لطالما سعت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “الإيكواس” وزعماؤها نحو دَرْء مُهدِّدات السلام والأمن والاستقرار، فرغم طابعها الاقتصادي والنقدي، لم تنكفئ الجماعة عن جهودها حتى عُدّلت معاهدتها التأسيسية عام 1993م، وخلقت أساسًا قانونيًّا لإحلال السلام ومنع الصراعات وإداراتها؛ حيث أكَّدت موادّها المُعدَّلة التزام الدول الأعضاء بتعزيز السيادة فوق الوطنية للهيئة الإقليمية والتضامن وعدم الاعتداء، والحفاظ على السلام والاستقرار والأمن الإقليمي، وتعزيز الحكم الرشيد، وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وأنشأت الجماعة أيضًا آلية إقليمية لمنع الصراعات وإدارتها وحلها، وأفردت عناية خاصة للظاهرة الإرهابية ودرء تهديداتها، وتجفيف حواضنها، واستئصال مسبباتها.
جهود متتالية:
ولأجل ذلك، اعتمد زعماؤها عام 2019م خطة عملهم للقضاء على الظاهرة الإرهابية خلال الفترة 2020- 2024م، واعتبروها أداتهم للتنسيق الأمني والعسكري والاستخباراتي لمكافحة العمليات الإرهابية، كما دأبت اجتماعاتهم ونقاشاتهم على الإشارة إلى مقترحات إنشاء قوة إقليمية احتياطية لمكافحة الظاهرة الإرهابية وكبح جماح عملياتها التي طالت إلى جانب نطاقات تمددها التقليدية: مالي والنيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا نطاقات جديدة بغانا وتوغو وبنين.
وإزاء تزايد التهديدات الظاهرة الإرهابية، وتسارع وتيرتها، وتطوراتها النوعية، وتغيّر خارطتها الجغرافية؛ اتخذ زعماء المجموعة الاقتصادية في قمتهم العادية السادسة والستين يوم 15 ديسمبر 2024م قرارًا بتسريع تفعيل القوة الإقليمية المحتملة لمكافحة الإرهاب على أن تكون مكونة 5.000 جندي، تزامنًا مع بداية العام الجاري 2025م، وحثوا على الشروع السريع في تعبئة الموارد المالية، وطالبوا بتقديم الأولوية الآنية لتشكيل لواء عسكري لمحاربة “الإرهاب”، على أن يتكون في البداية من 1650 عسكريًّا، يتولى مهمة مواجهة التهديدات “الإرهابية”.
نية حاضرة:
ولا شك أنها ليست المرة الأولى التي تظهر فيها مداولات اقتراح أو نشر وتفعيل القوة الإقليمية المحتملة، واللافت أنه لم تَخْلُ جُلّ اجتماعات الإيكواس ولجانها -العادية والاستثنائية- من الحديث عنها، أو تُختتم دون التطرق لها والإشارة إليها؛ باعتبارها أولى الخطوات المعنية بإطلاق تشغيل قوة الاحتياط التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والتي كان من المقرر أن تكون جزءًا من قوة الاحتياط الإفريقية منذ عام 2004م، وإحدى خطوات الاستجابة للمادة 21 من بروتوكول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المتعلق بآلية منع الصراعات وإدارتها وحلها وحفظ السلام والأمن.
اجتماعات مكثفة:
الشاهد أن وتيرة النقاشات والمداولات زادت مع التطورات المتلاحقة في الغرب الإفريقي عقب التغيرات الدستورية خلال الفترة 2020-2023م، لا سيما بمالي وبوركينا فاسو والنيجر، وبلغت أشدّها مع زيادة حدة الهجمات الإرهابية في الغرب الإفريقي، وهو ما وثقته مخرجات الدورة العادية الثانية والستين في 4 ديسمبر 2022م؛ حيث كُلفت لجنة رؤساء أركان الدفاع باستكشاف واقتراح خيارات النشر السريع لقوة الاحتياط وتنفيذ عمليات حركية خاصة لمكافحة الإرهاب، أو ما كشفت عن مخرجات اجتماع وزراء الدفاع والمالية في 27 يونيو 2024م على لسان وزير الدفاع محمد أبو بكر، والذي أشار إلى أن الخطة الأصلية لإنشاء قوة كبيرة قوامها 5 آلاف جندي، تتطلب ميزانية سنوية قدرها 2.6 مليار دولار سنويًّا، ولإنشاء قوة بديلة أصغر حجمًا تتألف من 1650 فردًا، تتطلب تكلفة 481 مليون دولار سنويًّا، وهو ما كشفت عنه مخرجات اجتماع لجنة رؤساء أركان الدفاع التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في اجتماعها العادي الثاني والأربعين في أغسطس 2024م؛ حيث أكد القادة العسكريون التزامهم بمكافحة الإرهاب؛ للحفاظ على الاستقرار الديمقراطي، والتعاون الإقليمي، والتعاون الاستخباراتي لمكافحة الإرهاب، بل وافقوا على نشر بعثة أمنية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في سيراليون بقوة 1200 فرد من جميع الرتب للمساعدة في استقرار البلاد، وتعهدوا بزيادة القوة وإنشاء مقر للقوة ومركز اندماج استخباراتي مشترك وكتيبة مركبة.
