كلُّ شىءٍ فى إسرائيل له رائحة الجنون. لم يحدث من قبل أن يكون بلدٌ بكامله فى عُمق المُستنقع، بمَدنيِّيه قبل عسكريِّيه، وبجنرالاته قبل السياسيِّين وبعدهم. ربما كانوا هكذا طوالَ الوقت؛ لكنّ وحشيّتهم صارت أعلى وأكثر صخبًا منذ طوفان الأقصى.
العاقلُ اليوم يطلُب إرخاءَ حبل النار لأجل استعادة الأَسرى، أو التحضير الجيِّد لجولة الإبادة التالية؛ أمَّا المخابيل مثل نتنياهو وعصابته التوراتيّة الرديفة فإنهم لا يتوقّفون عن النفخ فى المحرقة، وليس فى خيالهم أن يهدأ فضاءُ غزّة فى القريب. والمُؤسف أنَّ المُوكّلين، أو بالأحرى مَن وكّلوا أنفسَهم، بشؤون الضحايا يُلاقون اللوثةَ الصهيونية عند أحطِّ مُستوياتها؛ فكأنهما يختلفان فى الوسيلة ويتّفقان على الغاية إلى حدِّ التطابق.
لم يعُد مُريحًا القول إنّ رئيس الحكومة العبرية يتمسّك بالحرب لهوىً شخصىٍّ فحسب، وإنه لن يُغادرَ الميدان خوفًا من دخول قفص المُساءلة. الواقع أنَّ الاحتمالات كلَّها مُتطابقة؛ أكان زعيمُ الليكود على رأس السلطة، أو حلّ بدلاً منه بينى جانتس أو يائير لابيد من يمين الوسط. بل ربما لا أُغالى لو قلت إنه لا اختلاف على الإطلاق ولو بُعث اليسار من مقبرته الرثّة وتولَّى مقاليد الأمور، وما من شبرٍ فى جسد المنطقة العربية بكاملها إلّا فيه أثر رصاصةٍ سوداء أو طعنةٍ غادرة من عُمَّال إسرائيل وذوى النكهة الاجتماعية الناعمة.
وما يحدثُ أنهم يُوزّعون الأدوار، أو يختلفون فيما بينهم على الأنصبة؛ إنما الدراما نفسها محفوظةٌ بالرؤية الاستراتيجية الثابتة لعصابةٍ صارت دولةً، ولعقلٍ واحدٍ أُعيد استنساخُه ملايين المرّات فى جماجم الإسرائيليين؛ فاختلفت أشكالُهم وخطاباتهم وتطابقت أفكارُهم ومنطلقاتُهم.
أوضح ما يكشف عن ذاك التناقضِ المُربك، مسألةُ تجنيد الحريديم. قبل أيّامٍ أقرّ الكنيست بالقراءة الأولى مشروعَ قانون يقضى بإعفائهم، وثار الليبراليون والعلمانيون جميعًا على ما اعتبروه نِفاقًا وانتهازية ليكوديّةً يُديرها نتنياهو لصالحه؛ بل وصل الشِّقاق إلى أنَّ وزيرَ دفاعه وتابعَه الحزبىّ «يوآف جالانت» صوّت ضد النصِّ المُقترَح، ليعبُر إلى القراءة الثانية بثلاثة وستين صوتًا، تقلّ بصوتٍ عن كُتلة الائتلاف الحكومى، بينما عارضه الباقون بالتصويت.
وقال نوابٌ من الأغلبية إنهم لا يتّفقون معه ولا يرونه مثاليًّا؛ إنما دعموه من باب الاحتياج المُلِحّ والالتزام السياسى، ويدعون إلى النظر فيه مُستقبلاً لضبطه وتصويبه. وبطبيعة الحال كان «جانتس» ومعه آيزنكوت وبقيّة أطياف معسكر الدولة على الجانب المقابل، والمُضاد تمامًا، ولا يرون فى الدعوة إلا خيانةً وطنيّة فى زمن الحرب!
المُفارقةُ أنَّ الطرحَ نفسَه ليس جديدًا، وسبق أن قدَّمه «جانتس» قبل نحو سنتين، وكان وزيرًا للدفاع وقتها. فى الجولة الأولى كانت الصورة هكذا: جانتس ومعسكره فى جانب الحكومة والأغلبية، ونتنياهو ومعه الحريديم فى جانب الأقليّة المُعارِضة. طرحَ الأوَّلُ القانونَ وصوَّت له، واعترض عليه الثانى وصوَّت ضدّه بالتبعية.
