تكشف قضية شركة لافارج، عملاق الصناعات الإسمنتية في فرنسا، ومصنعها في سوريا، عن روح الرأسمالية المعولمة/ النيوليبرالية، والعمل ضد عالمية القوانين والتنظيمات الخاصة بحقوق العمال، و”مراعاة” الوضع القائم داخل “مساحة العمل”، في سبيل “الاستمرار في الإنتاج”، ولو كان ذلك يعني التنسيق وإدارة الأموال مع جماعات متشدّدة، وأخرى ترتكب جرائم ضد الإنسانية. لافارج، الشركة المعولمة، نزعت عن نفسها في سوريا صيغتها العابرة للحدود وما تحمله من قيم، ولعبت ضمن القواعد المحلية والعلاقات السياسيّة بهدف الربح.
يكشف اللاعبون في قضية لافارج في سوريا، عن صورة رجل الأعمال “الأبيض”، ورجل المغامرات جايكوب فيرنيس، الباحث عن الإثارة في مساحة خطرة، مستفيداً من عدته اللغوية وسطوة الشركة الماليّة في سبيل إنجاز العمل بالتعاون مع وسيط محليّ (فراس طلاس)، قادر على تفسير آليات العمل وتعديلها ضمن مساحة دولة فاسدة ومنهارة من جهة، وأخرى تحكمها فصائل مسلّحة.
حكاية لافارج في سوريا تكشف كيف ينفصل سيد العمل الآمن في مكتبه عن مساحة العمل (المصنع) المليئة لا فقط بالمخاطر المهنية، بل بالتهديدات بالخطف والقتل، كما نكتشف أيضاً كيف يتحول المصنع إلى مساحة معزولة عن السياسة، خارج سياق التاريخ الذي يقع خارج المصنع.
تبنت لافارج في سوريا أعراف الوضع القائم، لاستمرار “المصنع” ذي الـ600 مليون يورو، بوصفه الملكية الأهم، ولو كانت تحدث حوله ثورة، بصورة ما، مصنع لافارج في جباليا شمال سوريا، نموذج عن كيفية خلق فقاعة لا سياسية ضمن شروط شديدة السياسة.
أخبار كثيرة عن القضية متداولة، آخرها إعلان محكمة البداية الفرنسية إحالة شركة لافارج الفرنسيّة وعدد من مديريها ووسطائها في سوريا إلى المحكمة الجنائيّة، بتهمة “تمويل الإرهاب” بين عامَي 2012 و2015. أثار الخبر ضجة أعادت الشركة إلى الواجهة، وتزامن مع صدور كتاب “شخصية اعتباريّة-قضية لافارج في سوريا” لـجوستين أوجية.
نقرأ في كتاب أوجية عن تاريخ الشركة، التي يعود تأسيسها إلى عام 1833 وشاركت في بناء قناة السويس بأكثر من 100 ألف طن من الجير، ونتتبع تفاصيل القضية ضمن ما وصفته أوجية بـ”حكاية أدبيّة” تستند إلى الوثائق والمقابلات، إذ التقت بالمحاميات في منظمة شيربا الفرنسية (التي جهزت الدعوى ضد رفعت الأسد في فرنسا)، وعمال سابقين في مصنع لافارج، وتتبعت تفاصيل الحكاية المرعبة، التي تقارن الانتهاكات فيها بـما شهده “عمال بنغلادش في رانا بلازا” أو “الهنود الذين عملوا في مونديال قطر في شركة دافانشي”.
نحن أمام انتهاك لحقوق العمال و”كرامتهم الإنسانيّة” بصورة غير مسبوقة إلى حد مقارنة التهم الموجّهة الى لافارج بمحاكمات نورنبيرغ نهاية الحرب العالمية الثانية لإدانة القادة النازيين، لكن حينها، لم تحاكم شركات عرفت بعملها مع النازيين، بل أفراد وقادة فقط.
“أكبر معمل إسمنت في الشرق الأوسط”
بدأت لافارج بالعمل في سوريا منذ عام 2007 في سياسة الانفتاح على بشار الأسد بعد اغتيال رفيق الحريري، وافتتحت عام 2010 “أكبر معمل إسمنت في الشرق الأوسط” في جباليا، أو “اللامكان” حسب وصف مديري الشركة.
