كتب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون براون قبل نحو شهر مقال رأي في إحدى الصحف نبه فيه إلى أن “الانجراف نحو اليمين في السياسة الأوروبية سيتحول إلى موجة مد عارمة” مع قدوم شهر يونيو (حزيران).
هذا التوقع يعكس الرأي الذي ساد بين عدد من المعلقين والأكاديميين في العاصمة البريطانية لندن في وقت سابق من هذه السنة، والذين رجحوا أن تفضي انتخابات البرلمان الأوروبي هذا الأسبوع إلى تحول كبير في المشهد السياسي الأوروبي.
لكن هل توقعات هؤلاء هي في مكانها؟
لا شك أن انحسار الأحزاب اليسارية التي كانت متجذرة في مجتمعات الطبقة العاملة والنقابات الصناعية الأوروبية في القرن الـ20 خلف وراءه فراغاً سياسياً، وقد قامت بملء ذلك الفراغ الحركات التي تدعو إلى إغلاق الحدود الوطنية أمام العمال الأجانب واعتماد الحمائية في وجه السلع التي تقوض الإنتاج الوطني والتراجع عن السياسات الخضراء التي تؤثر في وضع المزارعين والعمال الذين يتلقون الحد الأدنى من الأجور.
إلا أن اليمين الجديد أصبح في حال سيئة ومنقسماً على نفسه كما اليسار القديم، وهو يجد صعوبات في التخلص من إرث ماضيه. فعلى سبيل المثال تأسس حزب “إخوان إيطاليا” Brothers of Italy بقيادة جورجيا ميلوني على خلفية أيديولوجية مرتبطة بفاشية بينيتو موسوليني. واليوم، تباع تماثيل نصفية للزعيم الإيطالي الفاشي السابق (الدوتشي) علناً في المهرجانات الصيفية في البلديات التي يسيطر عليها اليمين المتطرف في إيطاليا.
وفي فرنسا طالبت السياسية اليمينية مارين لوبن بطرد حزب “البديل من أجل ألمانيا” Alternative fur Deutschland (AfD) من مجموعة البرلمان الأوروبي، بعدما ادعى المرشح الرئيس للحزب في انتخابات البرلمان الأوروبي أن “القوى الخاصة” SS التي كانت تابعة للزعيم النازي أدولف هتلر لم تكن مجرمة. وواجه حزب “البديل من أجل ألمانيا” أخيراً انتكاسة سياسية، بعدما انخفضت حصته من الأصوات في انتخابات مقاطعة تورينجيا الألمانية، التي فاز بها حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” Christian Democratic Union (CDU) .
خلال مناظرة على التلفزيون الفرنسي هذا الأسبوع في الرابع من يونيو (حزيران) واجه جوردان بارديلا العضو البارز في البرلمان الأوروبي عن حزب لوبان، والذي يبلغ من العمر 28 سنة انتقادات لرفضه تقديم أي دعم لأوكرانيا ومعارضته تزويد الاتحاد الأوروبي كييف بأسلحة.
ويصنف عدد من الألمان حزب “البديل من أجل ألمانيا” على أنه من “النازيين الجدد”، وهو ما يتناقض مع المصطلح الأكثر اعتدالاً “اليمين الراديكالي” الذي يستخدمه غالباً الأكاديميون الذين يكتبون بالإنجليزية.
أما “الحزب الهولندي من أجل الحرية” Dutch Party for Freedom بزعامة غيرت فيلدرز فهو معاد بشدة للإسلام ويدعو إلى إجراء تخفيضات جذرية في إنفاق الاتحاد الأوروبي. وقد بلغ به الأمر أن علق علناً دبوساً مؤيداً لروسيا على سترته. وقام أخيراً بتشكيل ائتلاف مع ثلاثة أحزاب هولندية أخرى بما فيها حزب رئيس الوزراء المنتهية ولايته مارك روته الذي ترشح لمنصب الأمين العام لـ”حلف شمال الأطلسي” (ناتو).
وينتمي حزب روته إلى “اتحاد الأحزاب الليبرالية الأوروبية” European Confederation of Liberal Parties، الذي يضم حزب “الديمقراطيين الأحرار” في بريطانيا. ويشعر كثر ضمن هذا الائتلاف بغضب إزاء التعاون بين روته وفيلدرز العنصري والمناهض للاتحاد الأوروبي.
