إسرائيل هي جيش له دولة، إذ تتحكم المؤسسة الأمنية؛ الجيش وأجهزة الاستخبارت، في مفاصلها وأحزابها السياسية وأنشطتها الاقتصادية ومراكزها البحثية. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم “نتنياهو ضد الجنرالات: المعركة على مستقبل إسرائيل” يتناول بالشرح والتحليل هذه الظاهرة التي تتميز بها دولة الكيان. وقد صدر هذا الكتاب في يناير 2024 عن مطبعة جامعة كامبرديج بالولايات المتحدة، ومؤلفه هو “جاي زيف” الأستاذ المساعد في قسم السياسة الخارجية والأمن العالمي بكلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، وهو معلق منتظم بوسائل الإعلام الرئيسية.
أهمية الكتاب
من حيث التوقيت، فقد صدر الكتاب في وقت تشهد فيه إسرائيل فشلا استخبارتيا واستراتيجيا وعسكريا وسياسيا ستكون له آثار عميقة عليها، وعلى موازين الصراع، ووضعها الإقليمي والدولي. وفي وقت تشهد فيه أيضا انقساما غير مسبوق بين نخبها السياسية والعسكرية وحراكا اجتماعيا مستمرا يزداد يوما بعد يوم نتيجة لمعركة طوفان الأقصى وما أدت إليه من نتائج وتداعيات.
أما من حيث الموضوع، فإن الكتاب هو تشريح جيد للعلاقة العسكرية المدنية في إسرائيل منذ إنشائها، والعوامل المؤثرة على صنع القرار فيها. تشريح يفسر لنا ما نشهده اليوم من صراعات واستقالات على المستوى السياسي والأمنى. ونستنج من هذا التشريح أن إسرائيل لا يمكنها تحقيق إنجاز عسكري في حرب غزة، لأنها منقسمة على نفسها في أعلى وأخطر مستوياتها. وهذا يُعد بلا شك أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة في اللحظات المصيرية من تاريخها، وسيكون أحد العوامل المهمة لضعف الكيان وزواله.
ملخص الكتاب
خلال عقود من نشاطه السياسي، زرع نتنياهو بعناية صورة ذاتية له باعتباره “سيد الأمن” لإسرائيل. وقد لاقت سمعته كزعيم ذي عقلية أمنية صدى واسعا لدى قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، مما مكنه من أن يصبح رئيس الوزراء الأطول تقلدا لهذا المنصب في إسرائيل. ومع ذلك، فقد شكك مجتمع الأمن الإسرائيلي مرارا في نهج نتنياهو تجاه الأمن القومي. وشهدت فترات حكمه توترات مدنية – عسكرية غير مسبوقة، فقد رفض قيادته وسياساته علنا الجنرالات المتقاعدون والقادة السابقون للموساد والشاباك، الذين عين نتنياهو بعضهم.
بالاعتماد على مقابلات مع العشرات من كبار المحاربين القدامى في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، يتناول الكتاب أسباب انعدام الثقة المتبادل والخلافات الشديدة بين نتنياهو والمجتمع الأمني، ولماذا لا يهتم الجمهور الإسرائيلي بهذا الرأي الجماعي لمئات الجنرالات المتقاعدين وقادة التجسس السابقين؟
سيد الأمن متهم بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة
في سبتمبر 2021، أعلن زعيم المعارضة آنذاك، بنيامين نتنياهو، أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بنيت هي “كارثة كبيرة” للأمن القومي الإسرائيلي. وحذر نتنياهو مرارا وتكرارا من أن إسرائيل تحتاج إلى يد قوية، هي يده، لاستعادة الأمن. وكانت هذه هي نفس الرسالة التي حاول إيصالها للإسرائيليين طوال حياته السياسية والمهنية: أنه فقط، وهو وحده، الذي يمكن أن تعهد إليه إسرائيل بأمنها. وهي رسالة نجح في إيصالها مرارا وتكرارا في أمة مهووسة بالأمن. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، أعاد الناخبون نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد إجراء خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات.
