وجهت في ختام مقال “ترامب لن يستعرض عضلاته إلا على الضعفاء..” نصيحة إلى البلدان العربية عامة و الخليجية خاصة ، بضرورة الابتعاد عن أجندة ترامب و عدم وضع جميع البيض في سلة هذا الرجل الذي يتقن فن الابتزاز و الحلب ، و نأمل أن يدرك إخواننا في الخليج أن العداء لإيران في هذه المرحلة تحديدا، و الإصطفاف إلى الجانب الأمريكي و الصهيوني، لن يحقق السلام و الاستقرار و المصالحة لشعوب الإقليم، و إنما سيجلب مزيدا من الدم والفقر والتهجير..حماية إيران ضد الغزو الأمريكي حماية لمصالح المنطقة و أمنها ككل…فمهما يكن إيران بلد مسلم وجار ، وقد كان موقف إيران قيادة و شعبا من طوفان الأقصى و من المقاومة مشرف جدا و قد دفعت أثمان غالية نصرة للمقاومة و أهلنا في فلسطين و لبنان ، و الخلافات السياسية و المذهبية، تحل بالحوار و التفاوض من قبل العقلاء لا السفهاء..
دورة الأزمات:
و ينبغي الإستعداد لدورة أزمات ، و المنطقة معرضة لمزيد من التفكك و التدخل الأجنبي ، و الهزات الاقتصادية و القلاقل الاجتماعية، و مرد ذلك حالة الصراع بين قطب دولي صاعد و قطب أخر يحاول فرملة الأفول أو على الأقل تأخيره، و أصبح من الواضح أن المواجهة بين الصين و أمريكا قادمة و قائمة لا محالة، و مع صعود ترامب فتصعيد المواجهة و زيادة حدتها أصبحت قاب قوسين أو أدنى، صحيح أن المواجهة المباشرة و تحديدا العسكرية مستبعدة إلى حد ما ، لكن من المؤكد أن سيناريو التعريفات الجمركية و العقوبات الاقتصادية و الضغط على حركة رؤوس الأموال باتجاه الصين، و العودة للحمائية هو السيناريو الذي سيعتمده ترامب و إدارته ..
رسالة مشفرة:
و بعد تأكد الفوز هنّأ الرئيس الصيني شي جينبينغ الخميس 7-11-2024 ترامب على انتخابه رئيسا للولايات المتحدة ودعا إلى “تعزيز الحوار والتواصل” بين البلدين، بحسب ما أفادت وكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا”.ونقل التلفزيون الصيني الحكومي “سي سي تي في” قول شي لترامب إنّ “التاريخ أظهر أنّ الصين والولايات المتحدة تستفيدان من تعاون وتخسران من مواجهة”.وأضاف أنّ “علاقة مستقرة وصحية ومستديمة بين الصين والولايات المتحدة تتفق مع المصالح المشتركة للبلدين ومع تطلعات المجتمع الدولي”.وهذا أول تصريح يدلي به الرئيس الصيني منذ فوز المرشح الجمهوري..
وعود ترامب:
وعودة ترامب إلى البيت الأبيض ستؤدي إلى تعديل العلاقات الصينية-الأميركية التي توترت في السنوات الأخيرة بسبب ملفات خلافية عديدة من بينها تايوان والتجارة وحقوق الإنسان والتنافس بين البلدين في مجال التكنولوجيا المتقدمة..و قد وعد ترامب خلال الحملة الانتخابية، بممارسة ضغوط على الصين في مجالات عدة، و في المجال التجاري، وعد بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 % على كل واردات الولايات المتحدة من المنتجات الصينية.
المشهد المستقبلي:
ولفهم المشهد المستقبلي ينبغي العودة للفترة الرئاسية السابقة لترامب، فقد شهدت هذه الفترة تصعيدا تجاريا خاصة بين الصين و أمريكا، في إطار ما عرف بالحرب التجارية..فالرئيس الأمريكي “ترامب” في عام 2019 صرح في تغريدة له على حسابه ب “تويتر” قائلا: “إذا لم تقم الدول بعقد صفقات معقولة معنا ، فسوف يتم رفع التعريفة”، وصرح عندما تفشى فيروس كورونا بخصوص الفيروس الصيني بنفس المعنى، فالصين بنظره مطالبة بتعويض أمريكا عن الخسائر التي لحقت باقتصادها وشعبها، ومحاولته تسويق ذلك على أنه مطلب عالمي، غايته الضغط أكثر على الصين و دفعها لتقديم المزيد من التنازلات..