ويقود فيلدرز حزباً يضم عضواً واحداً: شخصه. ويدعو برنامج حكومته إلى تخفيضات كبيرة في مساعدات الاتحاد الأوروبي للمزارعين، ويعارض تطبيق المزيد من سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بمواجهة تغير المناخ.
إلا أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب إجماعاً في مجلس الاتحاد الأوروبي. واللافت أن مجموعة من الشخصيات مثل مارين لوبن وجورجيا ميلوني ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ورئيس وزراء سلوفاكيا اليميني روبرت فيكو، الذي يتعافى في الوقت الراهن من إصابته بطلق ناري، تطالب بزيادة المساعدات من الاتحاد الأوروبي لتأمين الدعم السياسي لها وإعادة انتخابها.
في بولندا، يبدي حزب “القانون والعدالة” Prawo i Sprawiedliwość (PiS) – القومي المناهض للمرأة، والذي خسر السلطة أخيراً في البلاد – اعتراضاً شديداً على فكرة انضمام حزب فيكتور أوربان المجري المؤيد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى “اتحاد المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين” European Conservatives and Reformists Federation الذي أنشأه ديفيد كاميرون وحزب “القانون والعدالة” في عام 2009.
وفي الوقت نفسه، تقول مارين لوبن التي أصبحت الآن جدة وتتولى الاعتناء بوالدها جان ماري لوبان المعادي للسامية، والذي بلغ من العمر 96 سنة هذا الشهر، إنها وميلوني في إيطاليا يمكنهما تأسيس تجمع سياسي أوروبي موحد جديد من اليمين المتشدد.
لكن قادة حزب “القانون والعدالة” في بولندا يشعرون بقلق خاص في ما يتعلق بانخراط شخصيات يمينية مثل أوربان وفيكو – اللذين ينظر إليهما على أنهما يشكلان طابوراً خامساً لبوتين داخل الاتحاد الأوروبي – في ائتلاف سياسي أوروبي يميني متطرف محتمل بقيادة لوبان وميلوني”.
ويواجه حزب مارين لوبن في الوقت الراهن تحدياً على يمينه يتمثل في حزب “استرداد” [الفتح الجديد] Reconquête المعادي للمسلمين، الذي يتزعمه إيريك زيمور، تماماً كحزب “المحافظين” في المملكة المتحدة الذي يقف على يمينه حزب “الإصلاح” Reform المعادي للإسلام.
زيمور الذي قال “أحلم ببوتين فرنسي” ألقى أخيراً كلمة أمام تجمع في بروكسل نظمه فيكتور أوربان بحضور كل من سويلا برافرمان وزيرة الداخلية البريطانية السابقة ونايجل فاراج زعيم حزب “الإصلاح” في المملكة المتحدة والأكاديمي الإنجليزي ماثيو غودوين، وهو أحد دعاة اليمين المتطرف.
في المقابل ينقسم زعماء اليمين في الاتحاد الأوروبي على مسائل الأيديولوجية ووجهات النظر الجيوسياسية واختلافاتهم الشخصية.
فجورجيا ميلوني تكن كراهية شخصية قوية لمنافسها المعارض ماتيو سالفيني من حزب “ليغا” [رابطة الشمال] Lega المؤيد لبوتين والمناهض للمهاجرين إلى حد يجعلها تجد صعوبة في أن توجد معه في البلد نفسه، ناهيك بالتفكير في التعاون معه ضمن حكومة واحدة.
ويشهد حزب سالفيني تراجعاً في دعم الشركات له، خصوصاً أن القطاع الخاص في إيطاليا يحتاج إلى عمال جدد، في وقت انخفضت فيه معدلات الولادات بين النساء الإيطاليات ليبقى المهاجرون هم الملاذ الوحيد.
من هنا يمكن القول إنه في أعقاب انتخابات البرلمان الأوروبي في التاسع من يونيو (حزيران)، ستكون هناك بالفعل زيادة في عدد أعضاء البرلمان الأوروبي من اليمينيين، إلا أن هذه الزيادة تأتي غالباً من الأصوات الاحتجاجية لأحزاب كـ”حزب استقلال المملكة المتحدة” UK Independence Party، التي لا تخولها في العادة شغل مقاعد داخل الحكومة. ومع ذلك، تواجه هذه الكتلة اليمينية الناشئة فعلاً انقسامات داخلية وصراعات شخصية.