ومن المفارقات، أنه في الوقت الذي يرى قطاعات واسعة من الناخبين أن نتنياهو هو “سيد الأمن”، فقد كان في بداية عام 2020، متهما رسميا بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في ثلاث قضايا فساد منفصلة.
احتجاجات ضد نتنياهو منذ 2020
طوال معظم عامي 2020 و2021، اجتذبت الاحتجاجات الأسبوعية خارج مقر إقامة نتنياهو الرسمي مئات ـ أحيانا الآلاف ـ من المتظاهرين المطالبين باستقالته. أحد المتظاهرين الذي أصبح رمزا للحركة بعد اعتقاله كان الجنرال المتقاعد “أمير هاسكل” الذي أمضى اثنين وثلاثين عاما في سلاح الجو الإسرائيلي. وانضم مسؤولون أمنيون سابقون رفيعو المستوى إلى المظاهرات المناهضة لنتنياهو، مثل: كرمي جيلون الرئيس السابق لجهاز الشاباك، وموشيه يعلون رئيس أركان الجيش ووزير دفاع نتنياهو من 2013 إلى 2016.
بعد عام ونصف من المظاهرات، وفي أعقاب تشكيل نتنياهو للحكومة الأكثر تطرفا ويمينية في تاريخ إسرائيل، وصلت التوترات بين نتنياهو والمجتمع الأمني إلى ذروتها. وحاول ائتلاف نتنياهو اختراق إصلاحات قضائية لمعالجة ما اعتبره اختلالا في توازن القوى، إذ تمتلك المحكمة العليا الكثير من السلطة مقارنة بالبرلمانيين المنتخبين. شارك مئات آلاف الإسرائيليين في احتجاجات أسبوعية ومظاهرات حاشدة، هي الأكبر في تاريخ إسرائيل منذ عقود، لوقف ما اعتبروه انقلابا قضائيا. وشارك في هذه المظاهرات العديد من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، وتحدثوا بقوة ضد الإصلاحات التي اقترحتها الحكومة. وهدد أفراد الاحتياط العسكري الإسرائيلي، بمن فيهم أفراد وحدات النخبة في سلاح الجو، بالتوقف عن الذهاب إلى الخدمة إذا مضت الحكومة قدما في إصلاحاتها، مما دفع قائد الجيش الإسرائيلي إلى التعبير عن مخاوفه بشأن أجندة نتنياهو القضائية. وتحدث وزير دفاعه علنا في معارضة القانون، وطالب بإصلاح شامل. كانت التطورات الدراماتيكية في عام 2023 سببا في تحول الرأي بحدة ضد نتنياهو. وظهر أن الجمهور قد توصل إلى نفس النتيجة التي توصل إليها المجتمع الأمني قبل عقود، وهي أن نتنياهو لم يكن سيد الأمن.
المفارقة ودلالتها وتفسيرها
قبل وقت طويل من ظهور اتهامات لنتنياهو بالفساد، كان هناك عدد من كبار مسؤولي المؤسسة الأمنية المتقاعدين، حتى من عينهم من قبل، قد تحدثوا معارضين لقيادته. وكانت المؤسسة الأمنية شوكة في خاصرة نتنياهو، على الرغم أنه طوال حياته الحياة السياسية زرع بعناية لنفسه صورة قوية لزعيم يدافع عن حق أمته المحاصرة في الدفاع عن نفسها. ولقد أصبح العديد من هؤلاء المسؤولين الأمنيين السابقين منتقدين شرسين لنتنياهو. حفنة من هؤلاء جنرالات سابقون، يدخلون حسب التقليد الإسرائيلي الساحة السياسية كمهنة ثانية، وصاروا على صدارة التحدي له.