سياقات راهنة:
جدير بالذكر أن القمة 66 رغم كونها قمة عادية؛ إلا أن الأوساط الأكاديمية والعلمية وصفتها بالاستثنائية؛ لما تطرقت إليه من ملفات شائكة وشديدة الحساسية تدور في جُلها حول الملفات الأمنية والتنظيمات الإرهابية والعلاقة مع الأنظمة العسكرية الحاكمة في دول الساحل، ويعي المتابع لسياقات الغرب الإفريقي أن قرار القمة بتسريع إنشاء القوة الإقليمية لمكافحة الظاهرة الإرهابية لا ينفك عن التطورات والسياقات الراهنة، والتي يمكن استعراضها كما يلي:
1- تشرذم إقليمي
يُحدق بالغرب الإفريقي مخاطر التفكك والانهيار للجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا المنشئة عام 1975م من 8 دول ناطقة بالفرنسية (بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا ومالي والنيجر والسنغال وتوغو)، و5 دول ناطقة باللغة الإنجليزية (غامبيا وغانا وليبيريا ونيجيريا، سيراليون) و2 من الناطقين باللغة البرتغالية (الرأس الأخضر وغينيا بيساو)، لكنَّ تجليات التشرذم الإقليمي ظهرت في مخاطر التفكك والانهيار والتشرذم الإقليمي مع حدوث القطيعة بين الدول التي شهدت تغيرات غير دستورية وبين الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، لا سيما عقب سيطرة المجلس العسكري على السلطة في يوليو 2023م؛ حيث هدَّدت الجماعة بالتدخل العسكري، وفرضت عقوبات اقتصادية شديدة على نيامي وهو دفع مالي وبوركينا فاسو والنيجر للإعلان عن رغبتهم في مغادرة المجموعة “دون تأخير” في يناير 2024م، متَّهمة المنظمة بالتلاعب مِن قِبَل فرنسا، والشاهد أن الأمر لم يقف عند القطيعة، وإنما وصل إلى ما يُعرَف بالطلاق البائن، والذي صدَّقت عليه قمة السادسة والستين في ديسمبر 2024م؛ حيث أعلن زعماء الجماعة على لسان “عمر توراي” -رئيس المنظمة-: “إنه وفقًا للائحة، ستتوقف الدول الثلاث رسميًّا عن الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا اعتبارًا من 29 يناير 2025م”… وكما أعلنوا عن فترة انسحاب مدتها ستة أشهر، تستمر حتى 29 يوليو 2025م؛ من أجل “إبقاء أبواب الإيكواس مفتوحة أمام الدول الثلاث خلال هذه الفترة”.
ورغم وتيرة قرارات القمة الهادئة، إلا أن دول تحالف الساحل قد أكدت قبل القمة بيومين يوم 13 ديسمبر 2024م أن قراراها لا رجعة فيه. كما ردت الدول الثلاث على قرارات القمة يوم 23 ديسمبر 2024م، واعتبروا قرار فترة الانسحاب البالغة ستة أشهر التي منحتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا مجرد محاولة أخرى من شأنها أن تسمح للمجلس العسكري الفرنسي ومساعديه بمواصلة التخطيط وتنفيذ أعمال مزعزعة للاستقرار ضد تحالف دول الساحل.
