إذا وضعت سؤال العنوان، أو أحد شقيه، على أيِّ محرك بحث، عادي أو مدعم بالذكاء الاصطناعي، بالعربية أو بالإنغليزية، فستجد مئات النتائج المتطابقة تماماً أو بشكل جزئي، فهذا الموضوع يشغل الكوكب اليوم، وتنقسم الآراء في الإجابة، وتتراوح ما بين أقصى السلبية إلى أقصى الإيجابية، فالاستقطاب على أشدّه، داخل الولايات المتحدة نفسها، وفي مختلف أنحاء العالم. وأنصار كلا المرشحَين يحاولون الترويج لوجهة نظر تقول إن فوز المرشح الآخر سيعني خسارة كبيرة للأميركيين، وانتهاء أميركا المعروفة للجميع، بقوتها الخشنة والناعمة وحلمها الشهير وقيمها الديمقراطية والليبرالية التي لطالما تباهت بها على العالم. ورغم ذلك، لا ينال الشقُّ الثاني “ماذا لو فازت هاريس؟” نفس الرواج حيث أن الأغلبية يسألون “ماذا لو فاز ترامب؟”.
تتبادر إلى ذهني أفكار كثيرة عندما أحاول التفكير في الإجابة عن هذا السؤال، تبدأ من أمور بسيطة تتعلق بتاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، لتصل إلى قضايا عالمية شائكة وحروب وصراعات كلها ستتأثر. فمثلاً، على امتداد تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وبالتحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية فيها، لا يوجد إلا رئيس وحيد هو غروفر كليفلاند خسر محاولة إعادة انتخابه ثم عاد ليفوز من جديد، وبالتالي حكم البلاد لولايتين غير متتاليتين. كليفلاند الديمقراطي هو الرئيس الأميركي الثاني والعشرين، فاز بولايته الأولى –التي امتدت بين عامي 1885 و1889– بفارق ضئيل عن منافسه حينها جيمس جي. بلين. لكنه خسر الانتخابات التالية عام 1888 أمام بنيامين هاريسون رغم فوزه بالتصويت الشعبي. ثم ترشح كليفلاند مرة أخرى عام 1892 ونجح هذه المرة، وهزم هاريسون، وأصبح الرئيس الرابع والعشرين أيضاً، وبالتالي، صنع التاريخ باعتباره الرئيس الوحيد الذي سكن البيت الأبيض مُدّتين غير متتاليتين.
وقد حاول رؤساء آخرون اختبار حظِّهم بعد خسارة إعادة انتخابهم، لكن لم ينجح أيّ منهم في استعادة الرئاسة بعد الهزيمة، وتشمل الأمثلة البارزة يوليسيس غرانت وثيودور روزفلت. فهل يصنع ترامب تاريخاً جديداً ويكون أول جمهوري يفعلها، فيصير الرئيس الأميركي الخامس والأربعين والسابع والأربعين؟ هذا ما ستحدده الانتخابات في غضون أيام. تأتي الانتخابات الأميركية هذا العام والعالم يعيش حالة من التخبط والتوترات والصراعات الكبرى، ويلفّ الغموض وعدم اليقين مستقبله، ولم يعد هناك ما يمكن تسميته “مدى منظور أو سيناريو متوقع”، فكثير من بقاع العالم، وفي مقدمتها الشرق الأوسط، لا تعرف كيف سيكون شكلها أو خريطة النفوذ والقوى والفواعل فيها ولو بعد عام واحد لا أكثر.
تتصدر التوترات في المنطقة العربية المشهد، حيث تتصاعد حدّة الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، ويظل احتمال المواجهة الواسعة مع إيران قائماً -وإن كنت أراه مستبعداً. وفي الوقت نفسه، ما يزال العالم يشهد أزمة أوكرانية متصاعدة مع احتمال انضمام قوى جديدة مثل كوريا الشمالية، ما يهدد بتوسيع نطاق الصراع. وفي أفريقيا، تستمر حرب السودان في استنزاف الموارد البشرية والاقتصادية، أما إلى الشرق من آسيا، فالمخاوف في ازدياد دائماً من اندلاع مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والصين، على اعتبار أن ما يجري بينهما اليوم هو شكل من أشكال الحرب الباردة. ومن الطبيعي ضمن هذه الظروف كلها أن تعاني الولايات المتحدة من مستويات عالية جداً من الاستقطاب، قد يظنها البعض غير مسبوقة، لكن لم تكن كل الانتخابات الرئاسية الأميركية محسومة من قبل أن تبدأ، كانتخاب رونالد ريغان 1984، أو باراك أوباما 2008، فالمنافسة مثلاً بين جورج بوش الابن وآل غور عام 2000 استمرت حتى آخر لحظات عملية التصويت، ولم يُحسم اسم الفائز إلا في الدقائق الأخيرة، وكذلك الأمر في الجولتين الماضيتين (2016 و2020).