جنت على أهلها براقش:
لكن ترامب و داعميه ينطبق عليهم المثل العربي القائل: “جنت على أهلها براقش “( وهذا المثل يضرب لمن عمل عملا ضر به نفسه أو أهله)، فالرجل تاجر و “قرصان” بإمتياز، و يخدم مصالح بلده و ينفذ وعوده التي قطعها على نفسه في حملاته الإنتخابية ، و يحاول تخفيف الضغط عن الشعب الامريكي بحلب الأخرين، و رأينا كيف إستطاع أن يحقق “مكاسب جمة” من حربه التجارية على الصين، فقاعدة واسعة من معارضيه يؤيدون قراراته و يصفقون لها، لأنها تصُبُ في مصلحة منع هجرة الوظائف و رؤوس الأموال إلى الخارج…
فهذه التدابير من دون شك، سَتسُهم في المدى القريب في تنمية و تحفيز الإقتصاد الأمريكي، بل ستفرض على الشركات و المؤسسات الصناعية التي تريد ولوج السوق الأمريكي البحث عن أساليب للتكيف مع الرسوم الجديدة ،ومن ذلك البحث عن نقل الإنتاج إلى الداخل الأمريكي.. لكن هذا التوجه يضر بالإقتصاد الأمريكي على المدى المتوسط و يشكل أكبر تهديد للهيمنة الأمريكية …
منافسين جدد:
فالولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد في الساحة الدولية فقد ظهر منافسين جدد، ويملكون من المؤهلات و القدرات المالية والسياسية ووسائل الضغط ما يمكنهم من كبح جماح الإندفاع الأمريكي، و تقليم أظافر السيد “ترامب” و لعل مجموعة بريكس هي رد الفعل العكسي لسياسات ترامب التي تهدد الاستقرار المالي و التجاري ، و قد شكلت الحرب الروسية الأوكرانية و العقوبات الاقتصادية و غيرها التي فرضت على روسيا كانت بمثابة إنذار للصين و باقي البلدان الصاعدة ..
العصر الإمبراطوري الأمريكي:
فما يعتقد “ترامب” و أنصاره على أنه إنتصار ، إنما هو أخر مسمار في نعش العصر الإمبراطوري الأمريكي، فسياساته العدوانية، ستغير خريطة التحالفات الدولية وتدفع بحلفاء أمريكا، إلى الإبتعاد عنها و البحث عن بدائل و ترتيبات دولية موازية، لمواجهة الهجمة الأمريكية المهددة لأساسيات العولمة المالية و الإقتصادية، التي تشكلت و توسعت بعد الحرب العالمية الثانية بهندسة و تخطيط و تنفيذ أمريكي بدرجة أولى…
رهان الصين:
هذا التوجه سيزداد و يتقوى مع إدارة ترامب في نسختها الثانية، وقبل انتخابه كانت القيادة الصينية تراهن على عدم إنتخاب “ترامب”.. و موقف القيادة الصينية المهادن لأمريكا طيلة ولاية بايدن، نابع من خشية الصين من مزاجية إدارة “ترامب”، و بموضوعية شديدة و بحسب أكاديميين معتبرين بالصين ومنتمين للحزب الشيوعي، فإن القيادة الصينية تتعامل مع “ترامب” بتحفظ شديد ، و تدرك جيدا أن الرجل خطر يهدد الاقتصاد الصيني، و قد شبه أحد الأصدقاء ب “قاطع طريق” الذي ندفع له إتاوة لإتقاء شره..
