كيف ستسيطر الجزائر على السوق الأوربية للطاقة؟
إن الطاغي على النقاشات العالمية في مجال الطاقة هو حماية إمدادات الطاقة في مختلف أصقاع العالم، وإذا كان الغاز الجزائري هو الأكثر موثوقية من الناحية الأمنية، فإن العديد من الدول غير قادرة على حماية عمليات الاستخراج والنقل نظرا للتطورات الأمنية الواقعة
كان العالم يخطط للتخلي عن الطاقات الأحفورية في آفاق 2050، لكن الأزمة الروسية الاوكرانية أخلطت كل الأوراق وبددت كل الكلام الذي كان يدور حول التخلي عن النفط والغاز بشكل أقلّ بعد أن توقفت روسيا عن إمداد 140 مليار متر مكعب سنويا إلى أوروبا خاصة بعد التراجع العامّ عن الطاقة النووية بعد كارثة فوكوشيما باليابان في 2011، وهو ما جعل احتياطات الغاز الأوروبية تتراجع في شتاء 2023 إلى أقل من 60 بالمئة وارتفاع الأسعار فاق 10 مرات خاصة في دولة كألمانيا التي كانت تستورد 55 بالمئة من غازها من روسيا وذلك عقب تخريب خط نورد ستريم.
هذا الاختلال الذي عرفته السوق العالمية بخروج منتج واحد من السوق جعل الكل يتأكد أن التخلي عن الطاقة الأحفورية لا يتعدى أن يكون مشروعا مستحيلا تحقيقه في الأمد القريب والمتوسط، وكانت قمة الجزائر للدول المصدِّرة للغاز تؤكد حقيقة أن الغاز أصبح الطاقة الأكثر طلبا والأقل تلويثا للعالم والأقدر على ضمان ديمومة تموين المصانع الكبرى بالطاقة اللازمة للإنتاج.
وتأتي موثوقية هذه الطاقة لتعدد البدائل بتعدد المنتجين؛ فأعضاء القمة لوحدهم يسيطرون على 47 بالمئة من الصادرات العالمية عبر الأنابيب و40 بالمئة من الغاز المسوَّق، كما أنهم يملكون نحو 70 بالمئة من احتياطات العالم من الغاز. والأكيد أن القمة أكدت أحقية الدول المصدِّرة في حماية مصالحها مع الحرص على ضمان تزويد الأسواق العالمية بالغاز، كما أن تبادل الخبرات والتكنولوجيا بدوره سيكون أمرا حتميا بين هذه الدول، ويبقى حلم الجميع ربط أسعار عقود طويلة الأجل بالأسواق العاجلة فيكون جزء من سعر العقود ثابتا وجزء آخر مرتبطا بسعر البورصة، وهو الأمر الذي يبدو بعيد المنال لكنه حلمٌ قد يتحقق في يوم من الأيام.
إن الطاغي على النقاشات العالمية في مجال الطاقة هو حماية إمدادات الطاقة في مختلف أصقاع العالم، وإذا كان الغاز الجزائري هو الأكثر موثوقية من الناحية الأمنية، فإن العديد من الدول غير قادرة على حماية عمليات الاستخراج والنقل نظرا للتطورات الأمنية الواقعة، ويمكن الحديث عن بلدان كالعراق وليبيا والموزمبيق، كما أن الحرب على غزة ودخول اليمن على الخط جعل البحر الأحمر ممرّا غير آمن للشحنات البحرية.
إن من أهم النقاط التي تبقى محيرة والتي قد تكون محل نقاش هو تراجع العديد من العواصم العالمية عن الاستثمار في الغاز الإفريقي الذي يتمز بالاستقرار السياسي والأمني على غرار حالة الجزائر، والتوجه للتنقيب عن الغاز في مناطق متنازع عليها أو المناطق التي تشهد أزمات أمنية كبيرة، ما قد يعقِّد الخريطة الطاقوية العالمية مستقبلا خاصة بالنسبة للقارة العجوز التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الأمريكي والأسترالي الذي يصلها مميَّعا، وهو ما يرفع التكلفة ويزيد من إحتمال حصول نقص تموين السوق الأوروبية، ولعل قرار بايدن بوقف الصادرات الجديدة للغاز الطبيعي إلى أجل غير مسمى واحدٌ من القرارت التي تضر بالاقتصاد الاوروبي المتعطش للطاقة والتي لن يجد بديلا عن الغاز لسدها، وإن تطلب الأمر تخفيض البصمة الكربونية فيه، وهو الأمر الذي تعمل عليه جل الدول المصدِّرة للغاز.
تراجع الاكتشافات عالميا وإرتفاعها في الجزائر
كشفت التقارير الدولية وعلى رأسها تلك التي نقلتها “سي أن بي سي عربية” عن أن اكتشافات النفط والغاز تراجعت العام الماضي 2023 إلى مستوى قياسي متدنّ يبلغ 5 مليارات برميل، 40 بالمئة منها غازية والباقي نفطية، إذ هيمنت آسيا بـ32 بالمئة. إنّ 41 بالمئة من هذه الاكتشافات كانت في المياه العميقة للغاية وهو ما يجعل توقعات إرتفاع تكلفة التنقيب تزيد، فالإحصائيات تؤكد أن تكلفة التنقيب عن الغاز الطبيعي وصلت إلى 5.30 دولارا بعد أن كانت في حدود 2.60 دولارا في 2022، أما النفط فبلغ المتوسط إكتشاف البرميل 8.80 دولارا مقابل 3.50 دولارا في 2022.