أمَّا اليوم فالنصُّ التشريعىّ ثابت إنما المشهد السياسى مقلوب: نتنياهو يعرضُ مشروع جانتس على النواب ويُصوّت له، وصاحب المشروع أصلاً يعترضُ عليه ويُصوّت ضده.. بين الحالين؛ لا يبدو الصراعُ الناشب أخيرًا عاملَ اختلافٍ يُسوّغُ المُقابلةَ المُضحكة؛ لا سيِّما أنها حربٌ من طرفٍ واحد ولا تُهدِّد إسرائيل وجوديًّا كما تقول فى دعاياتُها.
الحكايةُ كلّها أنها نزاعات السياسة والمصالح الحزبية والشخصية، تمنحُ الوجوهَ نفسَها ألوانًا مُغايرة بحسب مواقعهم؛ لا انطلاقًا من أيديولوجيا ولا التزامًا بثابتٍ قِيَمى وتنظيمى. وعلى هذا المنوال تسيرُ إسرائيل بكاملها؛ كأنه بلدٌ هُلامىٌّ نبت على طاولة رُوليت، وصارت أمورُه جميعًا تُدار بمنطق المُقامرة وأطماع المُقامرين المحترفين.
الباعثُ على أن يتبادل «بيبى» موقعه مع «بينى»، هو نفسُه ما أثار نزاعاتٍ مكتومةً حينًا ومُعلنةً أحيانًا بين رئيس الحكومة ووزير حربه. أحدثُ الحلقات بدت كوميديّةً وصادمة؛ إذ أعلن جيشُ الاحتلال عن هُدنةٍ تكتيكيّة يومية جنوبى قطاع غزّة، تمتد إحدى عشرة ساعة بين الثامنة صباحا والسابعة مساء، وفى الجغرافيا من معبر كرم أبو سالم عَرضِيًّا باتجاه محور صلاح الدين ثمّ رأسيًّا إلى خان يونس.
الغرضُ المُعلَن تهدئة طريق المُساعدات ومَنح الفرصة لفِرَق الإغاثة أن تُؤدِّى عملَها، وقد صارت الأوضاع مأساويّةً ولا تتوقّف المُنظّمات الدولية عن التحذير من كارثةٍ ماثلة. أمَّا فى العُمق فالأمرُ يحتملُ بالتبعية ترتيبًا عسكريًّا وإعادةَ تنظيم للصفوف، مع غايةٍ انتهازية تنبعُ من مَنح الحماسيِّين شعورًا زائفًا بالأمان، أو فُسحةً لالتقاط الأنفاس وإعادة توزيع مجموعات القتال والأسلحة، ما يسمحُ لطائرات الرقابة والاستطلاع بإعادة رسم خريطةٍ مُحدّثةٍ للحركة وكتائبها وقُدراتها الحاضرة على الأرض. المهمّ أنَّ الخطوةَ اليسيرة فى معناها والمكشوفة فى أهدافها كانت أحدث عوامل النزاع فى تل أبيب.
بمجرّد الإعلان عن الهُدنة هاجَ نتنياهو وقال إنها غير مقبولة، ولم تلتزم التدرُّج الطبيعىَّ للسلطة وأن تأتى فى إطار التشاور والتنسيق معه، وأردف بأنَّ إسرائيل بلدٌ يُدير جيشًا وليس العكس. صحيح أنه فى وعيه العميق كرجلٍ آت من نطاق الدبلوماسية والبيزنس، يفصل بين السياسة والعسكرية، ويُرتِّب الساسيِّين فوق الجنرالات؛ لكنَّ الأخيرين لا يرون الأمر كذلك.
ليس من مُنطلق أنهم الأكثر حضورًا فى دواليب السلطة بالفعل؛ إنما لأنَّ الكيان تأسَّس على أكتافهم أصلاً، سواء فى صِفتهم القديمة كرجال عصابات وقُطّاع طُرق و»فتوّات» للكيبوتس والتجمُّعات الصهيونية، أو بعدما منحوا أنفسهم نجومًا وألقابًا وشارات شَرف. المهمّ أنَّ الإدارة الحربية تراجعت جزئيًّا بتأكيد أن الحرب مُستمرّة لم تتوقَّف، والأنشطة اليومية على حالها، وأنها ما تزال مُتمسِّكة بالخطّة السابقة ولم تتخلّ عن هدف تطويق حماس وإفنائها، كما لم تُغيِّر شيئًا فى خريطة الانتشار وطبيعة العمليات.
فى القلب من اندفاعة رأس الحكومة وارتخاء قبضة الجيش، يكشفُ المشهدُ عن ظلٍّ آخر للنزاعات الداخلية.. الأوَّل بين نتنياهو وجانتس بعدما خرج الأخير من مجلس الحرب وطالب بانتخاباتٍ مُبكّرة، والثانى بين نتنياهو وجالانت الذى ما زال نظريًّا فى فريقه، وعمليًّا يقفُ على حدود الميدان مُمسكًا بمقاليد القرار العسكرى، ويتعزَّز موقفه بأنَّ ثمّة اتّفاقًا واضحًا يجمعه برئيس الأركان هرتسى هاليفى.