2- انتقالات متعثرة
تكشف وقائع دول غرب إفريقيا حالة من الضبابية بشأن مستقبل الفترة الانتقالية، واستعادة الحكم المدني، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر؛ فالأولى، قد شهدت انقلابًا على مرحلتين في سبتمبر 2020م وأبريل 2021م، ورغم تعهد المجلس العسكري في يونيو 2022م بإجراء انتخابات وتسليم السلطة إلى المدنيين بحلول نهاية مارس 2024م، إلا أنَّ مُدَد الفترة الانتقالية من “سنتين إلى خمس سنوات”، وبشأن الثانية، فقد شهدت بوركينا فاسو انقلابًا في يناير وسبتمبر 2022م، لكنها لا تزال تخضع تحت قبضة المجلس العسكري منذ 2022م، وفي مايو 2024م، مدَّدت الفترة الانتقالية لفترة محددة 60 شهرًا اعتبارًا من الثاني من يوليو 2024م، وبشأن الثالثة، فقد شهد النيجر انقلابًا في يوليو 2023م؛ حيث وعد العسكريون باستعادة الأمن في البلاد وحتى الآن، لم يَعُد هناك أيّ حديث عن هذا، ولم يتم إنشاء أي جهاز انتقالي.
3- تمدد إرهابي
يشهد الغرب الإفريقي تحولات: سياسية وأمنية واقتصادية متتابعة ومتلاحقة، تُؤجّج بدورها للظاهرة الإرهابية، وتُغيّر خارطتها الجغرافية وتحولاتها النوعية، وتجعل فاعليها من المسلحين أكثر عدوانية وقدرة على الوصول للتقنيات والأسلحة المتطورة، وهو ما تُصوّره نتائج العمليات الإرهابية من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة، وجماعة بوكو حرام، وهو أيضًا ما تُوثقه مؤشرات الإرهاب العالمي سواء لعام 2023م الذي اعتبر منطقة الساحل هي المنطقة الأكثر تضررًا؛ حيث تمثل 43٪ من حالات الوفاة الناتجة عن الإرهاب العالمي.
إقرأ أيضا : قصة تايوان: كيف ستحدد جزيرة صغيرة مستقبل العالم
ويكفي القول: إن مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024م كشف انتقال مركزية الإرهاب من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى إفريقيا جنوب الصحراء، لا سيما منطقة الغرب، وفي القلب منها منطقة الساحل، التي شهدت أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن الإرهاب في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، و26 في المائة من الهجمات الإرهابية على مستوى العالم.
ويبدو ذلك في بوركينا فاسو التي تحتل المرتبة الأولى على مؤشر الإرهاب العالمي، وتشكل المركز الإقليمي للنشاط الإرهابي، ويسيطر فيها المتمردون على أكثر من نصف أراضي بوركينا فاسو، ويشنّون هجمات ضد جيرانها الجنوبيين، بنين، وكوت ديفوار، وتوغو. وفي مالي التي تحتل المرتبة الثالثة بين البلدان الأكثر تضررًا على مستوى العالم.
4- تأزم إنساني
بفعل التعقيدات الأمنية والسياسية والاقتصادية والتي ترجع بدرجة أو بأخرى إلى الظاهرة الإرهابية وأعمال العنف في الغرب الإفريقي، تتصاعد وتيرة التحديات والأزمات الإنسانية الأزمة في منطقة الساحل وتتطلب دعمًا ملموسًا وطويل الأجل للقضاء على آفة الإرهاب ومعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في المنطقة، وقال عمر عليو توراي، رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا: “بحلول نهاية أبريل 2023م، تم تسجيل نصف مليون لاجئ في المنطقة”. وحذر من أن ما يقرب من 30 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية. وأعرب عن قلقه بشكل خاص بشأن 6.3 مليون نازح في جميع أنحاء منطقة الساحل، وتم إغلاق أكثر من 11000 مدرسة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ونيجيريا، مما أدَّى إلى حرمان الأطفال من حقوقهم الأساسية.
