نشر ماسيموبو كاريللي ولوكا ميكيليتا، مؤخراً كتاباً بعنوان «جوليو أندريوتي ومعمر القذافي»، ضم أوراقاً من أرشيف رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق جوليو أندريوتي، السياسي الإيطالي البارز، إن لم يكن الأبرز عبر أربعة عقود ونيف. كان منذ قيام الجمهورية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، ورحيل النظام الملكي، من كبار قادة الحزب الديموقراطي المسيحي، الذي تصدر مقاليد الحكم في إيطاليا. ترأس أندريوتي خمس وزارت، وحمل ثلاثين حقيبة وزارية.
كان مسيحياً متديناً، ومثقفاً وكاتباً موسوعياً. عُرف بسرعة البديهة، واشتهر بقفشاته وتعليقاته الحاضرة دائماً. تعرّض لضربات مختلفة ومتواصلة، وصلت إلى حد توجيه تهمة له بعلاقات مع عصابة المافيا الإجرامية، لكنه خرج منها بريئاً وأكثر صلابة مواصلاً تألقه وحضوره السياسي. في آخر سنواته عُيّن عضواً بمجلس الشيوخ مدى حياته.
تولى وزارة الخارجية الإيطالية في مطلع ثمانينات القرن الماضي. كانت منطقة الشرق الأوسط تشهد حروباً، وتوتراً وحوادث إرهابية. أعطى أندريوتي اهتماماً كبيراً لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، وتبنى سياسة توفيقية بين جميع الأطراف. اهتم مبكراً بالعلاقات الإيطالية – الليبية.
بعد قرار مجلس قيادة الثورة الليبية، بإخراج الجالية الإيطالية من ليبيا، ارتفعت أصوات في روما تدعو إلى تعويض المبعدين الإيطاليين من ليبيا، بل طالب بعض اليمينيين الإيطاليين باتخاذ إجراءات عنيفة ضد ليبيا.
زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي الدو مورو، وجوليو أندريوتي، عارضا ذلك التوجه بشدة، وقدمت الحكومة الإيطالية مساعدات للمبعدين. تضمن الكتاب محاضر لاجتماعات بين أندريوتي والعقيد معمر القذافي، ومراسلات بينهما، واجتماعات أندريوتي مع وزراء وسفراء ليبيين بروما، واجتماعات عدة بين الرائد عبد السلام جلود الذي تولى ملف العلاقات الإيطالية – الليبية لسنوات طويلة. العلاقات الليبية – الأميركية شهدت توتراً لم يهدأ، وصلت إلى حد الصدام المسلح بين الطرفين، كان السياسي الإيطالي حاضراً في خضم ذلك الصدام السياسي والعسكري. حاول من دون كلل أن يرتق الخرق بين الطرفين، إذ كان يرى أن تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وليبيا، سيدعم الاستقرار والتعاون بمنطقة البحر الأبيض المتوسط. كنت قريباً من هذا السياسي الإيطالي وربطتنا علاقة ودية، منذ كنت سفيراً في روما وتواصلت عندما شغلت منصب وزير الخارجية بليبيا بعد ذلك.
بعد وصولي بأيام قليلة دعاني إلى مسرح كاراكلا الأثري بروما ومعه ابنته ومعي زوجتي. تحدث الوزير المثقف والمؤرخ أندريوتي عن كاراكلا الليبي ابن الإمبراطور الروماني العظيم ابن مدينة لبدة العظيمة، كما كانت تُسمى. كان المغني السوبرانو الإيطالي العالمي لوتشيانو بافاروتي. كانت تلك اللمسة مصافحة سياسية تاريخية، تحمل رسالة بها الكثير من المعاني المكثفة.
الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، في عقد الثمانينات من القرن الماضي، طوال مدة رئاسته، شهدت العلاقات الأميركية – الليبية، حالة غير مسبوقة من العداء وصلت إلى حد الصدام المسلح. كان الصدام الأول في خليج سرت في مارس (آذار) 1986، ووصل ذروته في الهجوم العسكري الأميركي على مدينتي طرابلس وبنغازي في أبريل (نيسان) سنة 1986، وطال الهجوم منزل القذافي بباب العزيزية. بذل أندريوتي عندما كان رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية جهداً متواصلاً من أجل تقريب وجهات النظر بين الدولتين وتطبيع العلاقات بينهما. عرض الكتاب محضر اجتماع بين القذافي وأندريوتي، حيث ركز في هذا الاجتماع على العلاقات الليبية – الأميركية، والعلاقات الثنائية الإيطالية – الليبية، والقضية الفلسطينية. أكد القذافي أنه لا يمانع إقامة علاقات طبيعية بين ليبيا وأميركا، لكنه يرفض أن يكون تابعاً أو بيدقاً لأميركا. كما يورد الكتاب لقاء أندريوتي مع الرئيس ريغان، ومناقشة العلاقات الليبية – الأميركية معه، لكن ريغان كان متحاملاً على القذافي بشدة. وحين قدم أندريوتي لريغان نسخة من كتاب القذافي الأخضر باللغة الإنجليزية، رفض ريغان استلام الكتاب، وقال ساخراً: حتى هتلر ألف كتاباً. كان الأميركيون يرون أندريوتي موالياً لليبيا ويدافع عنها، ومتعاطفاً مع العرب.
حاول أندريوتي من دون كلل، أن يفتح باباً للحوار بين الطرفين؛ منعاً لوقوع صدام بينهما يؤدي إلى توتر واضطراب في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لكن جهوده لم تنجح. في الخامس من أبريل سنة 1986 حدث انفجار في ملهى لابيل ببرلين، وأصيب فيه عدد من الجنود الأميركيين، ووجهت أميركيا الاتهام بسرعة إلى ليبيا. زارني بمقر إقامتي بروما السفير الأميركي لدى الفاتيكان ولسون، وكانت تربطه علاقة شخصية قوية بالرئيس ريغان. كانت زيارته بترتيب من وزير الخارجية الإيطالية أندريوتي. ناقشنا إمكانية عقد اجتماع لوزيري خارجة ليبيا وأميركا، من أجل تقريب وجهات النظر بين البلدين. لم يتحقق ذلك، ثم بدأت أميركا تعد للهجوم الجوي على طرابلس وبنغازي.