في السادس والعشرين من مايو/أيار، عندما قصفت إسرائيل مخيمًا مكتظًا باللاجئين الفلسطينيين في منطقة إنسانية آمنة في رفح، اشتعلت النار بسرعة في الخيام البلاستيكية. وأصبح على أولئك الذين هُجّروا بالفعل عدة مرات وواجه أطفالهم مجاعة دبرتها إسرائيل، أن يواجهوا رعبًا جديدًا؛ فقد أدى الهجوم إلى مقتل عشرات اللاجئين، وترك أجسادهم ممزقة ومتفحّمة، وبعضهم لا يمكن التعرّف عليه.
نقلت صورُ الحدث التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي لقطات مروعة لخيامٍ اجتاحتها النيران، ولفلسطينيين يصرخون ويبكون ويركضون بحثًا عن الأمان ومساعدة الجرحى، ولصبي يبكي رعبًا وهو يشاهد والده يحترق داخل خيمته، وصورة لرجل يحمل جثة طفله المتفحمة، وقد انفصلت رأسه عن جسده، يهيم على وجهه، ولا يعرف ماذا يفعل، وأخرى لطفلة مصابة تتشنج من الألم، بينما يكافح المسعف للعثور على وريد في ذراعها الهزيل لتركيب أنبوب وريدي للتغذية من الجفاف.
ولكن صورة أخرى للحدث كانت تظهر للمشاهد عن تلك المذبحة المفزعة، عندما يشاهد تغطية مؤسسات الإعلام الأميركية لها، فمعظمها اكتفى بتكرار الدعاية الإسرائيلية التي وصفت المذبحة بأنها “حادث”، وامتنعت عن استخدام كلمتَي “إبادة جماعية” و”مذبحة” في تقاريرها التي سعت لصرف انتباه الجمهور عن سياق جرائم الحرب، وعن الشعور بالتعاطف الإنساني.
عندما تحدثت شبكة “إن بي سي” عن المذبحة، قالت: إن إسرائيل “تتحدى الضغوط الدولية”. لكن إسرائيل لم تكن تتحدى الضغوط فحسب، بل كانت تنتهك بشكل مباشر أمر محكمة العدل الدولية بوقف هجومها على رفح.
وعلى النقيض من ذلك، وبرغم الصور المروّعة، نشر رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (EuroMedHR) “مشاهد مروعة: في الرد الأكثر دموية على قرار محكمة العدل الدولية، استهدف الجيش الإسرائيلي فيها مجموعة من خيام النازحين في رفح، مما أسفر عن مقتل نحو 60 مدنيًا بريئًا حتى الآن”.
وقامت فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في فلسطين، بتضمين الإجراءات الدولية التي يجب تنفيذها: “مزيد من الرعب في غيتو- غزة.. قوات الاحتلال الإسرائيلي قصفت مخيمًا للنازحين الفلسطينيين في رفح، مما أشعل النيران في الخيام البلاستيكية، وحرق الناس أحياء بشكل مأساويّ. هذه القسوة والتحدي الصارخ للقانون الدولي، أمر غير مقبول. لن تنتهي الإبادة الجماعية في غزة بسهولة دون ممارسة ضغط خارجي.. يجب أن تواجه إسرائيل العقوبات والعدالة وتعليق الاتفاقيات والتجارة والشراكة والاستثمارات، فضلًا عن المشاركة في المنتديات الدولية”.
وتساءلت إيمي غودمان، في برنامج “الديمقراطية الآن” – وهو برنامج عالمي مستقل يبثّ يوميًا عبر الإذاعة والتلفاز والإنترنت – عما إذا كانت الدول الغربية “المتواطئة” ستواصل عملها كالمعتاد، أم أننا سنرى عقوبات على إسرائيل؟”.
نادرًا ما تُناقش مثل هذه العقوبات في وسائل الإعلام التابعة للمؤسّسات الأميركية الكبرى.