لا أكتب هنا للتنبؤ بمن سيكسب الانتخابات، ولا لأقول إن هذا المرشح أفضل من ذاك، وهذا وعوده أصدق وما إلى ذلك، فكل ما تتضمنه الحملات الانتخابية ليست إلا دعاية، ولا أظن أنه قد تم الالتزام بالوعود الانتخابية من قبل، إلا في ما ندر، وبما ساعدت فيه الظروف وتطلّبت أصلاً الالتزام به، لكن أريد هنا أن أناقش نمطين من السياسات الخارجية الأميركية، الأول بات السمة الغالبة على سياسات الديمقراطيين، والثاني هو العنصر الذي يجعل الجميع خائفاً ومرتاباً من وصول ترامب للمرة الثانية إلى البيت الأبيض.
إقرأ أيضا : دروس الأزمة الأوكرانية… أميركياً و«شرق أوسطياً»!
هذان النمطان هما السياسات الضبابية، مقابل السياسات اللامتوقعة. السنوات العشر الأخيرة من عمر الولايات المتحدة، وبالتحديد في ما يخص سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية، كفيلة بتوضيح الفارق الشديد بين نمطي السياسات هذين، وتأثيرات كلّ منهما على البلد المعني، وفي حالة أميركا -نتيجة لتأثيرها ومكانتها الكبرى- على العالم كله. وإذا كانت من سمة لسياسات الديمقراطيين زمن بايدن، وإلى حد ما زمن أوباما، فهي أنها ضبابية غير حاسمة، يسودها الغموض وعدم الوضوح، في محاولة إظهار نوع من حسن النية والتفوق الأخلاقي الليبرالي، وهو أقرب إلى السذاجة السياسية (وأنا أقارب الموضوع هنا بشكل موضوعي لا ذاتي، ومن منظور الأميركيين أنفسهم)، بخاصة وأن خصوم أميركا، وهم كُثُر بطبيعة الحال، وإن ادَّعوا مهادنتها والسعي للتقارب والعمل المشترك، إلا أنهم جاهزون دائماً للانقضاض، وللعمل في المساحات التي قد تخلّفها القرارات الضبابية وغير الواضحة. حتى بعض الحلفاء، عندما يغيب القرار الأميركي الحاسم والضابط للكل، يتحولون لانتهاج سياسات قد تكون عدائية أو انتقامية من الآخرين، أو بأحسن التقديرات “مصلحية”؛ أي يحققون من خلالها مصالحهم الخاصة على حساب دول أخرى، بما قد يزعزع الاستقرار ويهدد الأمن الإقليمي وربما العالمي.
ولدينا أمثلة كثيرة في مختلف البقاع على الخارطة تثبت أن سياسات أميركا “البايدنـية” شكّلت سلسلة من الإخفاقات وخيبات الأمل والأزمات على الصعيد العالمي، وخلقت مستويات عالية من الفوضى، والقائمون عليها هم الذين يتهمون ترامب دائماً بأنه وسياساته الصادمة يسببون الفوضى وعدم الاستقرار! ولا ينكر أحدٌ أن الغموض في السياسة قد يكون تكتيكاً دبلوماسياً مفيداً أحياناً، يسمح للدولة بالحفاظ على بعض المرونة في مواقفها، والتحرك ببراعة بين الخيارات المتاحة، فهذا صحيح..
لكن عندما يتحول الغموض والارتباك إلى سمة دائمة، سنجد أنفسنا أمام نتائج سلبية كثيرة ليس أسوأها فقدان الثقة من قبل الحلفاء والشركاء وتراجع العلاقات معهم، وخلق بيئة من عدم الاستقرار وعدم اليقين، تُعرقل أي عمل مشترك وتؤثر على الاقتصاد والاستثمارات المحلية والخارجية، ناهيك عن استغلال الأعداء لهذا النمط من السياسات لتحقيق مكاسب على حساب الدولة ذاتها، إذ من السهل جداً أن تبدو الضبابية وكأنها ضعف، حتى وإن صدرت عن الدولة الأقوى في العالم. حتى في زمن أوباما الذي يفخر به الديمقراطيون أيّما فخر، والذي اكتفى بـ “توبيخ” القوى المعادية للغرب في الخارج، بل ومهادنتها واسترضائها في أحيان كثيرة، بحلول العام الأخير من رئاسته، كانت الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وتنظيم “داعش” في أفضل حالاتها، تتمتع بشعور كبير بالقوة والقدرة على استهداف المصالح الأميركية الخارجية وفي الداخل أيضاً.
