لا تزال قضية الصحراء الغربية تشكل أحد أبرز النزاعات الإقليمية التي تتشابك فيها المصالح الدولية، بما في ذلك المصالح الأمريكية. وبالنظر إلى التحولات الجيوسياسية في المنطقة، يبدو أن الإدارة الأمريكية تواجه تحديًا معقدًا في كيفية إدارة هذا الملف، حيث تسعى للحفاظ على توازن دقيق بين دعمها لمبادئ التسوية السلمية والنظر في المصالح الاستراتيجية التي تربطها بدول المنطقة، المغرب والجزائر على وجه الخصوص.
منذ اعتراف الإدارة الأمريكية السابقة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في إطار اتفاقات “أبراهام”، ظهرت تحديات جديدة تعيد طرح أسئلة حول جدوى هذا الموقف في ظل توازن القوى الإقليمي. تتطلب التغيرات الجيوسياسية في إفريقيا من واشنطن نهجاً أكثر براغماتية للحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع كل من المغرب والجزائر، البلدين اللذين يمتلكان أدواراً محورية في المنطقة.
الديناميكيات الجديدة في إفريقيا
تُعد إفريقيا اليوم ساحة صراع نفوذ بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. الصين عززت حضورها الاقتصادي في القارة عبر مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الضخمة، بينما كثفت روسيا من وجودها العسكري والدبلوماسي، خاصة من خلال مجموعات مثل “فاغنر” وعلاقاتها مع الأنظمة العسكرية في دول الساحل الإفريقي.
في هذا الإطار، تواجه واشنطن تحدي الحفاظ على نفوذها التقليدي في المنطقة. الدول الإفريقية أصبحت أكثر انفتاحاً على تنويع شراكاتها الاستراتيجية، مما يفرض على الولايات المتحدة اعتماد مقاربات جديدة تأخذ بعين الاعتبار هذه الديناميكيات.
التحديات القائمة بين الجزائر والمغرب
أحد أبرز انعكاسات هذا النزاع هو إغلاق أنبوب الغاز الجزائري الذي يمر عبر المغرب إلى إسبانيا، وهو ما أثر على تدفق الغاز الطبيعي إلى أوروبا في وقت تعاني فيه القارة من أزمة طاقة حادة نتيجة الحرب في أوكرانيا.
تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي في شمال إفريقيا والساحل. ومن بين الأولويات الأمريكية:
- ضمان إمدادات الطاقة: تعتبر أوروبا شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، وأي اضطراب في تدفق الطاقة إلى القارة قد يؤثر على المصالح الأمريكية.
- مشروع خط الغاز النيجيري-الأوروبي: تسعى الولايات المتحدة لدعم مشروع نقل الغاز من نيجيريا عبر الجزائر إلى أوروبا، كبديل استراتيجي للغاز الروسي. هذا المشروع يعتمد بشكل كبير على استقرار العلاقات الجزائرية المغربية، حيث قد يمر جزء من البنية التحتية عبر الأراضي المغربية.
- مواجهة النفوذ الروسي والصيني: تحاول واشنطن تقليص النفوذ الروسي والصيني في شمال إفريقيا، وهو ما يتطلب تعزيز التحالفات مع الدول الإقليمية الكبرى مثل الجزائر والمغرب.
قضية الصحراء الغربية: عامل التوازن الاستراتيجي
تُعد قضية الصحراء الغربية ملفاً حساساً يؤثر بشكل كبير على العلاقات بين المغرب والجزائر، وهما دولتان لهما وزن استراتيجي كبير في شمال إفريقيا. المغرب يُعتبر حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة، بينما تُعد الجزائر شريكاً مهماً، خاصة في قضايا مكافحة الإرهاب وأمن الطاقة.
الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية جاء في سياق اتفاقات “أبراهام” التي هدفت إلى تعزيز تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية. ولكن مع تصاعد التوترات في المنطقة وتغير الأولويات الاستراتيجية، قد تجد الإدارة الأمريكية الحالية نفسها مضطرة لإعادة تقييم هذا الموقف.
إعادة النظر في هذا الملف قد تكون خطوة استراتيجية تتيح لواشنطن تحسين علاقاتها مع الجزائر، التي تُعد منافساً إقليمياً قوياً للمغرب وتتمتع بعلاقات تاريخية مع روسيا. في الوقت نفسه، يتطلب هذا التوازن الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع المغرب، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب والتعاون الاقتصادي.
النهج الأمريكي المتوقع
من المتوقع أن تتبنى الإدارة الأمريكية مقاربة متعددة الأبعاد تأخذ بعين الاعتبار:
- تعزيز الحوار الإقليمي: دعم مبادرات الوساطة بين المغرب والجزائر لحلحلة النزاع في الصحراء الغربية بما يضمن مصالح جميع الأطراف.
- توظيف الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية: تقديم مبادرات اقتصادية تُشجع على التعاون الإقليمي، بما يسهم في تعزيز الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل.
- تقليل الاعتماد على الحلول الأحادية: الامتناع عن اتخاذ مواقف أحادية الجانب قد تؤدي إلى تفاقم التوترات، والتركيز بدلاً من ذلك على دور الأمم المتحدة في إيجاد حل سياسي دائم.
إن إعادة تقييم الموقف الأمريكي من قضية الصحراء الغربية ليست مجرد مراجعة لسياسة محددة، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في إفريقيا في مواجهة النفوذ الصيني والروسي. الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في العلاقات مع المغرب والجزائر سيكون مفتاح النجاح في هذه المهمة. وفي ظل التحديات الجيوسياسية الراهنة، ستحتاج واشنطن إلى تبني نهج مرن وبراغماتي يراعي الديناميكيات الجديدة التي تفرضها التحولات في منطقة الساحل الإفريقي.