ما الذي يفسر الكراهية المتبادلة بين نتنياهو والمجتمع الأمني؟!! ولماذا يتجاهل الجمهور الإسرائيلي الحكمة الجماعية لمئات من كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين السابقين في البلاد من خلال دعم سياسات نتنياهو إن لم يكن دائما الرجل نفسه؟!! هناك عاملان رئيسيان:
1 ـ البعد الشخصي:
قدم نتنياهو نفسه للمجتمع الإسرائيلي ك “سيد للأمن”. وهو لقب رفضه كبار الضباط السابقين. ومع ذلك، فلم يتردد صداه بين عامة الناس حتى وقت قريب. وهذه ليست مجرد مفارقة مثيرة للاهتمام فحسب، بل إنها مهمة للنظر إلى بصمة نتنياهو العميقة على السياسة والمجتمع الإسرائيلي المعاصر. كما أن لها تداعيات على طابع دولة إسرائيل، ومصير الفلسطينيين تحت الاحتلال، وسلوك إسرائيل في المسرح الدولي.
وتشهد فضائح نتنياهو على ما يعتبره كبار المحاربين القدماء في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ميله إلى وضع مصالحه الشخصية والسياسية فوق المصالح الوطنية. كما ينظرون إلى أن دافعه للبقاء في السلطة أكبر من دافعه لتأمين مصالح إسرائيل على المدى الطويل. لذا، فقد أعلنوا اعتراضهم عليه بأعداد أكبر بكثير، وبعبارات أقوى بكثير ضد أي رئيس وزراء آخر في تاريخ إسرائيل.
2 ـ الخلاف بين المؤسسة الأمنية واليمين الديني:
تشهد العلاقات المدنية العسكرية توترا خاصا في عهد نتنياهو. وهناك خلافات سياسية خطيرة بين المجتمع الأمني واليمين الديني في إسرائيل. إذ يرى المجتمع العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي أن:
ـ فك الارتباط بين إسرائيل والفلسطينيين ـ عبر حل الدولتين أو أي شكل آخر للحل ـ هو أولوية وطنية قصوى، وشرط لا غنى عنه لبقاء إسرائيل على المدى الطويل كدولة يهودية وديمقراطية.
ـ دعم اليمين لضم الأراضي الفلسطينية هو أمر كارثي لإسرائيل.
ـ الوضع الراهن، أو بتعبير أدق: “الضم الزاحف” للضفة الغربية، يقوض المصالح الوطنية لإسرائيل.
إضافة إلى ما سبق، فإن نظرة المؤسسة الأمنية بشأن مسائل الأمن القومي نظرة متشائمة نسبيا، وذلك فيما يتعلق: بالمفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والتعامل مع الهجمات الصاروخية من غزة، وإحباط البرنامج النووي الإيراني. وكل هذه القضايا، وضعت المؤسسة الأمنية في خلاف ليس فقط مع نتنياهو، ولكن أيضا مع اليمين الأيديولوجي والديني بشكل عام.
أسباب تضاؤل تأثير المؤسسة الأمنية على الرأي العام الإسرائيلي
الفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب هي الهوة التي تميز العلاقة بين مجتمع الأمن القومي الإسرائيلي واليمين السياسي بقيادة نتنياهو. لكن، لم يتأثر الرأي العام بصورة كبيرة بتقييمات كبار رجال الأمن، ولا الخلافات السياسية المسربة مع المسؤولين الحكوميين، ولا جوقة الانتقادات والتحذيرات من العديد من الجنرالات المتقاعدين وقادة التجسس، ويعود ذلك إلى تضاؤل مكانتهم في المجتمع الإسرائيلي. ويمكن تفسير هذه الظاهرة المحيرة بثلاثة أسباب رئيسية:
1 ـ تراجع مكانة الجيش الإسرائيلي:
كان الجيش الإسرائيلي مقدسا منذ قيام إسرائيل؛ لكن هذا الوضع تراجع بعد سلسلة من الكوارث العسكرية بدءا 1973، في تناقض صارخ مع الانتصارات الحاسمة التي ميزت حروب: 1948، 1956، و1967:
ـ الهجوم المفاجئ من قِبل الجيشين المصري والسوري في حرب 1973، والتي لم تكن إسرائيل مستعدة له، مما أدى إلى مقتل حوالي 2,600 إسرائيليا.
