للعلاقات الاقتصادية الأمريكية الصومالية، فهناك حرص أمريكي على تكثيف دعمها الاقتصادي والتجاري لمقديشيو خلال الفترة القادمة، ورفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، وهو ما ينعكس في تنازل واشنطن عن 1.14 مليار دولار من الديون المستحقة على الصومال في نوفمبر 2024م، وهذا الإعفاء يُعدّ جزءًا من حزمة مساعدات أكبر بقيمة 1.2 مليار دولار من الولايات المتحدة في السنة المالية الحالية، مع التركيز على التنمية والاستقرار الاقتصادي والأمن والمساعدات الإنساني، وذلك في خطوة أمريكية تهدف نحو تعزيز التعاون بين البلدين، ودعم الاقتصاد الصومالي، والمشاركة في إعادة بناء الخدمات العامة الأساسية.
خلاصة القول:
تكشف الزيارة الثانية لبيرنز عما تحتله مقديشيو ونيروبي من أهمية بالغة في الإستراتيجية الأمريكية تجاه القارة الإفريقية عمومًا، وشرق إفريقيا على وجه الخصوص، وتكشف عن تحوُّلهما لنقطتي ارتكاز مُهمَّة للنفوذ الأمريكي في شرق إفريقيا، قد تكون –على الجانب الآخر- بوابة لاستعادة النفوذ الأمريكي في القارة عقب ما سجَّلته من تراجع في منطقة الساحل الإفريقي، وهو ما يُنْذِر بتحوُّل الساحتين الصومالية والكينية بشكل خاصّ، ومنطقة القرن الإفريقي بشكل عام، لساحة للاستقطاب الدولي في ضوء ما تمرّ به المنطقة من تحوُّلات إقليمية وتواجهه من تحديات أمنية وسياسية خطرة.