ومن المتوقع أن تحتفظ الأحزاب الرئيسة بغالبية كبيرة بنسبة ثلاثة إلى واحد على اليمين المتطرف. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة في إسبانيا إلى أن حزبي اليسار ويمين الوسط المهيمنين على المقاعد، هما على وشك الحصول على ثلثي المقاعد الإسبانية في البرلمان الأوروبي، البالغ عددها 61 مقعداً. أما حزب “فوكس” VOX – الذي يشعر بحنين إلى عصر الديكتاتور الإسباني فرانثيسكو فرانكو، والذي نظم أخيراً مؤتمراً لليمين المتطرف في مدريد تضمن خطابين لميلوني ولوبان – فالتوقعات له تشير إلى أنه لن يفوز إلا بـ6 مقاعد.
لكن التقرب من اليمين المتطرف، كما يسعى بعض “المحافظين” إلى القيام به، قد يأتي على حساب رئيسة “المفوضية الأوروبية” أورسولا فون دير لاين. فقد أعربت بصورة غير حكيمة عن انفتاحها على العمل مع جورجيا ميلوني التي تناقش تشكيل يمين أوروبي جديد.
ومن المؤكد أن هذا الموقف سيثير غضب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي من المتوقع أن يحصل حزبه الذي تأسس في عام 2017، على نصف عدد الأصوات التي سيحصدها حزب “التجمع الوطني” National Rally اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبن.
أما ماكرون فمنزعج من أن فون دير لاين تعطي صدقية لجورجيا ميلوني ولمارين لوبن التي تشاركها الأفكار والأهداف في ما يتعلق بالعنصرية واليمين المتطرف في الاتحاد الأوروبي.
يشار إلى أن السلطة النهائية تقع في أيدي رؤساء الحكومات لجهة تعيين المسؤولين في المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي، كما توقيع جميع تشريعات الاتحاد. بالتالي، فإن زيادة أصوات لوبن لن تؤثر بصورة كبيرة في المشهد السياسي يوم الإثنين في الـ10 من يونيو (حزيران)، أو في الأشهر التالية، لكن كثيرين في فرنسا يعدون أن الأداء القوي لمارين لوبن يوم الأحد، سيكون مؤشراً إلى نجاحها المحتمل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة في السنة 2027، خصوصاً أن الرئيس ماكرون لن يكون مؤهلاً للترشح.
مع ذلك، من غير المرجح أن يرغب ماكرون في ترك إرث له باعتباره الزعيم الذي سهل صعود حكومة على طراز الثلاثينيات. وقد تدفع الإشارات الودية من جانب فون دير لاين نحو اليمين المتطرف بالرئيس الفرنسي، إلى التفكير في الاستعانة بماريو دراغي السياسي الإيطالي التكنوقراطي، الذي اشتهر بدوره رئيساً لـ”البنك المركزي الأوروبي” European Central Bank خلال الأزمة المالية في عام 2008 – 2009، ما أكسبه صفة “الرجل الذي أنقذ اليورو”.
في غضون ذلك، يبدو أن حكومة أكثر حكمة وذات ذهنية إصلاحية هي قيد التشكل في بريطانيا، وسط مسعى الخروج البريطاني الفاشل من الاتحاد الأوروبي الذي قادته سياسات حزب “المحافظين” المناهضة لأوروبا، والذي استهلك 5 رؤساء وزراء.
وتبدو السياسة الأوروبية عرضة للانقسام [والتشظي]، خصوصاً على مستوى اليسار لكن بصورة أكبر على مستوى جناح اليمين، وهو ما يذكر بما حدث في بريطانيا، إذ يتنافس “المحافظون” مع نسخة محلية عن النمط الأوروبي المتسم بكره الأجانب ومعاداة الإسلام، وهو حزب “الإصلاح”.
يبقى القول إن اليمين المتطرف الجديد غير المرغوب به، والذي يخشاه بشدة غوردون براون، سيتخبط في نهاية المطاف في موجة من المنافسات والعداوات الداخلية، لكن من غير المحتمل أن يكون ذلك بمثابة عودة إلى ما شهدناه في ثلاثينيات القرن الماضي.