والمعنى الذى يُثير انزعاج زعيم الليكود هنا؛ ليس أنَّ الجنرالات جميعًا يقفون على الضفّة المُضادة له؛ إنما أنه مثلما واتتهم الجرأة أن يحلّوا رباط الإجماع الذى انعقد له فى حكومة الطوارئ، تجرّأوا على أن يكسروا تراتُبيّة السلطة واتخاذ القرار؛ فصاروا يُديرون الجبهة من دون علمه أحيانًا، وعلى غير هواه، وبما يُناقِضُ ثوابتَه. وهكذا ربما يبدو أنَّ القيادة العُليا فى الجيش تردّ بطريقةٍ مُغايرة على مشروع قانون إعفاء الحريديم من التجنيد، مثلما يرد «جانتس» على استبداد غريمه بالأمر ونجاته من أثر هدم الكابينت الحربى؛ بأن يسبقه إلى واشنطن قبل موعد خطابه أمام الكونجرس.
قد يتَّخذ كلُّ خيطٍ فى نسيج الصراع الداخلى لونًا ظاهرًا؛ إنما تتداخل جميعًا وتتشابكُ إلى درجة التعقّد بعد بُرهةٍ قصيرة. لقد استُدعى زعيم معسكر الدولة إلى الولايات المتحدة قبل شهور، ورأى نتنياهو أنها محاولةٌ أمريكية للالتفاف عليه وتطويقه من الداخل. ورغم صهيونية بايدن وإخلاصه العميق للدولة اليهودية؛ فالظاهر أنه لا ينسجم مع نمط الإدارة الليكودية الراهنة، وأن لديه رجالاً ولاعبين فى مشهد تل أبيب بالفعل.
هكذا يصحُّ تسويق جانتس كأحد الأوراق الموصولة بالبيت الأبيض ورؤيته، أو أصوله القابلة للصرف فى مناخ الانسداد، وما استقال الرجلُ من مجلس الحرب إلَّا بعد توجيهٍ من هناك، أو ضوءٍ أخضر وعدم مُمانعةٍ على الأقل. وبالمثل؛ فإنَّ التملمُلَ العسكرىَّ الظاهر من خطّة مُمالأة الحريديم وترضيتهم، واستكمالها بقرارٍ حكومىٍّ يُمدِّد فترةَ الاحتياط ثلاثة أشهر، يجعل من قرار الهُدنة التكتيكيّة المُتّخَذ بدون علم نتنياهو واحدًا من تجلّيات المناكفة البينية، وانعكاسات الوصاية الأمريكية على خزّان ضخمٍ من المُوالين لها فى إسرائيل.
لقد دُعِىَ رئيس الحكومة للخطابة أمام الكونجرس لرابع مرّة، وهكذا يتجاوز كلَّ الضيوف التاريخيين ويحجز موقعًا قد لا يُحصّله سياسىٌّ آخر مستقبلاً. والحال أنها التجربة الثانية فى الكابيتول لا على غير هوى الإدارة الأمريكية فى العموم؛ بل على غير هوى «بايدن» بالتحديد. كانت الأُولى عام 2015 فى ولاية أوباما الثانية، والرئيس الحالى كان نائبًا، والاتفاق النووى مع إيران يُعبّئ الأجواءَ بنسائم البِشر والتفاؤل، بينما الذئبُ الليكودىُّ يُهاجمه فى عُقر الدار وعلى مرمى حجرٍ من رأس الإدارة الديمقراطية.
وفى غضون خمسة أسابيع سيُعاد المشهدُ المُرِّ بالتفاصيل نفسها تقريبًا، والرجل الآتى سباحةً فى نهرٍ من الدم، سيُطلّ على أصلب مُؤسَّسات الدولة وأحد مخازن عِفّتها، طارحًا نفسَه زعيمًا يهوديًّا خارجًا من صفحات التوراة النازفة لإنقاذ شعب الله المُختار، وسيقف له النوابُ الأمريكيون ويُصفّقون لما يقول، وكثيره سيكون سِهامًا تُصيب كبدَ الرئيس العجوز فى موسم الانتخابات، وتطعنُ فى استقامته المسيحانيّة التى يفخرُ بها منذ التقى جولدا مائير قبل خمسين سنة، كما ستُترجِمُ أعلى مستوى من عار الامبراطورية وعوارها، إذ تُشيِّع عمليًّا خطّة التهدئة التى سِيقَت للعالم عبر قرارٍ من مجلس الأمن، وقيل إنها إسرائيلية فى منشأها، وإلى اليوم لم يصدر تصريحٌ لصالحها من تل أبيب؛ بل على العكس كلُّ ما يأتى من هناك مُصادمٌ لها بالكامل.