لعب سفير فرنسا في سوريا حينها دوراً في إتمام الصفقة وتحضير اللقاءات بين بشار الأسد والمدير العام للشركة آنذاك برونو لافونت، بحضور الوسيط السوري، واللاعب الأهم، فراس طلاس، ابن وزير الدفاع السوري السابق، الذي هرب من فرنسا نحو دبي قبل اعتقاله حين كُشفت القضية، والذي يملك 1 في المئة من المصنع في سوريا، والمتهم بنقل الأموال بين لافارج الفرنسية والجماعات المسلّحة في سوريا.
اللافت أن قضية لافارج ظهرت الى العلن عام 2016 في صحيفة الـ”لوموند” قبل رفع الدعوى، إذ نشرت الصحافية دورثي مريم كيلو تحقيقاً تحت عنوان “اللعبة الخطيرة للافارج في سوريا”. حينها، لم يكن مفهوم جرائم ضد الإنسانية حاضراً، واللافت أيضاً، أن دورثي سألت أصدقاءها السوريين في فرنسا عن نشاط الشركة قبل نشر التحقيق، فتجاهلوها بسبب اشتداد الثورة في سوريا وقمعها.
الواضح من تفاصيل ما قبل الفضيحة (حسب الكتاب)، غياب وعي كاف لدى السوريين بأن ما ترتكبه لافارج في سوريا، يرتقي إلى تمويل الإرهاب أو حتى جريمة ضد الإنسانية، أو ربما لأن العقوبات الأوروبية على سوريا، لا تشمل صناعة الإسمنت. وبعد أيام من نشر المقال رفعت الدعوى ضد شركة لافارج، المصنع في سوريا، برونو يشو، فريدريك جوليبوا وغيرهم، باسم 11 سورياً وصلوا إلى أوروبا هروباً، بعدما كانوا عمّالاً سابقين في المصنع.
“الأسد” داخل المصنع
مثّل المصنع الذي “لا مثيل له في الشرق الأوسط” قيمة اقتصادية مهمة، ناهيك بأنه ذو شروط عمل “فرنسيّة”، الغواية التي لا يمكن تجاهلها في بلد مثل سوريا، لكن مع اشتعال الثورة عام 2011، بدأ تهديد خط الإنتاج ووصول الموظفين إلى المصنع بسبب عمليات الخطف على الطريق.
المريع في الحكاية أن المراسلات داخل الشركة التي لا تشير أبداً لا إلى كلمة “ثورة” أو حرب”، بل يشار الى ما يحصل، للمفارقة، بكلمات كـ” الأحداث” و”المشاكل”، وحسب أحد العاملين هناك الذين التقتهم الكاتبة، كان على الجميع التصرف وكأن شيئاً لم يكن، و كأنه لا توجدّ ثورة في سوريا.
حُجبت مواقع الأخبار عن العمال، يصلهم فقط ما يرونه في الخارج، وتابعوا العمل لإنتاج 7 آلاف طن من الإسمنت كل يوم، بينما تزداد الفصائل تسلحاً وتشدداً مع مرور الوقت، وفي الوقت ذاته، استمرت الشركة بدفع الضرائب للنظام السوري لسنوات.
حاولت الشركة تحويل المصنع إلى مساحة خالية من السياسة، مساحة تتجاهل “الخارج” حيث “المخاطر الأشد”، ففي عام 2012 كانت هناك 3 حواجز للوصول إلى المصنع (النظام، المعارض، والحزب الكردي PYD)، وحينها تم تعيين مدير جديد للمصنع، ممدوح الخالد، الذي يضع صورة بشار الأسد فوق مكتبه، وبدأت عمليات الخطف على الحواجز، حينها رفضت الشركة بداية دفع الفدية لإطلاق سراح المخطوفين.
إقرأ أيضا : حسابات الأهداف الإسرائيلية ودور “حزب الله”
بدأت التقارير تصل عن مخاطر العمل إلى برونو بيشو، الرئيس التنفيذي للشركة في سوريا، فرفع شعار “استمرار الإنتاج هو الأولوية” واصفاً نفسه بـ” أنا بائع إسمنت، لا يهمني أبداً ما يحصل في سوريا”. تزامن هذا مع إغلاق السفارة الفرنسية في دمشق واقتحامها من مؤيدي بشار الأسد، حينها طلب بيشو تأمين خروج الموظفين “الأجانب” نحو تركيا، من دون أن يكون في قائمة الموظفين الذين يجب أن يغادروا أي سوري.