4- إخفاق بائن
في كثير من الأحيان، ظهرت الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا كلاعب في إدارة الأزمات السياسية والصراعات المختلفة بين الدول الأعضاء، وحاولت باستنادها إلى البروتوكول المتعلق بآلية منع الصراعات وإدارتها وحلها وحفظ السلام والأمن في عام 1999م والبروتوكول التكميلي بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد في عام 2001م العمل على تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد في الغرب الإفريقي، وبخلاف محاولاتها السابقة، لم تكن محاولاتها للدفاع عن الديمقراطية والحكم الرشيد على خلفية التغيرات غير الدستورية التي لحقت ببعض دولها، وخاصةً مالي وبوركينا فاسو والنيجر في 2024م على نفس الوتيرة، وإنما أفضت إلى حالة من التشرذم الإقليمي بين أعضائها، والذين أعلنوا في يناير2024م عن عزمهم على الانسحاب ومغادرة الجماعة الاقتصادية، وأكدوا قرارهم في 13 ديسمبر، بل ورفضوا الفترة الانتقالية التي منحتها الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا في 23 ديسمبر 2024م، وهو ما يُعدّ إخفاقًا بائنًا للجماعة الاقتصادية في استعادة الدول العازمة على الانسحاب، واحتواء تهديدات ومخاطر التفكك والانهيار، وهذا أيضًا يُعدّ إخفاقًا للجماعة في إثبات قدراتها على إقرار الديمقراطية، وفرض مبادئها وشروطها وكبح جماع التغيرات غير الدستورية.
أهداف عدة:
الشاهد أن الاجتماعات السابقة تقدّر مخرجاتها وحيثياتها حزمة من الأهداف والدوافع المحركة لجماعة غرب إفريقيا لتفعيل ونشر قواتها الإقليمية المحتملة والتي يمكن استعراضها كما يلي:
1- المعالجة الفورية للتهديدات الإرهابية
يُعدّ إنشاء هذه القوة العسكرية حال تفعيلها الأول من نوعه للإيكواس في غرب إفريقيا، ويمثل ترجمة تطبيقية لجهود الاستجابة السريعة والفعَّالة للتهديدات الإرهابية في القمة 66؛ حيث أشارت إلى أهمية وسرعة تفعيل قوة الاحتياط العسكرية مع مطلع العام الجاري 2025م، وتكليف رئيس المفوضية بالإسراع في عقد اجتماع وزيري المالية والدفاع من أجل الاتفاق على سبل تمويل قوة مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى اتخاذ التدابير اللازمة، على سبيل الاستعجال، لمراجعة خطة العمل بهدف مواصلة تعزيزها وتوسيع نطاقها، ويبدو ذلك الإسراع في إعطائهم الأولوية لتشكيل لواء عسكري لمحاربة الإرهاب، يتكون في البداية من 1650 عسكريًّا، يتولى مهمة «مواجهة التهديدات الإرهابية التي تثقل كاهل المنطقة بسرعة وفعالية، ويمكن فهم قرار الإسراع بأنها محاولة من الإيكواس لتسريع تنفيذ خطة مواجهة الإرهاب في الفترة 2020 – 2024م، والتي كان هدفها الأبرز تشكيل قوة عسكرية مشتركة، لكنها ظلت حبيسة أدراج المنظمة الإقليمية دون تفعيل.
2- التلويح بالخيار العسكري
لوحت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا بتفعيل القوة الاحتياطية لاستعادة النظام الدستوري في النيجر على هامش القمم الاستثنائية بشأن النيجر في يوليو وأغسطس 2023م، ففي 11 أغسطس، قررت نشر “القوة الاحتياطية” التابعة للمنظمة لإعادة النظام الدستوري في النيجر “في أقرب وقت”، واللافت أن تلويحها بالتدخل العسكري في النيجر في ظل تأكيدها على أهمية الحل السلمي وعدم تحديدها أيّ جدول زمني أو عدد العسكريين الذين يُشكّلون هذه “القوة الاحتياطية لم يخرج عن كونه أداة ردع وإخضاع وضغط على الدول الثلاث، وجرّهم إلى القبول بالجلوس إلى مائدة التفاوض معها، ومِن ثَم فَرْض شروطها عليهم. وإجبارهم على عدم تبنّي خيار المماطلة، وإطالة أَمَد المرحلة الانتقالية، من أجل العودة إلى وَضْع دستوري من جهة، ويمكن أن يُسهم الحديث عن إنشاء القوة الإقليمية أو إنشائها فعليًّا بمثابة التذكير عن تدخلات الإيكواس السابقة لاستعادة الديمقراطية والاستقرار والسلام على غرار تدخلاتها السابقة، في ساحل العاج في عام 2003م، وفي ليبيريا في عام 2003م، وفي غينيا بيساو في عام 2012م، وفي مالي في عام 2013م؛ حيث سمحت بالإرسال الفوري لقوة تدخل، وفقًا لقرار الأمم المتحدة، لمساعدة باماكو على استعادة السيطرة على الشمال، وفي غامبيا في عام 2017م؛ حيث تدخلت مع رفض الرئيس المنتهية ولايته يحيى جامع ترك السلطة بعد فوز أداما بارو في الانتخابات الرئاسية.