في المقابل، حقّقت الجزائر وحدها 08 اكتشافات كبرى منذ جانفي 2024 في كل من بشار وعين صالح وإليزي وجانت وورقلة، إن الجزائر اليوم تنتج ما يعادل 137 مليار متر مكعب من الغاز تخصّص منها 50 مليار متر مكعب للاستهلاك الداخلي ونحو 56 إلى 60 مليار متر مكعب للصادرات، وتطمح الجزائر للوصول إلى 150 مليار متر مكعب في الأمد القصير، وذلك لسدّ حاجة السوق الأوروبية من الغاز، ولمَ لا الوصول إلى 200 مليار متر مكعب في الأمد المتوسط، كما أن حصة الجزائر من الصادرات النفطية تقارب المليون برميل يوميا وفق حصص أوبك+ التي عادة ما يتم مراجعتُها للمحافظة على استقرار سعر النفط في الأسواق العالمية.
إستراتيجية الجزائر لتطوير صادراتها الطاقوية
إن الجزائر اليوم لا تهدف إلى تصدير الغاز أو النفط فقط، بل تصدير تشكيلة من الطاقات إلى الأسواق العالمية خاصة الأوربية منها، وذلك لقرب المسافة وتراجع التكاليف، يضاف لذلك حاجة الأوروبيين إلى شريك موثوق كالجزائر.
إن الجزائر اليوم لا تهدف إلى تصدير الغاز أو النفط فقط، بل تصدير تشكيلة من الطاقات إلى الأسواق العالمية خاصة الأوربية منها، وذلك لقرب المسافة وتراجع التكاليف، يضاف لذلك حاجة الأوروبيين إلى شريك موثوق كالجزائر.
إن خطة الجزائر اليوم تقضي بتقليص حجم الإستهلاك المحلي من الطاقة، خاصة الكهربائية من خلال رفع مستوى الطاقات النظيفة في المزيج الطاقوي إلى 30 بالمئة في آفاق 2035 من خلال برنامج لإنتاج 15 ألف ميغاواط منها 3000 تم الشروع في إنجازها، وبلغت الجزائر مستوى إنتاج كهرباء وصل إلى 25 جيغاواط مع أن الإستهلاك المحلي لا يتجاوز عادة 17 إلى 18 جيغاواط ساعي (ذروة الاستهلاك بلغت 18.8 جيغاواط ساعي) وهو ما يمنحنا القدرة على تصدير ما بين 07 إلى 08 جيغاواط ساعي خلال السنة، مما يجعلنا نقول إن التخطيط لإنجاز كابل بحري لتصدير الكهرباء الجزائرية إلى أوروبا أصبح ضرورة وحتمية لا يمكن الفكاك منها، كما أن هذه الصادرات ستُحسب للجزائر في مزيج الطاقة المصدَّر، وهو ما سيقدِّم لأوروبا حلا عمليا لإحتياجاتها الطاقوية على المدى الطويل، خاصة أن الجزائر ستضمن وصول الغاز والكهرباء بالإضافة للهدروجين الأخضر الذي بدأت الجزائر تخطط لإنجازه بشكل كبير نظرا لتوفرها على كل الاحتياجات اللازمة للوصول إلى الهدف المنشود وهو تعويض الغاز الروسي الذي كان قد وصل إلى حدود 144 مليار متر مكعب قبل الأزمة الروسية الأوكرانية، وها هو اليوم يتحول إلى أسواق جديدة تتمثل خاصة في الصين التي بدأت تستقبل الغاز من خلال الخط السيبيري للطاقة الذي يمرر نحو 22 مليار متر مكعب، والدولتان بصدد التخطيط لمد خط ثاني في الجغرافيا نفسها لرفع الصادرات إلى 38 مليار متر مكعب، دون أن نغفل أن روسيا لا تزال موردا للغاز إلى أوروبا بواقع 17 بالمئة من احتياجاتها حسب تقرير أوبك الأخير الذي أكد أن صادرات الغاز المسال خلال الربع الأول من 2024 بلغت 107.3 مليون طن، 30 مليون طن منها كانت وجهتها أوروبا، وبلغت حصة الولايات المتحدة الأمريكية فيها 51 بالمئة، أما روسيا فنحو 17 بالمئة، أما حصة الجزائر فكانت 10 بالمئة.
خطى ثابتة السيطرة على السوق الأوروبية
خصصت سوناطراك 40 مليار دولار كميزانية إستثمار من أجل التجديد والرفع من قدراتها في الإكتشاف الإنتاج والنقل في المزيج الطاقوي ما بين 2022 و2026، كما خُصِّص جزء من هذه الميزانية لتقليل البصمة الكاربونية من الغاز الجزائر والعمل على تكرير النفط للرفع من قدرات الجزائر على إنتاج العديد من المواد التي يعدّ النفط مصدرا لها. وتتعامل الجزائر في هذه المرحلة بشكل متميز في استقطاب الشركاء من أجل الاستثمار في مجال الطاقة، خاصة أن محاولات العالم للبحث عن مصادر جديدة للطاقة باءت بالفشل فحتى الحرب التي قامت في غزة جزء كبير منها هدفه تأمين الحقول المكتشفة قبالة سواحل غزة العزة، ولا أرى في المستقبل القريب حلا لأوروبا خاصة والعالم عامة إلا التوجه نحو الاستثمار في الجزائر، وإلا فإن إرتفاع أسعار الطاقة سيجعل هجرة المؤسسات الكبرى التي تحتاج إلى الطاقة بشكل كبير حتمية عن الاقتصاديات الأوروبية لتجد في الجزائر جنة طاقوية ووفرة في اليد العاملة أمام تراجع سكان القارة العجوز من الشباب، نعم الجزائر عملاق سينهض بيد الأتقياء الأذكياء الأوفياء لدماء شهداء نوفمبر.