محمد عطية مِن ” صنايعي في ورشة ” إلى عالم يقود فريقا بحثيا أمريكيا
بينما كنت أستعد لنشر هذه القصة الملهمة لعالم وباحث مصري من طراز فريد، نشرت مجلة “ساينس” الأمريكية الشهيرة له ورقة بحثية عن الحلول البديلة للملوثات الكيميائية الخطيرة. هذا هو البحث الثاني له في “ساينس” بعد بحثه الأول المنشور في أغسطس 2022.
أسعدني نشر هذا البحث تحديدًا بشكل شخصي لأكثر من سبب؛ فهو يأتي بعد محنة صعبة تعرض لها عالمنا الكبير بعد اكتشافه فجأة وجود ورم كبير في بطنه في يناير الماضي. استأصل الأطباء الورم في أبريل، وهذه حكاية مؤلمة سوف أتطرق إليها فيما بعد.
السبب الثاني أن البحث الجديد كان قد بدأ فيه في مارس من العام الماضي 2023 أي منذ عام ونصف العام، لكنه رُفض في الجولة الأولى من المراجعة بسبب تحكيم يراه غير منصف وغير مهني. تسبب الرفض في ضيق كبير له وزاد الضيق بعد أزمة ظهور الورم، ثم جاءت الانفراجة بعد محاولات عديدة لم تتوقف، ومع صبر لا ينفذ وعزيمة لا تلين. خلال الأسبوع الماضي فقط نشر عالمنا 3 أوراق بحثية، رغم أنه في الأسابيع السابقة رُفضت له 5 أبحاث.
السبب الثالث في سعادتي هو أنني أدركت خلال التحضير لكتابة هذه القصة أنني أمام شخص مختلف وملهم بكل ما تعني الكلمة من معنى، وصار كل نجاح يحققه هو نجاح لي ولكل أبناء هذا الجيل. اليوم يحكي بطل قصتنا عن تفاصيل لأول مرة في حياته. حياته المليئة بالصعوبات والتحديات التي كان يفكر دومًا في تخطيها دون الوقوف عندها كثيرًا.
وكالة حماية البيئة الأمريكية
إنه العالم المصري المرموق الدكتور “محمد عطية” أو (موها) كما أطلق عليه اليابانيون. يعمل أستاذًا مساعدًا في قسم الهندسة الكيميائية والبيولوجية الجزيئية، بجامعة رايس الأمريكية، ومهندسًا بيئيًا ورئيسًا لمجموعة بحثية في مركز الحلول البيئية والاستجابة للطوارئ (CESER) التابع لوكالة حماية البيئة الأمريكية(EPA). يمتلك “عطية” خبرة كبيرة في الكيمياء البيئية وكيمياء المواد لتطوير وتقييم تقنيات مبتكرة لمعالجة المياه وإزالة أو تحليل الملوثات الناشئة، مثل (PFAS) والجسيمات البلاستيكية الدقيقة.
ويقود “محمد عطية” حاليًا مشروعًا لتقييم التأثيرات البيئية للمواد الكيميائية وتركيبات استبدال PFAS (مجموعة من حوالي تسعة آلاف مادة عضوية اصطناعية تستخدم في تغليف الوجبات السريعة وأغلفة الطعام والمياه وتجهيزات المطابخ والحلل غير اللاصقة (التيفال) ورغاوي إطفاء الحريق وفي السجاد والملابس المقاومة للبقع والماء والأمطار والحرارة نتيجة استخدام خصائص مواد طاردة للماء والزيت).
البحث والتطوير بوزارة الدفاع الأمريكية
هو أيضًا عضو في اللجنة الفنية لأنظمة ومنصات الأسلحة التابعة لبرنامج البحث والتطوير البيئي الاستراتيجي (SERDP) وبرنامج شهادة تكنولوجيا الأمن البيئي (ESTCP) وهما برنامجان لأبحاث البيئة والمرونة والتركيب والطاقة والمياه في وزارة الدفاع الأمريكية، ويسخران أحدث العلوم والتكنولوجيا لتحسين الأداء البيئي للوزارة، وخفض التكاليف، وتعزيز قدرات المهمة والحفاظ عليها.