ثلاث روايات إسرائيلية
في وسائل الإعلام القديمة، أصبح ادّعاء إسرائيل بأنها قتلت اثنين من قادة حماس هو السبب وراء الغارة. وفي صور شبكة “NBC” للخيام المحترقة، قال المراسل: “قُتل العشرات في مخيم بغزة في غارة جوية استهدفت اثنين من قادة حماس”. وهكذا تكون حماس مرتبطة بالموتى كلما أمكن.
قامت “NBC” أيضًا بوضع تعليق تحت فيديو المذبحة نصه هو: “نتنياهو: الغارة القاتلة حادث مأساوي”.
وردًا على ادّعاء إسرائيل بأنه كان “حادثًا”، ردّ صحفيون مستقلون وناشطون ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، بمن فيهم النائبة رشيدة طليب، بالتشكيك والانتقادات اللاذعة لمن زعموا ذلك. فمثلًا، عندما كتب باراك رافيد مراسل أكسيوس ومحلل شبكة “سي إن إن”؛ “عاجل: نتنياهو يقول إن الغارة الجوية في رفح كانت خطأ مأساويًا، وأنه سيتم التحقيق فيها”، ردّت عليه كاتي هالبر مراسلة شبكة “سي إن إن” السابقة ، التي طُردت من وظيفتها لانتقادها إسرائيل، قائلة: “من الجميل أن أراك تستخدم منصبك كصحفي للقيام بالدعاية لصالح الحكومة الإسرائيلية”.
وقالت النائبة الأميركية رشيدة طليب: “الغارة كانت فعلًا متعمدًا. لا يمكن أن تقتل أعدادًا هائلة من الأطفال وعائلاتهم مرارًا وتكرارًا ثم تقول: (لقد كان خطأً). لقد أخبرنا نتنياهو، مهووس الإبادة الجماعية، أنه يريد تطهير الفلسطينيين عرقيًا، فمتى ستصدّقونه؟”.
أما سناء سعيد، الناقدة الإعلامية لقناة “الجزيرة+”، فقد نشرت الصفحات الأولى لأربع مطبوعات كررت ادعاء نتنياهو بأنه حادث. إذ استخدمت صحيفة “نيويورك تايمز” عبارة: “حادث مأساوي”، وفضلت مجلة “تايم” و”فوربس” و”الأسوشيتد برس” عبارة “خطأ مأساوي”. ووصفت المسؤولين عن تلك العناوين بأنهم “دعاة للإبادة الجماعية متنكّرين في زي صحفيين”.
وكرّرت شبكة “سي إن إن” معلومات مضللة إسرائيلية أخرى: “أبلغت إسرائيل إدارة بايدن أنها استخدمت ذخيرة دقيقة لضرب هدف في رفح، لكن الانفجار الناجم عن الغارة أدّى إلى إشعال خزان وقود قريب وتسبب في نشوب حريق..”.
وكررت شبكة “إن بي سي” السيناريو نفسه مضيفة أن الذخائر الإسرائيلية وحدها “لم تكن لتشعل نارًا بهذا الحجم”. ومضت لتنقل المزيد من التكهنات عن متحدث باسم الجيش الإسرائيلي قال إن: “الأسلحة المخزنة في المنطقة التي كان الجيش الإسرائيلي يستهدفها ربما كانت وراء اشتعال النار”. لكنه قال: إن ذلك مجرد “افتراض” في هذه المرحلة.
إن تكرار ومناقشة التضليل الإسرائيلي -المتغير باستمرار- والذي يراوح بين الإنكار أو إلقاء المسؤولية على حماس، يسمح لوسائل الإعلام بتجنب التوقف عند ذلك النمط الملحوظ والمتكرر للمجازر الإسرائيلية. كما أن الثرثرة التي لا نهاية لها، تصرف انتباه الجمهور بعيدًا عن المعاناة.
لكن على وسائل التواصل الاجتماعي، تشير اللقطات الأولية وصرخات الغضب من قبل المستخدمين إلى أن تلك المسافة العاطفية التي تريد تلك الوسائل اصطناعها، تنهار عبر الإنترنت.