3- استمالة واستدراج تحالف دول الساحل
لم تنكفئ الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا عن محاولاتها لاستمالة واسترضاء دولها الأعضاء العازمة على الانسحاب؛ فهي تبعث باستمرار رسائل استرضاء ودعوات لهم، فقد حاولت ثَنْي تلك الدول عن تطوراتها وتغيراتها غير الدستورية، وردّها إلى ما قبل الفترات الانتقالية، أو على الأقل ضمان تسريع تلك الفترات من خلال التهديدات بالتدخل العسكري والعقوبات، كما حاولت العدول عن إجراءاتها العقابية عبر انتهاج مقاربات تصالحية، تمثَّلت في رفع العقوبات عن مالي في 2022م، ودعوة مسؤولي تلك الدول للمشاركة في الاجتماعات الفنية والتشاورية والأمنية بصفة غير مكتملة كرؤساء مشاركين، وعقد اجتماع في 9 فبراير 2024م لإصدار دعوة تصالحية مع تلك النظم الجديدة، والدعوة إلى عقد القمة الاستثنائية في 24 فبراير 2024م بغية مناقشة الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في الغرب الإفريقي، وتوجيه نداءاتها ومناشداتها للدول الثلاث المنسحبة لإلغاء قراراها.
ولعل أحدثها ما صورته مخرجات القمة العادية السادسة والستين للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا؛ حيث أعلن زعماء الجماعة عن فترة انسحاب مدتها ستة أشهر، وذلك بعد تاريخ خروجهم الرسمي من المنظمة نهاية يناير 2025م وقرروا وضع “فترة انتقالية” تستمر حتى “29 يوليو 2025م”، من أجل “إبقاء أبواب الإيكواس مفتوحة أمام الدول الثلاث خلال هذه الفترة الانتقالية”.
ولا يخفى عن المتابع لقرار تسريع إنشاء القوة الإقليمية أنه قد يحمل في طياته إلى جانب التهديد والتلويح بالخيار العسكري محاولة جديدة لاستمالة تحالف دول الساحل الذين برروا انسحابهم بفشل الجماعة الاقتصادية في تقديم المساعدة والعون لمكافحة الإرهاب وإرساء الأمن، ولعل تلك الاستمالة، قد تظهر أيضًا بوضوح في تصريح “محمد بدارو أبو بكر” -وزير الدفاع النيجيري في اجتماع 27 يونيو 2024م- حيث قال: “إن القوة الإقليمية لن تستخدم لمحاربة الانقلابات، بل ستقتصر على مكافحة الإرهاب”. وقال “عمر توراي” -رئيس مفوضية إيكواس-: إن الأعضاء الموقوفين لن يتم استبعادهم من القوة الإقليمية.. ومن المعتقد أننا لا نستطيع محاربة الإرهاب بمفردنا دون مشاركة الآخرين”.
4- تعزيز التنسيق الإقليمي
يبدو أن الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا قد أدركت عدم جدوى تعدُّد المبادرات الأمنية وتنوعها ما بين ترتيبات ثنائية ومتعددة الأطراف مثل: برخان وتاكوبا ومجموعة الساحل الخمس ومبادرة أكرا وقوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات؛ فهي تمثل تحديًا لها وتشتيتًا لجهودها، وتسعى عبر مبادرتها الجديدة لإنشاء قوة إقليمية للإيكواس لإعادة التنسيق والترتيب الأمني المشترك لدولها وإعادة توحيد جهودها على نحو أفضل؛ حيث أكدت أن الهدف من القوة العسكرية هو «القضاء على الإرهاب في غرب إفريقيا، وذلك من خلال تعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء وتحسين كفاءة التدخلات ضد الجماعات المسلحة، وتقديم استجابات منسقة للتهديدات الإرهابية التي تعوق التنمية والتكامل في المنطقة، ولعل أبرز ذلك ما جاء على لسان وزير خارجية نيجيريا يوسف ميتاما توغار في الاجتماعات التحضيرية لقمة أبوجا ديسمبر 2024م؛ حيث قال: “إنه لا بد من وضع «استراتيجية استشرافية لتعزيز الهيكل الأمني الجماعي والحفاظ على الزخم في مكافحة الإرهاب بالمنطقة… وإنه من دون الاستقرار، ستظل تطلعات شعوبنا لتحقيق الازدهار والتقدم غير محققة. والتهديدات المتزايدة للإرهاب، والتطرف العنيف، والجريمة المنظمة العابرة للحدود تُشكل عبئًا مشتركًا لا يمكن لأيّ دولة أن تواجهه بمفردها”.