75 ورقة بحثية
لدى “محمد عطية” حتى اليوم 75 ورقة بحثية منشورة باسمه في كبرى المجلات العلمية الشهيرة مثل Science, JACS, Water Research, Environmental Science and Technology ولديه 10 أوراق بحثية أخرى لا تزال تحت المراجعة الآن ومن المتوقع نشرها قريبًا.
الطفولة والنشأة
ولد “محمد عطية” في الأسكندرية عام 1988. يتم عامه السادس والثلاثين بعد أيام في الثالث من أغسطس المقبل. تعود جذور الأب إلى طنطا والأم إلى الأسكندرية. تزوجا وعاشا بمنطقة كرموز ثم انتقلا فيما بعد إلى الهانوفيل، وكان “محمد” هو الأخ الأكبر لثلاث شقيقات. عمل والده موظفًا في مديرية الشباب والرياضة بالأسكندرية وتدرج فيها حتى أصبح مديرًا لمركز شباب “فلسطين” بقرية قريبة من العامرية.
بجانب وظيفته الحكومية كان يعمل والده في معارض لبيع المفروشات وكذلك عمل مدرسًا خصوصيًا رغم عدم دراسته بكلية التربية أو الآداب لكنه كان يجيد الشرح ليكفي حاجة أسرته. دفع هذا “محمد” أيضًا لمساعدة والده خلال دراسته بمدرسة “الفتوح” الابتدائية أو “مجدي بن حليم” الإعدادية أو “عباس حلمي” الثانوية، وكلها بمنطقة العجمي.
ورشة المعلم بلبل
مع بدء الإجازة الصيفية في السنة الخامسة الإبتدائية، وفر الأب لنجله “محمد” فرصة للعمل في ورشة المعلم “بلبل” لتنجيد المفروشات والانتريهات والصالونات في منطقة “العطارين”، لتكون معه “صنعة” بجانب دراسته، وبمجرد انتهاء الدراسة يذهب كل صيف إلى الورشة التي بدأ فيها صبيًا ثم أصبح صنايعيًا واستمر بها حتى تخرجه من الجامعة. تركت تلك التجربة أثرًا كبيرًا في حياته، ويسعده تذكر تفاصيلها حتى اليوم. وكان المعلم “بلبل” – عليه رحمة الله – مشهورًا بجودة الشغل، وحظي “محمد عطية” بشهرة لدى الزبائن لأنه تربى في الورشة منذ صغره طوال فترة الصيف.
ما يكسبه “محمد” من ورشة المعلم “بلبل” كان يدخره في دفتر توفير بمكتب البريد ليكفيه مصاريف العام الدراسي. بدأ بأجر 15 جنيهًا أسبوعيًا، ثم وصل إلى 170 جنيهًا مع 30 جنيهًا كمصروف يومي بنهاية دراسته الجامعية. شكلت ورشة المعلم “بلبل” جزءًا كبيرًا من شخصيته وأكسبته مهارات كان يصعب عليه تعلمها. ولأنه المتعلم الوحيد في الورشة، كان يناديه صاحبها بـ “الأستاذ”.
لم يكتسب “محمد” من وجوده في وسط الصنايعية تدخين السجائر أو أي عادات سيئة أخرى رغم وجودها حوله يوميًا، بل اكتسب منهم خبرات ومهارات ساعدته فيما بعد. اكتسب الثقة في النفس وإجادة الحوار والخطابة واللباقة والإقناع والتسويق والشرح أمام الجمهور والفصال خلال البيع في معرض المفروشات والتعامل مع الزبائن.
لم يحصل “محمد عطية” على دروس خصوصية طوال مراحل الدراسة كلها، وتسبب ذلك في اضطهاد بعض المدرسين له. وعندما وصل إلى الثانوية العامة كان يرغب في دراسة هندسة الميكانيكا لكن فاتته كلية الهندسة على نصف في المائة.