أعرب بعض المستخدمين الذين شاهدوا اللقطات الخام للمجزرة عن انزعاج شديد. وقال أحد المنظمين الفلسطينيين على منصة “إكس”: “أنا أرتجف بشكل لا يمكن السيطرة عليه منذ الليلة الماضية. لا أستطيع الوصول إلى الطفل المقطوع الرأس الذي حرق حيًا. لا أستطيع إخراج صراخ المرأة من رأسي. ولا جثث الأطفال المتحللة. الفتاة التي علق جسدها بالحائط. رسالة هند الأخيرة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني… والآن. كيف تشاهد كل هذا ولا تشعر بأن روحك ميتة؟
ونشرت ابنة أحد اللاجئين الفلسطينيين قائلة: “مجزرة الطحين، مجزرة الخيام، مجزرة المستشفى، مجزرة مخيم اللاجئين، مجزرة الممر الآمن، المجازر التي لا تنتهي، في البيوت، في الشوارع، في الخيام، سيرًا على الأقدام – ثمانية أشهر. مذبحة بعد مذبحة بعد مذبحة”.
المفارقة أن صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية هي التي ألقت الضوء على ذلك الدور الدعائي الذي تلعبه وسائل الإعلام القديمة في الولايات المتحدة، وذلك في مقال افتتاحي بعنوان: “في إسرائيل تحت نتنياهو.. رعب رفح ليس مؤسفًا ولا استثنائيًا”. وتسخر تلك الافتتاحية من استخدام عبارة “حادث مأساوي”، لوصف “الحادثة المروعة”. ولاحظت أنه “استغرق الأمر من نتنياهو 20 ساعة لإصدار بيانه المشين، الذي، كالعادة، كان يفتقر إلى أي ذرّة من الندم على مقتل “غير المقاتلين”. وسخِرت الصحيفة من “التعتيم الإعلامي المتعمد فيما يتعلق بحجم الموت والدمار على الأرض. في الأشهر الثمانية الماضية”.
وفي وقت متأخر من يوم الأربعاء، بدأت وسائل الإعلام التابعة للمؤسسات الأميركية في نشر تقارير مفادها أن القنابل الإسرائيلية التي أُلقيت على رفح وأحرقت اللاجئين الفلسطينيين أحياء، كانت مصنوعة في الولايات المتحدة. وقام الصحفي الفلسطيني علام صادق بتصوير شظايا ذخيرة، ونشرها على منصة “إكس” خبيرُ المتفجرات السابق بالجيش الأميركي تريفور بول.
وبعد ذلك بدأت حملة تبريرية واسعة تقول: إن القنبلة “الأميركية” المستخدمة في هذه الحادثة كانت أصغر من القنابل المعتادة التي تزن 2000 رطل التي استخدمتْها إسرائيل في تدمير غزة، وأن إدارة بايدن كانت تضغط على إسرائيل لاستخدام المزيد من هذه القنابل، لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين. وكررت صحيفة “نيويورك تايمز” الادعاءات بأن استخدام تلك القنبلة يشير إلى أن إسرائيل تحاول قتل عدد أقل من المدنيين.
وبعد جولة جديدة وطويلة من التكهنات، حول كيفية اندلاع الحريق، أشار اقتباس من رقيب متقاعد من القوات الجوية الأميركية إلى الحقيقة: “عندما تستخدم سلاحًا مصنوعًا للضربات الدقيقة ولتحقيق أضرار جانبية منخفضة في منطقة مكتظة بالمدنيين، فأنت تفعل عكس الهدف المقصود”.
على مدى الأشهر الثمانية الماضية، لم تتوقف وسائل الإعلام التابعة للمؤسسات الأميركية عن تكرار الدعاية الإسرائيلية، بل بدت راغبة في نشر المعلومات المضللة الإسرائيلية، والتغاضي عن الإبادة الجماعية.
لقد حان الوقت ليتوقّفوا عن نقل الأخبار عن غزة من خلال عيون الجيش الإسرائيلي.