5- تحسين كفاءة التدخلات
تُحتّم تحولات الظاهرة الإرهابية في الغرب الإفريقي، وانتشارها الجغرافي وتصعيدها العملياتي سَعْي الدول الأعضاء في الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا لإنشاء القوة الإقليمية، والتي قد تُشكّل فرصة واعدة للجماعة لإعادة تحديث وتطوير قدراتها الأمنية والعسكرية، ورفع مدى جهوزيتها واستعدادها للتصدي للظاهرة الإرهابية، وكبح جماحها، وإضعاف شكواها التي تقوى وتجاوز عيوب وأخطاء جهود مكافحة الإرهاب السابقة سواء مبادرة “أكرا” وقوة مجموعة الدول الخمس المشتركة في منطقة الساحل بما يمكنها من تحسين كفاءة تدخلاتها.ولعل ذلك يتضح في مخاوف زعماء الجماعة من التطور النوعي للظاهرة الإرهابية، وقلقهم بشأن قدرة تلك الجماعات على النشر التدريجي للتكنولوجيات والوصول لأنظمة الأسلحة المتطورة.
6- تعزيز أطروحات الديمقراطية
إلى جانب أطروحات التكامل والتعاون النقدي والاقتصادي، تُولي الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا اهتمامًا موازيًا لأطروحات الحكم الرشيد؛ فهي تدرج الديمقراطية والحكم الرشيد وسيادة القانون كأحد مبادئها اتساقًا مع مدركاتها للصلة بين السلام والأمن والتنمية الاقتصادية، ويبدو ذلك جليًّا في مبادئ ومواد بروتوكول الديمقراطية والحكم الرشيد (2001) بشأن فصل السلطات، والحصانة البرلمانية، واستقلال القضاء، والانتخابات الشفافة، وحظر التغييرات غير الدستورية، والمشاركة الديمقراطية، والجيش غير السياسي، وفي سياق ذلك، ترى الجماعة الاقتصادية أن شأن القوة الإقليمية المحتملة أن تكون الدرع الواقي والحامي والضامن لأطروحات الديمقراطية والحكم الرشيد، وسلاحها لردع التغيرات غير الدستورية التي تؤكد باستمرار عدم استعدادها للتسامح معها؛ باعتبارها مهددًا رئيسًا لجهود التكامل الإقليمي وأمن وبقاء الجماعة الاقتصادية.
7- تعزيز السلام والاستقرار
تتفق مساعي إنشاء قوة إقليمية للإيكواس مع مدركاتها لإحلال السلام والاستقرار والأمن، وحاليًّا، ترى الجماعة الاقتصادية أن تزايد عدم الاستقرار السياسي والتحديات الأمنية تحتم نشر عمليات دعم السلام التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وهو ما قد تم التنويه إليه في اجتماع أغسطس 2024م؛ حيث قال الجنرال كريستوفر موسى، قائد أركان جيش نيجيريا: إن «التعاون الإقليمي لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والعابرة للحدود أولوية قصوى»… قوتنا تكمن في وحدتنا وتصميمنا الجماعي على حماية الاستقرار والحكم الديمقراطي في غرب إفريقيا وقال وزير الخارجية النيجيري السيد يوسف توغا: “إن الاجتماع هو شهادة أخرى على التزامهم الجماعي لضمان الأمن والاستقرار في منطقتنا”.
تحديات متعددة:
وكغيرها من مبادرات مكافحة الظاهرة الإرهابية في إفريقيا بما في ذلك الغرب الإفريقي، لن تسلم القوة الإقليمية المحتملة من التحديات والعراقيل، ويمكن تقدير جانبًا منها كما يلي:
1- الأعباء التمويلية
تثير الأعباء المالية تساؤلات حول قدرة المنطقة على دعم مثل هذه القوة دون تقويض النفقات الوطنية المهمة الأخرى؛ إذ تحتم محاولات إنشاء قوة احتياطية أو نشرها توفير نحو 2.6 مليار دولار أمريكيًّا سنويًّا لإنشاء لواء مكون من 5.000 رجل، وذلك يمثل تبعات مالية ضخامة على الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، ولا شك أن الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا قد أشارت إلى إدراكها إلى التحديات والضغوط المالية، وقد أعدت لأجل ذلك مقترح إنشاء قوة بديلة أصغر حجمًا، تتألف من 1650 فردًا، بتكلفة 481 مليون دولار سنويًّا.