الصدفة وكلية الزراعة
لعبت الصدفة دورًا كبيرًا في حياة “محمد”، فعندما ذهب به التنسيق إلى كلية العلوم شعبة رياضيات بالشاطبي بالأسكندرية، وخلال زيارته الأولى للكلية لاستكمال الإجراءات بعد التنسيق، لفتت انتباهه لافتة مكتوب عليها “هندسة زراعية” في المبنى الملاصق لكلية العلوم، فوجد اثنين من الأساتذة بكلية الزراعة وسألاه عما يريد، فحكى لهما حكايته، واقترحوا عليه دراسة الهندسة الزراعية بكلية الزراعة التي تشبه دراسة هندسة الميكانيكا. سحب “محمد عطية” الملف من كلية العلوم وحولّه إلى كلية الزراعة. لم يستغرق الأمر منه وقتًا للتفكير.
وخلال دراسته الجامعية، كان يحضر المحاضرات ويلخصها، ثم يترك الملخصات في مكتبة تصوير ليقوم زملاؤه بالاستعانة بها، وظلت ملخصاته في المكتبة حتى بعد تخرجه بخمس سنوات يستفيد منها الطلبة.
عامل في شركة صيانة سيارات
كان “محمد عطية” يعيش خلال الجامعة حياة “أنا مهندس ميكانيكا”. وبدلًا من الذهاب للتدريب الصيفي بمزارع الاستصلاح لدراسة نظم الري المتطورة أو في شركات المعدات والمنتجات الزراعية وغيرها، ذهب للتدريب كعامل في شركة “مون” لصيانة السيارات، وطلب من صاحبها ألا يخبر الصنايعية أنه طالب في الجامعة ليتعاونوا معه ويتعلم ويشرب منهم الصنعة، لكنهم بمجرد اكتشافهم أمره انقلبوا عليه ودبروا له بعض المكائد والمقالب. فلا ينسى (مبتسمًا) كمين العمال له مع خرطوم زيت الهيدرولك الذي أغرق ملابسه بالزيت عندما أمسك به.
يصل “محمد” إلى الشركة في الثامنة صباحًا ويستمر بها حتى الثالثة عصرًا، ثم يستقل المشروع (الميكروباص) إلى ورشة المعلم “بلبل” ويتركها عند منتصف الليل. استمر هكذا يعمل لمدة 16 ساعة يوميًا خلال الصيف في آخر عامين من دراسته الجامعية، خاصة بعد وفاة والده وهو في عامه الجامعي الثاني.
مدير الصيانة
بعد التخرج من الكلية عام 2009، طلب “محمد عطية” من رئيس الشركة العمل معهم كمهندس ميكانيكا رغم عدم حصوله على بكالوريوس هندسة. وافق المالك وكانت هذه هي وظيفته الأولى بمرتب ضعيف يصل إلى 550 جنيهًا. تسبب حبه لمهنة مهندس الميكانيكا في تعلم كل شيئ بسرعة وخلال 6 أشهر فقط أصبح المسؤول عن الورشة (مدير الصيانة) وارتفع راتبه إلى ألف جنيه. تحول الأمر فيما بعد إلى روتين يومي، فبدأ في منتصف عام 2010 في البحث عن حلول أخرى.
شركة الخرسانة الجاهزة
هنا بدأ البحث عن فرصة في مكان آخر ليتعلم شيئًا جديدًا، فذهب إلى شركة خرسانة جاهزة في “مدينتي” بالقاهرة براتب 1200 جنيه في الشهر، وكان يقضي في الموقع أسبوعين ثم يحصل على أجازة لمدة 3 أيام يعود فيها لأسرته بالأسكندرية. كانت غربة داخلية يعمل فيها في الصحراء لذلك لم يستمر بها سوى شهرين.
منحة جامعة الملك سعود
في ذلك الحين، كانت تأتي منح من جامعة الملك سعود للأوائل في قسم الهندسة الزراعية، ويفوز بها الخمسة الأوائل بالقسم، وكان ترتيبه الثالث بينهم، لكن بسبب فيروس “سارس” في عام تخرجه 2009، تم فرض حظر ومنع السفر. ثم أتيح التقديم عليها مرة أخرى في 2010، فتم قبوله. وقتها أدرك “محمد عطية” أن الغربة في صحراء “مدينتي” لا تختلف كثيرًا عن الغربة في صحاري السعودية.