فعالية مؤقتة:
و علينا الاقرار أن “فعالية” ترامب “المؤقتة” و”قدرته الأنية” على تحقيق بعض المكاسب و التنازلات من قبل الصين ، نابعة من تهور الرجل و جنونه و لسان حاله : “عَلَيَّ و على أعدائي”.. فالصين تحديدا غير قادرة على المجازفة في الوقت الراهن وذلك للأسباب التالية:
- الصين غير مستعدة-على الأقل في المدى المنظور- للمجازفة بتحمل تبعات أزمة إقتصادية عالمية تضُر بتوازناتها الماكرو إقتصادية، واستقرارها السياسي و الإجتماعي..
- الصين تمتلك إستثمارات ضخمة بالدولار في الولايات المتحدة، وهي من دون شك تخشى من الإنهيار الفجائي لقيمة الدولار ، لأن في ذلك تبخر لإحتياطياتها المالية المُقومة بالدولار..
- الصين مستفيدة من الوضع الدولي القائم، فصادرات الصين باتجاه السوق الأمريكي تجاوزت سقف 500 مليار دولار، بفائض تجاري يصل نحو 300 لصالح الصين، كما أن الصين تحقق فائض تجاري مع أغلب بلدان العالم، فهي تجني مكاسب الإنفتاح التجاري و سياسة التجارة الحرة التي أرستها أمريكا…
الخروج من المصيدة:
لكن الإبتزاز الأمريكي للصين من الصعب أن يستمر إلى ما لا نهاية، فهذه الأخيرة تحاول الخروج من المصيدة بالتدريج، ودون إحداث هزات إرتدادية عنيفة قد تمس إستقرار الداخل الصيني، و في حالة تمكنها من خلق بدائل أمنة ، فستكون العواقب وخيمة على الولايات المتحدة..لكن إلى ذلك الحين فإن الصين ستحاول تبني أسلوب الضغط على الإدارة الأمريكية من خلال ؛
- توظيف ورقة التحكم في قيمة الدولار عبر إستغلال الفائض المتاح لديها، و عبر التوسع في المبادلات التجارية بالعملات المحلية لاسيما و أن لها علاقات تجارية مهمة مع أغلب بلدان العالم..
- محاولة استمالة البلدان الغربية كإيطاليا و ألمانيا و إستغلال التناقضات القائمة بين أمريكا و أوروبا..
- التوجه أكثر نحو الاسواق النامية و السوق الأسيوي، و الانتقال التدريجي من اقتصاد قائم على التصدير، إلى إقتصاد يعتمد أكثر على الطلب المحلي…
إقرأ أيضا : هل تنسحب روسيا من سوريا؟
بداية العد العكسي:
فعدوانية ترامب في الفترة السابقة تجاه الحلفاء و روسيا و الصين و تركيا ، دفع باتجاه تقوية الحلف الروسي الصيني أو حلف الشرق، و في الفترة الراهنة ستسمر موجة التكتل ، و ليس مستبعدا أن يتم إستقطاب المزيد من حلفاء واشنطن بإتجاه الاصطفاف إلى جانب الصين و باقي حلفاءها في مجموعة بريكس و منظمة شانغهاي، ولعل توسع حركة المبادلات التجارية البينية بالعملات المحلية بدلا من الدولار في إطار التكتلات و التحالفات الصاعدة ، بداية للعد العكسي لتقزيم و الحد من نفوذ أمريكا و هيمنتها على الإقتصاد العالمي، و بالتالي الحد من سطوتها على العالم…
و عليه، فإن التنافس بين الصين و أمريكا عبارة عن لعبة شطرنج بين طرفين، كلاهما يدرك قوة الخصم و نقاط ضعفه، فيحاول تفادي نقاط القوة والحد من تأثيرها، و توظيف نقاط الضعف لتحقيق مكاسب على الأرض، والمؤكد أن كلا الطرفين يفكر قبل أن يقرر، ويقارن بين المكاسب و الخسائر و على ضوء ذلك يكون قرار المواجهة أو المهادنة و أروبا و المنطقة العربية الإسلامية سيكون لها دور حاسم في تغليب كفة هذا الطرف أو ذاك ، و هذا ما سأحاول شرحه و تفصيله في مقال موالي إن شاء الله تعالى …والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون…