بعد حادثة سطو مسلح تعرّض لها منزل الشيخ أيمن الدندل، أحد وجهاء عشيرة “الحسون”، أقدم عليها عناصر من “الفوج 47″، وعدّتها العشيرة إهانةً وتعدياً على كرامتها، اندلعت مواجهات مسلحة على مدى أيام بين مسلّحي العشيرة وعناصر الفوج، مطلع الشهر الجاري. وباعتبار “الفوج 47” من أهم الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، منح قادة الحرس الثوري الإيراني قائد الفوج “أبو عيسى المشهداني”، تفويضاً باستخدام القوة مباشرةً ضد أي تهديد محتمل من أبناء العشائر المسلحة.
وكان الشيخ الدندل، قد تعرّض لإساءة عند مروره على حاجز للفوج، بعد رفضه تفتيشه من قبل العناصر، وضربه أحدهم، ومن ثم هروبه إلى منزله، ما أدى إلى ملاحقته واستهداف منزله وإحراق سيارته. وردّاً على هذه الإهانة، هاجم أقارب الشيخ، منازل لأبناء عشيرة “المشاهدة”، التي تُعدّ خزّان الفوج بشرياً، وإحراق أحدها، مع إلقاء القبض على أحد قياديي الفوج من قبل أبناء قبيلة “العكيدات”، وتقديمه مكبّلاً شيخ عشيرة “الحسون”.
عطفاً على ذلك، شهدت منطقة السيال في ريف البوكمال، استنفاراً أمنياً لأبناء عشيرة “البومريح”، وسط استعدادات للهجوم على الميليشيات الإيرانية، بعد إهانة واعتقال شابين من أبناء القبيلة من قبل عناصر الفوج في أثناء التوترات بين عشيرة “المشاهدة” وعشيرة “الحسون”، حيث شاركت “البومريح” و”الدميم” و”الشويط” و”البورحمة” و”الجغايفة الرحبيين (القلعيين)”، و”الشعيطات” و”البوجامل” من قبيلة “العكيدات” إلى جانب عشيرة “الحسون” في المساندة والاشتباك ضدّ “الفوج 47”.
وفي سبيل الوصول إلى حلّ يوقف التصعيد الحاصل، اجتمع مسؤولون من حزب البعث الحاكم وآخرون من حكومة دمشق بممثلين عن عشيرة “الحسون” في منزل الشيخ الدندل. خلال الاجتماع، توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بتسليم المتورطين في استهداف منزل وسيارة الدندل، ومنع نصب أي حاجز عسكري من قبل جميع الأطراف باستثناء قوات النظام وأجهزته الأمنية، مع معاقَبة أي طرف يقوم بنصب حاجز. مع ذلك لا تزال حالة التوتر قائمةً، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
بناءً على ذلك، أعادت القوات التابعة لحكومة دمشق تموضعها في مدينة البوكمال عند الحدود السورية-العراقية، وانتشرت على الحواجز التي كانت خاضعةً لسيطرة الميليشيات الإيرانية. كما أوعزت دمشق إلى قواتها بتقييد نشاط هذه الميليشيات لمنع استهداف القواعد الأمريكية في سورية، تجنّباً للحرب مع إسرائيل التي تحاول جرّها إليها.
إقرأ أيضا : حكايات حزينة للاجئين سودانيين فروا من جحيم الحرب
وفي سياق متصل، افتتح “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، مركز انتساب جديداً له في القسم التابع لقوات دمشق في ناحية دبسي عفنان في محافظة الرقة، لاستقطاب أبناء المنطقة إلى صفوفه، ولتعبئة الفراغ الذي خلّفته الميليشيات الإيرانية، إلى جانب تعزيز النفوذ الروسي في المناطق القريبة من نهر الفرات الفاصل مع مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وتسعى موسكو إلى إيقاف نشاط هذه الميليشيات، عبر استغلال تراجعها التدريجي نتيجة الحرب الإسرائيلية على لبنان، بجانب مساعيها لفرض سيطرتها العسكرية على “القرى السبعة”، الحسينية والصالحية وحطلة ومراط ومظلوم وخشام وطابية في الجهة الشرقية لنهر الفرات، وهي منطقة تماسّ برّي مع مناطق “قسد”، ولا يفصل بينها النهر كبقية المناطق. وعبر نصب حاجز عسكري على الجسر الحربي الرابط بين هذه القرى وغرب الفرات، منعت القوات الروسية دخول أي عنصر من الميليشيات الإيرانية أو سواها، باستثناء قوات النظام والقوات الروسية فقط.
إستراتيجية إيرانية طويلة الأجل
تضمّ منطقة شمال شرق سوريا خمس قبائل عربية رئيسية هي: العقيدات، البقّارة، الجبور، شمّر، وطيّ. وتخضع معظمها، باستثناء أجزاء من قبيلة طيّ، للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. مع ذلك، فإن تعميم موقف واحد على القبيلة أمر خطأ، نتيجة استقطاب الجهات الفاعلة المختلفة لشخصيات مؤثرة من كل قبيلة. وعليه، يعمل البعض مع المعارضة السورية وتركيا، ويعمل آخرون مع روسيا وإيران ونظام الأسد، فيما يتحالف سواهما مع “قسد” والولايات المتحدة الأمريكية.
وتحتفظ واشنطن بقرابة 900 جندي أمريكي في قواعد أنشأتها في سوريا، في إطار مهمتها الأساسية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش)، بجانب عملها كمضاد لنفوذ إيران في المنطقة. وفي ظل احتمالية انسحاب هذه القوات، وهو ما تكرر طرحه خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي الكونغرس الأمريكي خلال إدارة الرئيس جو بايدن، تحشد الجهات الفاعلة الإقليمية جهودها لتعبئة فراغ هذا الانسحاب المحتمل.
من جانب آخر، لدى طهران إستراتيجية على المدى الطويل في ما يخصّ الاستعداد لانسحاب أمريكي محتمل من خلال ترسيخ وجودها القوي عبر تحالفاتها العشائرية، وتالياً ضمان هيمنتها الإقليمية. وقد أتاح الدعم الأمريكي غير المشروط لـ”قسد”، فرصةً كبيرةً لكسب عشائر المنطقة، وتالياً توسيع نفوذها في سوريا، حيث تشهد المنطقة بين الفينة والأخرى اقتتالاً بين مجاميع عشائرية مسلحة وقوات “قسد”، بسبب السياسات القسرية والتمييزية التي تنهجها الأخيرة بحق العشائر.
بجانب ذلك، تسعى طهران، وضمن هدف جيو-ستراتيجي، للحد من النفوذ والوجود التركيين في سوريا. لكن عقبات محتملةً قد تعترضها، وتتمثل في أنّ أيّ مقاومة من قبل القبائل العربية في شرق نهر الفرات، غير المتحالفة معها، قد تعيق تقدّم إيران، وتمنع القوات التي تدعمها من الوصول إلى الحدود السورية-التركية في الوقت المناسب.
كما عملت في وقت سابق على إعادة هيكلة مجلس القبائل والعشائر التابع للنظام في المنطقة، والذي كان يتزعمه حسن المسلط، أحد وجهاء قبيلة الجبور، المعروف بقربه من القوات الروسية، حيث تم تعيين شيخ قبيلة طي في الحسكة، ضاري الفارس العساف، زعيماً للمجلس ونائبه أصبح محمود الحسناوي المعروفين بولائهما لإيران، ما جعل المجلس بمعظم أعضائه من الموالين لإيران. وتدعم إيران قبيلة طيّ بشكل مباشر. ومؤخراً، وفّر حليفها الإقليمي الأبرز “حزب الله” تدريباً عسكرياً وأسلحةً لأفراد القبيلة في القامشلي، وتدفع إيران الرواتب.
في ظلّ هذا المشهد، تأتي تحركات العشائر في مدينة البوكمال وسط تأهب واضح لمواجهة محتملة مع الميليشيات الإيرانية، التي تحاول إعادة السيطرة على المشهد بعد الاشتباكات العنيفة التي دارت بين أبناء عشيرة “الحسون” وعشيرة “المشاهدة”، وفقاً للمرصد السوري. ففي مضافة الشيخ الدندل، عبّر وجهاء وشيوخ العشائر أعلاه عن دعمهم لعشيرة “الحسون”، مؤكدين أنّ أي استهداف لها هو استهداف لكل عشائر المنطقة.
بجانب ذلك، اجتمع الوفد العشائري بقياديين للميليشيات الإيرانية. خلال الاجتماع، عبّر الحاج حسين، وهو مسؤول أمني إيراني، عن استيائه من “استغلال العشائر” للفراغ الأمني بعد إخلاء المقارّ احترازياً، مشيراً إلى أن حرق المقارّ “جرم قد يرقى إلى العمالة”، وستتم متابعته بجدّية، ولن يتم التهاون في أي مسألة تمسّ مشروع “المقاومة”، في إشارة إلى “الفوج 47”.