الحدثُ أن جانتس ذاهبٌ للكعبة الأمريكية قبل موعد الخطاب. سيرى المجنونُ الأكبر بين الصهاينة أنها زيارةٌ مُناوئة له، ومن أجل ترتيب خطّة التحايل على وقفة الكونجرس أو إفسادها وتضييع آثارها، ولعلّها فعلاً محاولةٌ لقَطع الطريق إلى الكابيتول أصلاً. الحَرَجُ الذى يُمكن أن يُسبِّبه خطابُ السياسى المَطارَد من الجنائية الدولية، مع تَوقُّع أن تحسُمَ المحكمةُ مسألةَ مُذكّرة التوقيف فى غضون أيام، سيكون أكبر كثيرًا من قُدرة الإدارة الأمريكية على مُناورة حُلفائها قبل الخصوم، وفى الحاضنة الغربية لا فى بيئة الإقليم المُشتعل فحسب.
يصعُب تبرير المُجاهرة الفَجّة باحتضان البرنامج النازى لنتنياهو، وقد تتأجَّج موجةُ الغضب الجامعيّة بدرجةٍ أكبر، وستسقط مفاعيلُ الاحتواء واستمالة التقدُّميِّين والمسلمين وذوى الأصول العربية فى الولايات المُتأرجِحة. ستَبصُم واشنطن بإذعانٍ على انحلال قدرتها أن تُدير الملفات المُستَعِرة، ومن أوكرانيا إلى غزّة ما أحدثت فارقًا إيجابيًّا ولا أعادت بناء الجبهة كما أرادت؛ بل بدت فى مجلس الأمن أضعفَ من ندٍّ لروسيا، وأقلَّ من مندوبٍ عن إسرائيل. والحلُّ الذى ربما لا يتصوُّر رجالُ بايدن سواه، أن يُعادَ تكييفُ المشهد السياسى فى الدولة العبرية، وأن تجرفَ رياحُ الداخل ما تبقَّى من هياكل الحكومة الخائرة.
ربما يُرتِّب الأمريكيّون انطلاقًا من قدرتهم على التفاهُم، وإنفاذ إرادتهم حينما يُريدون، أو على الأقلّ أن يشعروا بتقدير مصالحهم وهواجسهم من جانب الحليف؛ لا كما يفعل نتنياهو بغطرسةٍ واستبداد. أمَّا من الزاوية العربية فلا فارقَ فى الحقيقة؛ لقد قُتِل الفلسطينيون مع اليسار بأكثر ممَّا قُتلوا مع اليمين، أقلَه بحسبة الزمن، ولم يختلف المُعتدلون أو الوسطيّون بين أطيافه عن المُتطرِّفين، واختبرنا أنّ أنياب السياسيِّين لا تقلّ طولاً وحِدّة عن العسكريين.
هكذا تختلفُ النشأة والمرجعيّة والرُّؤى الأيديولوجية بين بيبى وبينى وجالانت؛ إنما فى الأخير كلّهم يلعبون تحت سقف الجنون، وليسوا ثلاثة صُنوف من القتلة؛ بل إنهم أقربُ إلى قاتلٍ واحدٍ بثلاثةِ أقنعة. المأساة أنهم بينما يُنوِّعون فى أوراقهم، ويملكون عِدّة نُسَخٍ من الجنون الواحد؛ فإننا محصورون فى نفقٍ ضيِّق لا مُتَّسَع فيه إلّا لمجنونٍ وحيدٍ ودماغ أضيق من فتحة الخروج.
مُصادمةُ العدوِّ بمنطقٍ يمينىٍّ عقائدى تحشُرُنا فى دوّامةٍ لا تهدأ ولا تنكسر، ومُقارعته بالقوَّة والسلاح تُراكِم لنا الجُثثَ والأطلالَ ولا تُعكِّر صفوَه إلَّا باستهجانٍ وانتقادات؛ سرعان ما تبرُد مفاعيلُها قبل أن تجفَّ دُموع اليتامى والأرامل.. كأنَّ فريقًا من المنكوبين أصابته مُتلازمةُ ستوكهولم؛ فتوحّد مع القاتل واستعار أساليبه؛ إنما يُفعِّلُها فى مُحازبيه لا مُناوئيه، وفى الأهل لا الأغراب، كما لو أنه مع الآخر على الذات.. هكذا يُقتَل الفلسطينيِّون مرّتين: الأُولى بغشومة العدوّ، والثانيةُ بجهالة الشقيق، ولعلّها الأقسى والأكثر إيلامًا.