إذاً، نحن أمام مصنع بإدارة سورية، بينما الأجانب “بعيدون”، والشركة وجدت “حلاً” لـ”المشاكل” ولتجنّب الخطف على الحواجز، إذ صدرت تعميمات بأن الموظفين المسيحيين والعلويين ليسوا مجبرين على الدوام، ما يعني أن الباقين ازدادت ساعات عملهم وعليهم مواجهة خطر الطريق لوحدهم، ففضّل البعض البقاء في المصنع والامتناع عن العودة إلى المنزل.
بصورة ما نحن أمام نموذج مصغّر لسطوة المال، القادر على التكيف مع الوضع القائم، وتعميق الاستغلال، والانعزال عن الخارج المُشتعل، المصنع في تلك الفترة، أرض خارج سوريا وخارج فرنسا، هو “اللامكان” حيث لا قيمة سوى لـ”الجهد” بصورته الصرفة، كاستغلال بحت.
كلمة السر “لافارج”
تركت الشركة الموظفين عرضةً لخطر الخطف وشروط العمل التي لا تليق بالكرامة الإنسانيّة، ناهيك بأن رواتب الموظفين بدأت قيمتها تتلاشى مع التضخم في سوريا، إلى جانب الفصل الطائفي. طبقت لافارج قواعد الوضع القائم تحت نظام الأسد، ومن هذا الوضع نفسه يتحرك الفساد، والقدرة على تجاوز “الحواجز”، عبر رجل النظام حينها فراس طلاس.
خضع فراس طلاس، واجهة الشركة في سوريا، لاختبار فرنسي مع تزايد الحواجز، اقترح أنه قادر على تسيير الأمور، يتضح ذلك في مبلغ الـ75 ألف دولار التي كان يتقاضاها طلاس شهرياً من الشركة تحت اسم”أجور تمثيل” و “نفقات عملياتيّة”، وقد تصل إلى 100 ألف في حال “تعقدت الأمور”. وخط سير الأموال التي تُدفع نقداً كان عبر بيروت، هناك يأخذ أحدهم النقود نحو سوريا، وتوزع بصورة لا يعرفها أحد إلا طلاس، لكن أثرها يتضح عند حواجز المسلحين، فليمر باص الموظفين نحو المصنع، يكفي قول كلمة واحدة “لافارج”.
تفاصيل الاتفاق الذي قام به طلاس مع أعضاء الفصائل المسلّحة، نقرأها في كتاب جاكوب فيرنس (المدير المسؤول عن أمن المصنع وسلامته) والمجنّد السابق في الوحدات الخاصة والاستخبارات العامة النرويجية، والمتهم بالجاسوسية. ويظهر فيرنس في الكتاب الصادر عام 2020 الذي يحمل اسم “المصنع: العمل في منطقة حرب”، أشبه برجل مغامرات أجنبي أشقر يتحدى المصاعب لـ”العمل” في مكان بعيد، أو “اللامكان”، فسوريا أرض مرتع رجال الأمن والصحافيين الفضوليين وأصحاب الأعمال، المُتخيل الذي نتلمّسه في كتب بوليسية كـ” حرب بلا نهاية” للصحافي والكاتب الفرنسي جان بيير بيران.
ما يهمنا هو المشهد الذي تمت فيه الصفقة حسب فيرنس، إذ حضر طلاس ولمدة يومين عام 2012، الى أوتيل 5 نجوم في غازي عنتاب وفي قاعة المؤتمرات الباذخة “تحت سقف من الموزاييك”، مع فيرنس وجان- كلود ڤييار، المسؤول الأول عن الأمن والسلامة العامة في مجموعة لافارج، للقاء قادة الجماعات المسلحة المعتدلة في شمال سوريا “عدا واحدة”.
خلال يومين، أثبت طلاس قدرته على التحاور مع هذه الجماعات المعتدلة “عدا واحدة”، ويصف فيرنس هذا المشهد: “تحت سقف تركي مزين بالموزاييك، فراس وضع ممثلي الجماعات المعارضة العسكرية والسياسية في شمال سوريا”، كلاً منهم على “كنبة منفصلة في إحدى الزوايا”، ويصف بعدها كيف تنقلوا بين كل جماعة كي يعرّفوا عن أنفسهم ويطرحوا الأسئلة، إذ “كان الأمر أشبه بالمواعدة السريعة”.