كانت السعودية أول دولة يسافر إليها في حياته، وكان هدفه هو دراسة الماجستير وفي نفس الوقت العمل كباحث، لكنه وجد حياة مختلفة جدًاوبطيئة جدًا. حياة مملة ولا جديد فيها يتعلمه، فقرر بعد أسبوعين من وصوله التخطيط للرحيل عنها لكنه قضى عامين ليخرج منها.
المياه أغلى من البنزين
لفت انتباهه في الرياض أن المياه أغلى من البنزين، وأن الحصول على مياه من (الحنفية) للشرب أمر صعب المنال، فقرر العمل في مجال معالجة المياه في قسم أبحاث المياه، وهو المجال الذي لم يكن يعلم عنه شيئا. بسبب الملل، كان يشغل وقت فراغه في شيء مفيد، ولحسن حظه أن الإنترنت كان سريعًا، فاستخدم موقع يوتيوب في تعلم كورس هندي مدته 40 ساعة بالإنجليزية ذات اللهجة الهندية الصعبة. حاول فك طلاسمها لمعرفة الكثير عن معالجة المياه.
ثم بدأ التقديم على منح لدراسة الماجستير في ألمانيا وسويسرا واليابان وكوريا. ولم يتقدم لأي جامعة في أمريكا لاشتراطها اجتياز اختبار جي ار إي (GRE) أي الاختبار القياسي للخريجين، وهو اختبار معياري موجه للطلاب الراغبين في استكمال دراستهم العليا، ولم يكن يمتلك في ذلك الوقت المال الكافي لدفع رسوم الاختبار. يقول لي أنه كان قادرا على دفع رسوم التويفل بالعافية.
المنقذ الباكستاني
تعرف “محمد عطية” في هذا التوقيت على الدكتور “عابد علي شاه”، وهو أستاذ جامعي باكستاني قدم له دعمًا كبيرًا، وقال له صراحة أن هذا المكان (جامعة الملك سعود) ليس المكان المناسب له، ونصحه بالبحث عن منح في دول أخرى تتناسب مع قدراته وطموحاته. ساعده المنقذ الباكستاني في مراجعة الطلبات التي كان يقدمها للجامعات الأجنبية ومتابعة الردود عليها. تعلم منه كل شيء في إعداد رسالة محترفة لطلب منحة. كان “عطية” لا يمتلك أي معرفة في هذا الشأن ويعتبر نفسه تحت الصفر لكن للأسف رحل هذا الأستاذ بعد عام من وصول عطية إلى السعودية.
أرسل “عطية” خلال ذلك العام مئات الرسائل الإلكترونية للجامعات الأجنبية المختلفة لكن أغلبها تجاهلت رسائله، وقليل منها أبلغته بالرفض، وهنا قرر البحث عن خطة بديلة للتقدم لدراسة الهندسة البيئية في جامعة الملك سعود نفسها وحصل بالفعل على الموافقة، ثم تتسبب تلك الموافقة له في أزمة كبيرة فيما بعد.
طي القيد والفصل
لم تكن حياة “محمد عطية” في السعودية سهلة. فالأستاذ السعودي المشرف على محنته، استقدم حوالي 15 باحثًا مصريًا ووضعهم في غرفة تشبه الكول سنتر، وطلب منهم ترجمة بعض الكتب دون إجراء أي أبحاث أو تجارب أو القيام بأي شيء له صلة بالبحث العلمي. وبسبب رغبة “محمد عطية” في أن يكون باحثًا حقيقيًا، بدأ يحكي لأقرانه عن بحثه عن منح لدراسة الماجستير وتذمره من الوضع القائم، فيحكي لي أنه كان يذهب للمؤتمرات العلمية فقط للحصول على حقيبة المؤتمر وتناول الطعام في (الأوبن بوفيه).
عندما علم مشرفه باعتراضه وأفعاله من زملاء وشوا به، أراد المشرف أن يجعل منه عبرة، خاصة بعد معرفته بقبول “محمد عطية” في قسم الهندسة المدنية بنفس الجامعة، وهو القسم الذي رفض سابقًا طلبًا للمشرف نفسه بالانضمام إليه. هنا قرر المشرف فصله بشكل انتقامي حتى لا يتسبب في ثورة وسط الطلبة. أثناء عودته من زيارة قصيرة إلى مصر، فوجئ “محمد” بمشرفه يخبره بصدور قرار له بـ “طي القيد”. لم يكن يعلم وقتها ماذا تعني الكلمة، فأخبره أنه لن يتم تجديد عقده وأن خدمته انتهت بعد السنة الأولى. اسودت الدنيا في وجه “محمد عطية” لدرجة جعلت الطلاب يضربون به المثل حتى لا يتعرض أحد لمصيره.
المنقذ يظهر
لحسن حظ “عطية”، أن مشرفًا سعوديًا آخر يدعى “أحمد العمود” علم بقصته وأدرك أنه تعرض لظلم، وكان هذا المشرف ليس على وفاق مع المشرف الذي نكّل به. طلب الدكتور أحمد العمود مقابلته وعرض عليه أن ينتقل تحت إشرافه، وهنا تغير الوضع تمامًا. وجد مشرفًا يحاول مساعدته، ويمتلك علاقات قوية كبيرة مع كبرى الشركات بالسعودية، بل جعله ذراعه اليمنى، وخصص لك مكتبًا بمفرده وكان يصطحبه معه في كل زياراته وجولاته، بينما بقيت “العصافير” في غرفة الكول سنتر.
منحة طوكيو تك
في العام الثاني وبعد تحسن ملحوظ في مخاطباته للجامعات، بدأت تصله ردود من جامعات في ألمانيا، لكن الفرصة الأكبر كانت من طوكيو تك لدراسة الماجستير والدكتوراه معًا وهنا قرر السفر لليابان. حياة مختلفة تمامًا. النظام والناس والدراسة والحياة. أكسبته طبيعته الاجتماعية علاقات عديدة، وتقدم بطلب لدراسة مجال دراسة آخر له علاقة بالطاقة بجانب تخصص المنحة الأساسي، وتسبب ذلك في سفره لحضور مؤتمرات بالخارج في دول مثل إنجلترا وغيرها. وكان دائم التقديم على تلك الفرص، لدرجة أن مشرفه الياباني الدكتور “يوشيمورا تشيهيو” كان مندهشًا من رغبته على التقديم في مجالات لا علاقة لها بتخصصه مثل الطاقة والمجتمع والفلسفة لكنه كان يوافق له ويعطيه مساحة للتجربة والخطأ والسفر.
المنقذ الدنماركي
بعد الحصول على الماجستير في المعالجة البيولوجية لمياه الصرف الصحي باستخدام مفاعلات الأغشية الحيوية ذات القاع المتحرك (MBBR)، قرر محمد عطية المخاطرة والبحث في الدكتوراه عن مجال جديد لأنه كان يعمل وحده في مجال المعالجة البيولوجية للمياه وهو ما سيستغرق منه وقتًا وجهدًا كبيرًا. اختار مجال المعالجة الفيزيائية والكيميائية للمياه. وعندما ذهب إلى تدريب لمدة 3 أشهر في جامعة كوبنهاجن في الدنمارك، كان التحدي الأكبر في إيجاد معامل وأساتذة يقبلون العمل معه لمدة 3 أشهر فقط، فكانت الإجابات دائما ما تصله بالرفض. وبعد مرور عام من الثلاثة المخصصة للدكتوراه في بحث لا جدوى منه، عاد لنقطة الصفر. ثم تحدث المفاجأة بعد فشل تجربته الأولى، اتصل به المنقذ الدنماركي وهو أحد الأساتذة في جامعة كوبنهاجن وعرض عليه تحمل مصاريف تدريبه لمدة 3 أشهر، فسافر إلى الدنمارك وأكمل رسالته التي حصلت على جائزة أفضل رسالة دكتوراه لعام 2017 من جامعة طوكيو تك وهي الجائزة التي يحصل عليها باحث واحد فقط سنويًا.
عطية المنتشر
حصل “عطية” على الدكتوراه في الفلسفة، والهندسة المدنية والهندسة البيئية عن معالجة مياه الصرف الصحي باستخدام الأنابيب النانوية الكربونية المغناطيسية (MCNTs). وبفضل المقررات الإضافية التي كان يدرسها “عطية”، تخرج بما يعادل 45 نقطة في الوقت الذي تخرج فيه زملاؤه بنحو 25 نقطة. كل هذا بفضل شخصية عطية الفضولية الراغبة في معرفة ما يشمله كل مجال. بجانب الدراسة في اليابان كان يصف محمد عطية نفسه بـ “المنتشر”، يظهر في التليفزيون الياباني، ويستغل علاقاته خارج الجامعة للاستمتاع بشكل كبير.
مؤسسة بناء
تعرف “محمد عطية” خلال وجوده في السعودية على “كريم خالد” الذي يعمل حاليا في مكتب الإسكوا في الأردن وهي لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا. في عام 2015 وخلال دراسته للدكتوراه ورغم وجودهما خارج مصر، فكرا في تأسيس مؤسسة أهلية للمساعدة في نشر الوعي وتدريب الشباب وبدء مشاريع الاستدامة والبيئة والتلوث، فأسسا مؤسسة “بناء”.
كان التحدي الأول هو أن الاثنين يعيشان في الخارج، ومن خلال السوشيال ميديا بحثا عن المتطوعين، وكان هناك كتاب عن معالجة المياه والصرف الصحي بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، ولم تكن منه أي نسخة باللغة العربية.
تم تنظيم الفرق والمجموعات لترجمة الكتاب إلى العربية، بحيث تكون جودته جيدة والبحث العلمي دقيق، كان العمل على مجموعات متطوعة من 10 فرق تقريبًا. خرج الكتاب للنور. وتستعين به حاليًا بعض الجامعات في الأردن في مناهجها.
انقطعت علاقة “محمد عطية” بالمؤسسة بسبب عمله الحالي مع الحكومة الأمريكية الذي تحظر عليه المشاركة في أي مؤسسات أهلية خارج أمريكا، ويتولى حاليا الإدارة فريق آخر يقومون ببناء مباني رخيصة ومستدامة، ولديهم برنامج آخر لتدريب المدربين، كنوع من بناء قاعدة مجتمعية لديها قدر جيد من المعلومات والرغبة في إنشاء المشاريع. منها إنشاء محطات معالجة صغيرة في القرى المصرية بتمويل من الاتحاد الأوروبي. كما يعملون على تقييم الوضع الحالي في نهر النيل. يشعر “عطية” بالفخر بسبب هذه النجاحات التي ساهم في وضع البذرة الأولى لها لكنه لا ينسب الفضل فيها إلا للإدارة الحالية للمؤسسة.
الانتقال إلى أمريكا
خلال آخر عامين في طوكيو تك، كان “محمد عطية” قد بدأ شراكة بحثية مع جامعة أمريكية. وعرض عليه الأساتذة في الدنمارك وأمريكا العمل معهما، لكنه قرر الذهاب لأمريكا، ليتم أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة كليمسون بولاية كارولاينا الجنوبية، ثم انضم إلى جامعة نورث ويسترن عام 2021 وقضى فيها عامين، ثم انضم منذ ثلاث أعوام إلى مركز الحلول البيئية والاستجابة للطوارئ (CESER) التابع لوكالة حماية البيئة الأمريكية(EPA).
الجوائز
في عام 2019 حصل محمد عطية على جائزة جامعة كليمسون المتميزة لأبحاث ما بعد الدكتوراه (postdoc)، وفي نفس العام حصل على جائزة العرض التقديمي المتميز من الجمعية الكيميائية الأمريكية (ACS، وفي عام 2017 حصل على جائزة أفضل أطروحة دكتوراه من معهد طوكيو للتكنولوجيا (طوكيو تك). وحصل عام 2015 على جائزة المركز الأول بمنتدى شباب العلماء والمهندسين (Y-E-S) وبلغت قيمة الجائزة 50 ألف ين ياباني مقدمة من شركة هوندا.
صائد جوائز أفضل عرض
المهارات التي تعلمها “محمد عطية” في ورشة المعلم “بلبل” من طريقة العرض والإقناع والثقة في النفس وكان يستغلها في بيع الأنتريهات والصالونات، يخبرني أنها انتقلت معه بشكل آخر في البحث العلمي، فلم يكن يذهب إلى أي مؤتمر وفيه جائزة أفضل عرض تقديمي إلا وكان يكسبها. حصل على جائزة أفضل عرض تقديمي من المنتدى التربوي الدولي الثالث للعلوم البيئية والطاقة في أستراليا عام 2014، ومن المنظمة الدولية للمياه (IWA) المقدمة للباحثين الشباب باليابان في نفس العام، وكذلك في مؤتمر طوكيو للتكنولوجيا وجامعة الكويت المشترك المنعقد باليابان. وفي عام 2022 حصل على جائزة 40 تحت 40 من الأكاديمية الأمريكية للمهندسين والعلماء البيئيين (AAEES).
وزارة الدفاع الأمريكية
يعمل محمد عطية حاليًا عضوًا في اللجنة الفنية لأنظمة ومنصات الأسلحة التابعة لبرنامج البحث والتطوير البيئي الاستراتيجي (SERDP) وبرنامج شهادة تكنولوجيا الأمن البيئي (ESTCP) وهما برنامجان لأبحاث البيئة والمرونة والتركيب والطاقة والمياه في وزارة الدفاع الأمريكية، ويسخران أحدث العلوم والتكنولوجيا لتحسين الأداء البيئي لوزارة الدفاع، وخفض التكاليف، وتعزيز قدرات المهمة والحفاظ عليها.
تستجيب البرامج لمتطلبات تكنولوجيا الطاقة والمياه البيئية والمرونة والتركيب المشتركة بين جميع الخدمات العسكرية، مما يكمل برامج أبحاث الخدمات. يعزز SERDP و ESTCP الشراكات والتعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعة والخدمات العسكرية والوكالات الفيدرالية الأخرى. وهي برامج مستقلة تدار من مكتب مشترك لتنسيق مجموعة كاملة من الجهود، من البحوث الأساسية والتطبيقية إلى العرض الميداني والتحقق من الصحة.
جامعة رايس
بينما ما يزال “محمد عطية” موظفا فيدراليًا يعمل مع وكالة حماية البيئة الأمريكية، فإنه تحمس لتعيينه أستاذًا مساعدًا بدوام مؤقت في يناير 2023 بقسم الهندسة الكيميائية والجزيئية الحيوية بجامعة رايس في هيوستن بولاية تكساس.
الملوثات الدقيقة
مجال عمل “محمد عطية” هو معالجة المياه من الملوثات الدقيقة أو الملوثات المستحدثة وهي ملوثات كانت موجودة من قبل ولم تُكتشف إلا حديثًا أو ملوثات صناعة بسبب مخلفات التطور الصناعي. و في طوكيو كان يعمل على المبيدات أو المركبات الصيدلانية وأنواع الملوثات التي كان مركزًا عليها. لكن عندما انتقل إلى أمريكا وجد الفلوروكربون وأشياء لم يسمع عنها من قبل.
المواد الأبدية
أصبح “محمد عطية” مشهورًا في أمريكا والعالم في مجال الفلوروكربون الذي لم يكن يعلم عنه شيئًا. وهي مواد موجودة في كل شيء في حياتنا، تستخدم في الحلل التيفال، وهي مواد طاردة للمياه والزيت، فيتم استخدامها في الأسطح والجواكت الطاردة للماء، والرش على الموكيت حتى لا يتعرض للاتساخ، كما لها خصائص حرارية ويصعب تكسيرها، وتستخدم في الفوم لإخماد الحرائق، وأسطح المراكب الفضائية والصورايخ لأنها تتحمل الحرارة العالية، وموجودة في كل الإلكترونيات لخصائصها في العزل، وهي عائلة من 10 آلاف مركب.
كل هذه المزايا الصناعية تسببت في ثمن فادح مع الآثار الصحية والبيئية المصاحبة لها، فهي مركبات من صنع الإنسان، لذلك تسمى مركبات أبدية ويصعب تكسيرها أو تجزئتها، ومعالجتها صعبة وهو ما يعمل عليه “عطية” اليوم بشكل أساسي.