واليوم، ومع نهاية ولاية بايدن، ما تزال الحروب مندلعة دون أن يستطيع تهدئتها لا إيقافها، سواء كان من يقودها حليفاً لأميركا أو غريماً لها. بالمقابل، فإن إحدى أهم الملاحظات على سياسات ترامب الخارجية هو كونها “غير متوقعة” لا يمكن التنبؤ بها ولا استشرافها أو توقع نتائجها بسهولة، وكثيراً ما سمعنا تصريحات من قبيل “ماذا نفعل بحليف لا يمكن التنبؤ بما سيفعله؟”، إذ كثيراً ما يتم ربط السياسات الصادمة وغير المتوقعة بكونها ارتجالية وغير مدروسة وتفتقر إلى استراتيجية متماسكة طويلة الأجل. غالباً ما يتم تأطير عدم القدرة على التنبؤ بأفعال ترامب على مستوى السياسة الخارجية بأنه تعطيل للمعايير الدبلوماسية الراسخة، وكثيراً ما يأتي هذا الانتقاد أصلاً ممن ينتقدون الأساليب التقليدية نفسها ويطالبون دائماً بحلول مبتكرة للقضايا العالمية المعقدة، حتى لو كان ذلك مصحوباً بالمخاطر.
في مقابل ذلك أيضاً، يرى البعض إيجابيات في طبيعة ترامب غير المتوقعة في السياسة الخارجية، وذلك بحسبانها ميّزة استراتيجية تعطّل المعايير الدبلوماسية التقليدية وتُجبر الدول الأخرى على إعادة تقييم نهجها تجاه الولايات المتحدة. وقد أُعيد إحياء ما تُسمى “نظرية المجنون” إذا جاز التعبير، وهي استراتيجية تفاوض استخدمها أولاً ثعلب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، عندما كان وزير خارجية ريتشارد نيكسون، في المفاوضات مع فيتنام الشمالية، حيث كان يهدد المفاوضين الڤيتناميين بـ “المجنون في البيت الأبيض” ويقصد بذلك نيكسون، وبأنه -لولا تهدئته من قبل كيسنجر- لأَمَرَ بتسوية ڤيتنام كلها بالأرض. والمقصود هنا أن الزعيم “غير المتوقع” يمكن أن يكتسب نفوذاً في المفاوضات من خلال بثّ الخوف في نفوس الخصوم.
ويُعتقد أن هذا النهج يجعل التهديدات أكثر مصداقية، وقد يدفع المعارضين إلى إعادة النظر في تصرفاتهم بدافع الحذر. وضمن هذه السياقات كلها، تصبح الإجابة عن سؤال “ماذا لو فاز ترامب؟” مليئة بالتكهنات التي قد تصح تماماً وقد تُخطئ كلياً، لكن المؤكد فيها أمر واحد هو “التغيّر” وتحريك المياه الراكدة التي صارت آسنة حقاً وفي مختلف القضايا والملفات: قد يستمر نهج ترامب غير المتوقع في الهيمنة على سياسته الخارجية، وهو ما قد يؤدي إلى فرص ومخاطر. يزعم أنصاره أن هذا التقلب في السلوك يمكن أن يكون بمثابة أداة استراتيجية ضد خصوم مثل الصين وروسيا، ما يجبرهم على إعادة النظر في تصرفاتهم خشية ردود الفعل الأميركية.
وقد يؤدي أيضاً إلى تنفير الحلفاء التقليديين وتعطيل المعايير الدبلوماسية الراسخة. قد تعيد إدارة ترامب الثانية تقييم التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي والتحالفات الأخرى. وفي حين يتكهن البعض بأنه قد يسحب الدعم من حلف شمال الأطلسي أو يقلل من التدخل الأميركي في أوروبا، يقترح آخرون أن الإنفاق الدفاعي الأوروبي المتزايد والصراعات الجارية قد تُجبره على الحفاظ على هذه العلاقات أو حتى تعزيزها.
