ماذا يعني تحسن الجدارة الائتمانية لتونس
خطر حدوث صدمة اقتصادية في الأمد القريب بات أمرا مستبعدا اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغم الصعوبات المتنوعة
سجلت تونس نقطة مهمة في مرمى منتقدي سياساتها الإصلاحية عندما منحت وكالة فيتش ثقتها في الجدارة الائتمانية للبلاد، برفعها التصنيف من سي.سي.سي- إلى سي.سي.سي+ بفضل الإدارة الفعّالة للديون وفوائدها، التي كانت ضرورية في مسار الانضباط المالي لإعطاء الاقتصاد المنهك جرعة تفاؤل بأنه يمكن إنعاشه رغم ديناميكيات النمو الضعيفة والصدمات الخارجية المتتالية.
لكن ماذا يعني لنا تحسن الجدارة الائتمانية لتونس في هذا التوقيت؟
دون الإفراط في التفاؤل ليس من باب الصدفة حصول تونس على هذه الدرجة، رغم أنها ضعيفة في سلم التصنيف الخاص بفيتش، في ظل ظروف داخلية تتسم ببطء شديد في النمو، وتآكل القدرة الشرائية نتيجة التضخم، وتأثير تشديد السياسات النقدية، وعجز مالي كبير في الميزانية، والمخاوف من انفجار فقاعة الديون التي تعد تحديا كبيرا، ما قد يعيد الدولة إلى المربع الأول في أزمتها المزمنة، لكن هذا قد يشجع وكالات تصنيف دولية أخرى على الحذو حذو فيتش في إصدار تصنيفات إيجابية على عن حالة الاقتصاد التونسي.
عادة ما تتطلب إدارة الديون الناجحة توازنا دقيقا بين الاقتراض والاستثمار، وإصلاحات هيكلية لتحسين الكفاءة ونمو الناتج الإجمالي، فعندما يتحسن التصنيف نتيجة ترميم فوضى سنوات من سوء إدارة الدولة مما أدى إلى تفاقم الأزمات وتشعبها، فإن ذلك يشير إلى أن الوضع المالي والاقتصادي للبلاد قد تحسن، مما يجعل السلطات أكثر قدرة على الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية، والأهم أنه إشارة مهمة بالنسبة للمستثمرين الذين يتطلعون إلى السوق التونسية في خضم وضع عالمي كئيب.
في الواقع، وبحسب ما لوحظ في الأشهر الأخيرة كان تصنيف فيتش متوقعا، لعدة أسباب، رغم التحديات الكثيرة، منها أن الدولة اتخذت مسارا تتجنب فيه برنامج صندوق النقد الدولي عبر الاعتماد على الذات مهما كانت التكاليف من خلال أدوات كان ينظر لها على أنها محفوفة بالمخاطر مثل الاقتراض من البنوك المحلية أو حتى اللجوء بشكل نادر للاقتراض من البنك المركزي بفائدة صفرية. ولعل ما يدعم هذا الافتراض أن وكالة ستاندرد آند بورز رفعت تصنيف عدة بنوك محلية خلال الربع الثاني من 2024.
اللافت في التصنيف الأخير أن خبراء فيتش تفاجأوا بتحسن قدرة تونس على تلبية التزامات الديون الخارجية للعامين الحالي والمقبل، مع انخفاض عجز الحساب الجاري، مما عزز الاحتياطي النقدي بما يتجاوز التوقعات السابقة للوكالة. والآن يرون أن تلك الاحتياطيات التي تبلغ قرابة 8.42 مليار دولار، ستظل أعلى من ثلاثة أشهر من المدفوعات الخارجية الحالية حتى عام 2026.
من شأن هذا أن يمكّن الحكومة التونسية من الاستمرار في خدمة التزامات الدين العام، الذي سيبلغ 80 في المئة من الناتج المحلي، على نحو مستقر، بدعم من التدفقات المستمرة من التمويل الخارجي، رغم غياب برنامج صندوق النقد المرفوض من قبل السلطات كونه يتضمن شروطا مجحفة لا تحظى بشعبية، حيث لديها سندات مقومة باليورو بقيمة مليار دولار تستحق في شهر يناير المقبل وسندات يورو بقيمة 700 مليون يورو تستحق في يوليو 2026.
خلال الأشهر الثمانية عشر حتى أبريل الماضي، سددت الحكومة ديونا وسط خيارات تمويل مقيدة وبيئة اقتصادية معاكسة. ففي فبراير الماضي، بعد حصولها على قرض من البنك المركزي بقيمة 7 مليارات دولار (نحو 2.29 مليار دولار) سددت سندات دولية بقيمة 850 مليون يورو، مما خفف المخاوف من تعثر البلاد في الالتزام بالقروض التي شكلت عبئا على ميزانية الدولة في ظل عجز مستمر وارتفاع آجال استحقاق الديون المحلية والخارجية طويلة الأجل، والتي تشكل 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024.
إلى جانب التسهيلات الائتمانية من مصادر مختلفة بقيمة 2.8 مليارات دولار خلال أول ثمانية أشهر من هذا العام، بما في ذلك الشركاء الثنائيين، الذين اشترطوا في البداية الحصول على التمويل بالموافقة على برنامج صندوق النقد، مثل البنك الدولي، أو الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المقرضة، أو حتى القطاع المصرفي بفضل نمو الودائع وضعف الطلب على القروض نتيجة الفائدة المرتفعة البالغة 8 في المئة، كان أحد الدوافع في رفع الجدارة الائتمانية، هو الملاءة المالية المتأتية بفضل الموسم السياحي القوي وتحويلات المغتربين.
إقرأ أيضا : المساعدات الإنسانية في غزة.. أشواك الاحتلال تعرقل الإغاثة
مع أن مسار الديون حساس للغاية بالنسبة لقيمة الدينار أمام الدولار أو اليورو، والصدمات المالية وسط التعرض الشديد لتقلبات أسعار السلع الأساسية الدولية، فقد حافظت تونس، على إدارة وتنظيم سوق الصرف الأجنبي الصارمة والاحتياطي النقدي المرن على استقرار سعر الصرف منذ العام 2022 وحتى الآن، وقياسا بعملات أخرى في منطقتنا العربية لم تتأثر العملة التونسية برياح التقلبات، مثل مصر وسوريا وليبيا واليمن والسودان، لكن على الدولة الحذر أكثر من أي مخاطر متوقعة قد تؤثر على الدينار.
بناء على ذلك كله، فإن خطر حدوث صدمة اقتصادية كلية في الأمد القريب بات أمرا مستبعدا اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغم الصعوبات المتنوعة، التي لا تزال جاثمة أمام صناع القرار السياسي والمالي والنقدي، خاصة وأن الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها البلاد بعد أسابيع من الآن والتوجه السياسي بعد هذا الاستحقاق المهم سوف يحددان المسار الاقتصادي الكلي المستقبلي للبلاد.