حضر حينها جميل إدريس من “المجلس العسكري في منبج” وسعد وفائي من “المجلس السياسي في حلب” و”الناطق باسم الجيش الحر” لؤي المقداد، ممثلان من فصيلين من الجيش الحر “جيش الفتح” و”صقور الشهباء”. وصف فيرنس نتائج هذه اللقاءات بـ”الإيجابيّة” و”بداية علاقات جديدة في محيط المصنع”، حينها كان المصنع “تحت جناح الـجماعات الكردية واي بي جي، بي واي دي”.
إثر هذا الاجتماع، تمكنت الشركة من العمل لسنتين، لم تخلوا من خطف 9 موظفين، منهم علويون، هذه المرة دفعت لافارج الفدية (200 ألف دولار)، حسب وصف فيرنس، في منتصف الليل”وسط الصحراء” شرق قرة قوزاق (جيب تركي مستقل قرب حلب يحوي قبر سليمان شاه)، حيث دفعت الأموال بكيسين قمامة أسودين وزنهما 30 كيلوغراماً.
“الحواسب نظّفت بماء الجافيل”
وُضعت الدعوى أمام المحكمة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إثر شك في انتهاك العقوبات على سوريا، وتمويل الإرهاب، والمخاطرة بحياة الآخرين عمداً، وخلق شروط عمل لا تليق بالكرامة الإنسانيّة والمشاركة في جرائم ضد الإنسانية. عام 2017، صباح 14 تشرين الثاني، تمت مداهمة المتهمين في منازلهم وبينهم برونو لافرونت، وجان كلود فيارد، ومصادرة حواسيبهم وهواتفهم وتوقيفهم، وبعد البحث تبين أنهم حذفوا أي أثر عن سوريا، فـ” الحواسيب تم تنظيفها بماء الجافيل”.
قامت لافارج بتحقيق داخلي، ومن أبرز نتائجه أن كلمة “حرب” لا تذكر فيه ولا مرة، وتنكر فيه الشركة في باريس معرفتها بتفاصيل ما يحصل في سوريا، مع ذلك الاتهام الموجه إلى الشركة أنها مولت الجماعات المسلحة في سوريا، لكن تبقى المشكلة أنها محاكمة أفراد وليست شركة، أي كيان اعتباري، وفي القانون الدولي الجزائي، محكمة الكيانات الاعتبارية أقرب إلى الـ”متخيل القضائي” في حين أن القانون الفرنسي، وبسبب العدالة العالميّة يتيح ذلك، لكن المشكلة الثانية، هي إثبات أن داعش ارتكب جرائم ضد الإنسانية، وأن المال الذي صرف من لافارج، انتهى بيد الجماعة المتشددة.
اتُّهمت لافارج بـ”المشاركة في جرائم ضد الإنسانية” عام 2018، وهي سابقة تاريخيّة، واستُجوب سفير سوريا حينها، ولورانس فابيوس وبعض عناصر الأمن الفرنسي الذين كانوا في المصنع، كما وُقِّعت مذكرة بحث دولية بحق عمرو طالب، الذي كان الوسيط بين داعش ولافارج وفراس طلاس وجيكوب فيرنس وأحمد جلودي، وتبين لنيابة مكافحة الإرهاب في فرنسا أن الشركة دفعت نقوداً لكل من “أحرار الشام، جبهة النصرة، وداعش”، وهي تعلم أنها ستُستخدم في “أفعال إرهابية”، وقدّر القضاء أن الشركة دفعت بين ” 4.7 و7.9 مليون يورو” لداعش، ونهاية هذا العام، ستبدأ أولى جلسات المحاكمة.
حكاية لافارج في سوريا نموذج عن سطوة الرأسمالية في حالته المتوحشة، حيث صاحب العمل/ المالك، بعيد من مساحة العمل ذاتها، والاحتجاج ضده بلا فائدة، والمصنع أشبه بسجن مفروض فيه “العمل”، نحن أمام نموذج تكتسب فيه “الشركة” سلطة لا تتجاوز الدولة فقط، بل قادرة على التنسيق والتعاون مع الميليشيا والجماعة الإرهابية، في سبيل الحفاظ على “الربح”، و”استمرار العمل” حتى لو كان ذلك يعني المشاركة في جريمة ضد الإنسانيّة.