وقد تتغير ديناميكيات التحالفات العالمية بشكل كبير بناءً على قراراته. قد يواصل ترامب إعطاء الأولوية لسياسات “أميركا أولاً”، مع التركيز على الاتفاقيات الثنائية بدل الالتزامات المتعددة الأطراف. وقد يؤدي هذا إلى إعادة التفاوض على صفقات تجارية، وموقف أكثر عدوانية بشأن قضايا مثل الهجرة وأمن الحدود. وقد تسعى إدارته أيضاً إلى تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة بقوة، مستغلة مكانة الولايات المتحدة كمنتِج رائد للطاقة لممارسة النفوذ على الأسواق العالمية، وبخاصة في أوروبا. قد تدفع الصراعات الجارية في أوكرانيا والتوترات في آسيا ترامب إلى تبنّي موقف أكثر تدخلاً مما كان متوقعاً. وقد يدفعه المشهد الجيوسياسي المتطور إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً ضد روسيا، وقد كان واضحاً في هذا الشأن وصرح مراراً بأنه سينهي الحرب بالشكل الحالي ويصفي مسألة أوكرانيا. وعلى نحوٍ مماثل، قد يتأثر نهجه تجاه الصين بالظروف الاقتصادية والعلاقات التجارية.. وفي هذا السياق، يقول أحد السفراء الأوروبيين عن ترامب: “لا أستطيع أن أجزم ما إذا كان سيسعى إلى التوصل إلى اتفاق مع بوتين منذ اليوم الأول، أو ما إذا كان سيلقي قنبلة نووية على موسكو…
الحقيقة هي أنه صندوق أسود، وأي شخص يخبرك أنه يعرف ما يجري داخل إدارته يكذب”. والأمر ذاته ينطبق على منطقتنا، فنتائج فوزه اليوم تتوقف على مدى تمسّكه بنهجه وسياسته المتبعة خلال فترته الرئاسية السابقة تجاه منطقة الشرق الأوسط بملفاتها المعقدة والساخنة، مع الأخذ بالحسبان المستجدات المتعلقة بالتقارب السعودي الإيراني، فقد تبنّى ترامب سياسة قاسية تجاه إيران، فيما سعى لتوطيد علاقته بالمملكة، فهل سيستطيع الاستمرار في ذلك؟ بالمقابل، شهدت الفترة الرئاسية السابقة لترامب إحداث خروقات كبيرة في ملف المفاوضات بين العرب وإسرائيل، تُرجمت بعقد مجموعة من اتفاقيات السلام في المنطقة. فإذا تمكّن ترامب من ضم المملكة إلى تلك الاتفاقيات، فإنه سيقدّم فرصة كبرى للسلام الشامل، والذي قد يضمن للفلسطينيين حقوقهم، وينهي الصراع، ويضع حداً للحرب في سوريا، ويحدّ من نفوذ إيران.
بالمقابل، باستطاعة ترامب التهيئة لحرب كبرى من خلال الاستمرار في معاداة إيران والتضييق عليها، ما قد يدفع هذه الأخيرة إلى إشعال المنطقة ليس فقط بالاعتماد على وكلائها، ولكن بصورة مباشرة. إذن، فإن وصول ترامب إلى البيت الأبيض قد يحمل فُرصاً متساوية لتحقيق سلام شامل أو إشعال حرب كبرى، لكن من المؤكد أنه سيحرك الملفات الراكدة باتجاهٍ ما، ويسهم في توضيح صورة مستقبل المنطقة القريب على الأقل.
وعليه، وفيما تحاول الدول اليوم الإجابة عن سؤال “ماذا لو جاء ترامب”، إلا أنها في الحقيقة تُفاضل ما بين “السياسات المرتبكة وغير المفهومة” وبين “السياسات الصادمة وغير المتوقعة”، اختيار صعب حقاً بين أمرين أحلاهما مرٌّ، لكن من الجيد أن آراء العالم خارج الولايات المتحدة لا تقدم ولا تؤخر، وكل ما يستطيعون فعله في هذه الأثناء هو الانتظار ورؤية ما سيقرره 160 مليون ناخب أميركي مسجّل يوم الثلاثاء، في انتخابات لا يُبدي الكثيرون استعدادهم للدعوة إليها، ولكن معظم الناس يتفقون على أنها قد تصبح بسهولة الانتخابات الأكثر حسماً في العصر الحديث. من الطبيعي إذن أن تتساءل الأغلبية “ماذا لو جاء ترامب؟” فالإجابة موضوع يحتمل النقاش والتفكير وتمعن، أما سؤال “ماذا لو فازت هاريس؟” فالإجابة عليه ليست بهذه الدسامة أو الجدلية، لأنها لو فازت لن يتغير الكثير، ستكون فقط أول “رئيسة” للولايات المتحدة!