ويعي المتابع أن تحدي الأعباء التمويلية لم يكن بالأمر الجديد المعرقل لجهود مكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا؛ فعند إطلاق خطة العمل ذات الأولوية الطموحة للفترة 2020-2024م للقضاء على الإرهاب عام 2019م؛ أبدت تلك الدول فشلًا في جمع 2.3 مليار دولار أمريكي من الميزانية، بل أيضًا أبدت الدول الأعضاء اختلافات حول مسألة تخصيص الموارد المالية في صندوق مشترك للجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا أم لصالح الجهود الوطنية وهو ما كان يظهر من جانب دولتي نيجيريا وغانا؛ فالأولى قد خصصت 80% من مواردها المالية المقدرة ب100 مليون دولار لصالح مكافحة جماعة بوكو حرام في شمال شرق البلاد، وخصصت الثانية 5 ملايين دولار من أصل 50 مليون دولار لصالح الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب مقابل 45 مليون دولار لصالح الجهود الوطنية في المناطق الشمالية المتاخمة لبوركينا فاسو.
2- الانقسامات المتزايدة
رغم دعوات الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا مالي وبوركينا فاسو والنيجر للعودة إلى عضويتها، لكنها لم تنجح بعد، وتشير التحليلات إلى عدم إمكانية نجاح مثل هذه القوة الاحتياطية لا إلا إذا حصلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا على التزام من جميع الدول الأعضاء فيها، وبذلت جهودًا دبلوماسية لإقناع الدول الثلاث بعدم الانسحاب من التحالف الذي دام خمسين عامًا؛ لأنه من شأن هذا الانقسام أن يُقوّض عقودًا من التكامل الإقليمي ويهدد بانفصال فوضوي عن تدفقات التجارة والخدمات التي تبلغ نحو 150 مليار دولار سنويًّا، وهو ما قاله “عمر توراي” -رئيس مفوضية إيكواس-؛ حيث صرح بأن التكتل دعا مسؤولين من الدول المتضررة من الانقلابات، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لحضور اجتماع والانضمام إلى تشكيل مثل هذه القوة، وإن مثل هذه القوة الاحتياطية لا يمكن أن تنجح إلا إذا حصلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا على التزام من جميع الدول الأعضاء فيها، وإذا وضعت الكتلة إستراتيجية للتعامل مع بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وأن الانسحاب المفترض قد يؤدي إلى تقويض الجهود الرامية إلى مكافحة عنف المسلحين في جميع أنحاء المنطقة، وقد يؤدي إلى انتشار العنف إلى دول غرب إفريقيا الساحلية.
3- معضلة الجغرافيا
تُظهر معضلة الجغرافيا تحديًا إضافيًّا أمام القوة الإقليمية المحتملة للإيكواس في حال عدم انضمام تحالف دول الساحل والتي تعتبر بدورها المراكز الرئيس والبيئات الأولى الحاضنة للجماعات المسلحة؛ حيث تتمدد خلاله أعمال العنف أكثر من عقد من قبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في الصحراء الكبرى سواء داخل تلك الدول ذاتها أو من تلك الدول إلى دول جوارها؛ فبوركينا فاسو-التي تحتل لأول مرة المرتبة الأولى في مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024م، ولا يخضع فيها ما يقرب من نصف أراضي البلاد لسيطرة السلطات- تمثل نقطة تمركز لهجمات الجماعات الإرهابية التي تستهدف بنين وكوت ديفوار وتوغو هجمات في مناطقها الشمالية المتاخمة لبوركينا فاسو.
وتشير التجربة العملية لمكافحة الإرهاب حاجة القوة الإقليمية للتنسيق مع تحالف دول الساحل من أكثر من مجال بحيث تصبح أكثر فعالية وقدرة على التصدي للعمليات الإرهابية؛ حيث يتعين على الطائرات العاملة لتغطية منطقة الساحل أن تحلق فوق مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتؤكد الجغرافيا السياسية للمنطقة صعوبة شنّ هجومًا وعمليات ضد الجماعات المسلحة دون أن تفتح مالي وبوركينا فاسو وبنين ونيجيريا منفذًا وهو ما يستبعد حاليًا تحقيقه في ظل حالة التوتر والعداء والطلاق البائن بين تحالف دول الساحل والجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.