في السنوات الأخيرة، ضغطت مجموعات وجمعيات حماية المستهلك وحماية البيئة ضد الاستخدام التجاري لعائلة من المواد الكيميائية تسمى PFAS. واستجابت العلامات التجارية والشركات المصنعة في صناعة الملابس العالمية لاتخاذ قرار التوقف عن استخدام المادة خاصة بعد رفع دعاوى قضائية للمطالبة بتعويضات لثبوت أضرار تلك المواد الصحية والبيئية.
يعمل “عطية” أيضًا على معالجة جزيئات البلاستيك الدقيقة وهي من المشكلات العالمية، كما يحاول تحسين جودة المياه وإيجاد طرق جديدة لمعالجتها ووصل إلى تطوير طرق جديدة بالفعل لكنها تقنيات لم تُطرح في السوق ويقتصر استخدامها حاليًا على المعامل ونتائجها تبشر بحل المشكلة لكنها لا تزال في مرحلة التقييم والتجربة على نطاق أوسع وأصبح لدى فريقه البحثي الحالي تعاونات بحثية كبيرة.
ورم كبير في البطن
بينما يعيش “محمد عطية” في هذه الحياة المليئة بالعمل الجاد، والبحث عن كل جديد، والرغبة في البحث والتطوير بين المعامل ومراكز الأبحاث، اكتشف وجود (كلكيعة) في منطقة البطن. ذهب إلى الطبيب، فطلب منه عمل بعض الفحوصات وبعد عدة أيام وجد اتصالا من مركز السرطان بجوار جامعته يخبرونه باكتشاف وجود ورم كبير في منطقة البطن، وأنهم متخوفون من وجود سرطان.
وصلته المكالمة بينما كان يعمل على أحد الأبحاث، فغيمت الدنيا واسودت في وجهه فجأة، وظل لمدة أربعة أشهر في دوامة كبيرة. يخبرني أن حجم الورم كان عبارة عن 10 سنتيمترات في 10 سنتيمترات. هنا قرر النزول في زيارة إلى مصر وبعد العودة ودون أن يخبر أحدًا، أجرى جراحة ترتب عليها فتح جرح بطول 40 سنتيمتر في بطنه لاستئصال الورم. وبعد تحليل العينة تم التأكد من أنه ورم حميد الحمد لله. وتعافى حاليًا وعاد لممارسة حياته بشكل طبيعي. لكن الأطباء اكتشفوا أنه ورم نادر الحدوث ويستحق منه المتابعة والفحص بانتظام.
التكريم الذي لم يأت
رغم هذا الكابوس الذي داهمه فجأة إلا أنه ورغم قلقه وتعبه، كان حريصًا في زيارته الأخيرة إلى مصر على لقاء المسؤولين. منهم وزير الري المصري الحالي الدكتور هاني سويلم، ودائمًا ما يتطوع “عطية” لإلقاء المحاضرات في مصر كلما سنحت له الفرصة، كما يتطوع في مؤسسة علماء مصر. ورغم كل هذا وحتى يومنا هذا ورغم نجاحاته الكبيرة لكنه لم يحظ بأي تكريم من دولته التي يحتفظ بجنسيتها دون غيرها حتى اليوم. أتمنى أن يأتي اليوم الذي تتم فيه دعوته للاستفادة من خبراته الكبيرة في مجال معالجة المياه بشكل عملي، وفي غيرها من المجالات الجديدة والأبحاث التي يعمل عليها خاصة في ظل الشح المائي والكارثة الكبرى في سد النهضة.
نموذج العالم المصري الكبير “محمد عطية” هو نموذج يدعو للفخر، نموذج يجمع بين العلم والبساطة والتواضع والجدعنة، ابن البلد الصنايعي اللبق الذي اكتسب في حياته خبراته لم يكتسبها أحد، ولم يترك فرصة ولا باباً إلا فتحه. أتوقع له نجاحًا أكبر وأن تصنع أبحاثه تغييرًا كبيرًا في هذا الكوكب. ختامًا أتمنى أن أكون قدمت نموذجًا تدرسه مصر لطلابها في مناهجها الدراسية.