ومؤخراً، أعلن شيوخ وأعيان قبيلة “الشعيطات”، وقوفهم إلى جانب “قسد” للتصدي لـ”كل أشكال التهديد والوعيد ومحاولات تفكيك اللحمة المجتمعية من قبل جهات تحمل أجندات لقوى خارجية”.
بجوارهم، أعلن شيوخ ووجهاء قبيلة “العكيدات” في ريف دير الزور الشرقي، من مضافة قائد قوات العشائر العربية، الشيخ إبراهيم الهفل، الذي تصّدر انتفاضة العشائر في وجه “قسد” صيف العام الماضي، وانتقل بعد إخمادها إلى مناطق سيطرة الأسد في الجانب الغربي لنهر الفرات، مع تواصله مع قوى محلية موالية لإيران، عن تأييدهم لـ”قسد” ووقوفهم معها للتصدي لهجمات مجاميع إجرامية مرتبطة بحكومة دمشق، تهدف إلى “إعادة المنطقة إلى مربع العنف الأول”.
واشنطن أيضاً “ترغب في اشتعال الحرب في المنطقة”، قال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، لـ”سوريا على طول”.
صراع أمريكي-إيراني في سوريا
لم يلقَ الاتفاق الذي توصل إليه مسؤولون حكوميون مع ممثلي عشيرة “الحسون” قبولاً، حسب المرصد السوري، حيث قال أفراد من العشيرة إنّه غير كافٍ ومهين لهم، مطالبين بتدابير أكثر صرامةً، كحلّ “الفوج 47” أو إخراجه من منطقة البوكمال، وهو ما رفضه الشيوخ والوجهاء، متمسكين بالحوار والسلمية. ونتيجةً لذلك، شكّل شبّان العشيرة وشبّان من عشائر أخرى معارضة، مجموعات صغيرةً لمتابعة عناصر الفوج واستهدافهم.
مطالب شباب العشائر ليست وليدة اللحظة، إنما هي مطالب متكررة نتيجة انتهاكات الفوج المتكررة. ففي وقت سابق، وعلى أثر حادث استهدف شاحنة مدنية بين قريتي السكرية والشاعر، توجهت مجموعة من الأهالي إلى قائد الفوج، مطالبةً بإزالة مقاره العسكرية ومواقعه الأمامية من منطقة البوكمال، التي يعمل فيها كقاعدة رئيسية، وينتشر في مواقع مختلفة فيها لتأمين ممرّ برّي لإيران وميليشياتها، وتوفير التدريب والدعم اللوجستي لها، مع حماية قوافل الإمداد.
لكن ما يجري الآن في دير الزور، “صراع أمريكي-إيراني على أرض سورية”، حسب عبد الرحمن، الذي يشير خلال حديثه إلى “سوريا على طول”، إلى أن إيران وحزب الله اجتمعا مؤخراً مع مقاتلين عشائريين، للتخطيط لاجتياح مناطق شرق الفرات لعرقلة مخطط أمريكي بإغلاق طريق “طهران-بيروت”، مع منع واشنطن من السيطرة على البوكمال، الخاضعة لنفوذ الميليشيات الإيرانية، أو تحريضها مقاتلين محليين مناهضين لطهران.
إلى جانب ذلك، يأتي التوتر في البوكمال نتيجة الاحتقان ومحاولة إخراج الميليشيات الإيرانية من قبل روسيا والنظام، من منطقة البوكمال ودير الزور لإبعاد إيران عن مراكز السيطرة، بعد نجاح موسكو في السيطرة على “القرى السبع”.
وعلى ذلك، أرسل الحرس الثوري الإيراني تعزيزات عسكريةً من ميليشيا “فاطميون” الأفغانية، بهدف تعزيز النفوذ الإيراني وتثبيت السيطرة على المناطق التي تشهد تقلبات أمنيةً، ومن بينها البوكمال، حيث وصلت ست حافلات نقل سياحية تحمل عناصر تابعة لـ”فاطميون” إلى البوكمال، قادمة من حمص وريفها. وفور وصولهم، تم نقلهم إلى مواقع عدة، أهمها مقرّ الحمدان ومواقع في بادية البوكمال قرب حقل “T2″، الذي يُعدّ أحد المراكز الرئيسية للميليشيات الإيرانية في المنطقة، ما يعكس مساعي “فاطميون” لتوسيع نطاق سيطرتها العسكرية وربط مناطق نفوذها في باديتي حمص ودير الزور، وفقاً لإستراتيجيات الحرس الثوري الإيراني.