4- إشكالات السيادة الوطنية
وفي غرب إفريقيا، رغم كون الظاهرة الإرهابية عابرة للحدود الوطنية، إلا أنها يُنظر إليها في المقام الأول باعتبارها مسألة تتعلق بالأمن الوطني والسيادة، وقد أبدت دول الغرب الإفريقي في أكثر من مناسبة عدم رغبتها في تكليف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بالقيادة والتنسيق على حساب السيادة الوطنية، وهو ما يعني غياب الإرادة نحو العمل الإقليمي، ولتفادي ذلك، وفي اجتماع 27 يونيو 2024م، أكد رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، عمر توراي على المسؤولية الجماعية لجميع الدول الأعضاء الخمسة عشر في المجموعة في مكافحة الإرهاب في حديثه عن القوة الإقليمية، وأشار توراي إلى أن حتى تلك البلدان التي تخضع حاليًّا لتعليق عضويتها تمت دعوتها للمشاركة في الاجتماع بسبب الطبيعة العابرة للحدود للتهديد الإرهابي وضرورة وجود استجابة إقليمية موحدة.
5- افتقاد المساعدة الأجنبية
كثيرًا ما شهدت منطقة الغرب إفريقيا بصمات الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، تحت شعارات دعم الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب، وفي ظل الانسحابات القسرية وتراجع نفوذ الحلفاء التقليديين، يمكن القطع بأن قدرة الجماعة الاقتصادية على تفعيل القوة الإقليمية أو حتى استخدامها في شن تدخلات عسكرية دون مساعدة أجنبية ضرب من الخيال؛ فحديث دول الغرب الإفريقي عن تفعيل قوتها الاحتياطية يعني وضع كل قوات دولها في حال تأهب، تحسبًا لأيّ تدخل عسكري. ويشير إلى أن “القوات الرسمية للمجموعة لا تتعدى 5500 رجل”. وفي محاولة لتفادي ذلك، أطلقت القمة 66 في ديسمبر 2024م نداء إلى الشركاء الدوليين من أجل «دعم» مبادرتها لتشكيل القوة العسكرية المشتركة لمحاربة الإرهاب.
وختامًا:
يمكن القول: إن الأوساط السياسية والأكاديمية تَعتبر إنشاء هذه القوة العسكرية حال تفعيلها هو الأول من نوعه للإيكواس في غرب إفريقيا، ويمثل ترجمة تطبيقية لجهود الاستجابة السريعة والفعَّالة للتهديدات الإرهابية، قد تسمح لها بإمكانية التحرك تجاه التحولات السياسية والأمنية تجاه الغرب الإفريقي من خلال المعالجة الفورية للتهديدات الإرهابية والتلويح بالخيار العسكري وتعزيز التنسيق الإقليمي، وتحسين كفاءة التدخلات، وتعزيز أطروحات الديمقراطية والسلام والاستقرار، ومع إقران مساعي الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا لتسريع إنشاء قواتها الإقليمية بالتحولات الأمنية في إقليم الغرب الإفريقي؛ يمكن تصورها كقوة إقليمية مناوئة وموازية للقوة الإقليمية المشتركة التي بصدد إنشائها من تحالف دول الساحل الثلاثي منذ سبتمبر 2024م، وقد يؤدي ذلك إلى مواجهة إقليمية واسعة تزعزع استقرار المنطقة، كما سيؤدي ذلك إلى انقسامات وانشقاقات داخل المجموعة، فضلًا عن تمدُّد التنظيمات الإرهابية وانتشارها.
وباختصار، سواء حال تفعيل القوة الإقليمية أو عدم تفعيل، فإن أبرز تحدياتها تظهر في الأعباء التمويلية والانقسامات المتزايدة ومعضلة الجغرافيا، وافتقاد المساعدة الأجنبية وإشكالات السيادة الوطنية، كما أن الظاهرة الإرهابية تحتاج إلى جانب إنشاء القوة الإقليمية إلى تدابير إصلاحية ذات صلة بقضايا الحكم الرشيد، والتنمية، والشمولية، والعملية الانتخابية السليمة.