ـ تحولت حرب لبنان 1982 إلى “فيتنام إسرائيل”. وكان أكبر الفشل هو حرب 2006 ضد حزب الله.
ـ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 وسلسلة الحروب غير الحاسمة على القطاع والتي قللت جميعها من إعجاب الإسرائيليين بالجيش وكبار ضباطه.
2 ـ تفكك اليسار الإسرائيلي:
تعرض اليسار الإسرائيلي لضربة مدمرة في أعقاب فشل رئيس الوزراء إيهود باراك في التفاوض في قمة كامب ديفيد تموز/يوليه 2000، فقد رفض ياسر عرفات عرضه للسلام، وتلا ذلك بوقت قصير التي حولت العديد من دعاة السلام الإسرائيليين إلى متشددين، مما أدى إلى هيمنة أحزاب اليمين السياسي. وخاب أمل الجمهور الإسرائيلي من عملية السلام التي فشلت في إنهاء المقاومة أو التوصل إلى اتفاق على الرغم مما يعتبره كثير من الإسرائيليين تنازلات كبيرة من قبل قادتهم. ومنذ ذلك، قبل الجمهور الإسرائيلي فكرة أن إسرائيل تفتقر إلى شريك تفاوضي فلسطيني. وكان من نتائج هذه المتغيرات، أن أصبح المجتمع الأمني ضحية لانهيار اليسار نظرا لارتباطه بعملية أوسلو للسلام ودعمه للمبادرات الدبلوماسية بشكل أعم.
3 ـ صعود اليمين المتطرف:
أدت الانقسامات الاجتماعية والغضب من النخبة، خاصة من منتصف 2010، إلى ارتفاع هجمات السياسيين اليمينيين على المؤسسات الرئيسية للدولة. وأصبح يُنظر إلى وسائل الإعلام والمحاكم والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، إلى أنها جزء من “النخبة اليسارية” المنفصلة عن “الشعب” وحتى من الواقع.
المؤسسة الأمنية وصناعة القرار السياسي والاستراتيجي
من الناحية الرسمية، يخضع الجيش الإسرائيلي للسيطرة المدنية. وقد تعززت هذه السيطرة بتعديلات أدخلت على القانون الأساسي أعوام 1976 و1983 و1992 التي أدت إلى تعزيز الرقابة البرلمانية على ميزانيات الدفاع، ونص تعديل 1992 على أنه لا يجوز للدولة أن تشن حربا إلا بموجب قرار حكومي. لكن في الممارسة العملية، فقد تمكن الجيش الإسرائيلي من القيام بدور أكثر نشاطا في الحياة السياسية. لذا يوصف الجيش الإسرائيلي بأنه “جيش مدني في مجتمع عسكري جزئيا”، إذ تنعدم الخطوط الفاصلة الواضحة بين المجالين العسكري والمدني. وتسمى هذه العلاقة بأنها “شراكة شيئة السمعة بين الجنرالات والسياسيين في إسرائيل”.
هناك عدة عوامل عززت استقلالية الجيش الإسرائيلي، منها القوانين المتعلقة بالتسلسل القيادي، وضعف الرقابة البرلمانية على الجيش. وقد نتج عنها استمرار الجيش الإسرائيلي في فرض قبضة خانقة على كل جانب من جوانب استراتيجية إسرائيل تقريبا، وعلى التفكير والنشاط الدبلوماسي. ومن الناحية العملية، لم تكن الرقابة على الجيش الإسرائيلي قوية أبدا. وتأسس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عام 1999 كهيئة تنسيقية ملحقة بمجلس الوزراء لإصدار التقييمات والتوصيات المتعلقة بسياسة الأمن القومي؛ لكن بدون تأثير يُذكر، إذ استمرت مديرية التخطيط في الجيش الإسرائيلي في الهيمنة على الخطة الاستراتيجية.
نماذج مهمة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي
مما سبق، يمكن القول: إن الجيش الإسرائيلي تمتع طوال تاريخه بنوع من الحكم الذاتي ساعده ليس فقط على تشكيل سياسة الحكومة؛ وإنما في بعض الأحيان أخذ زمام الأمور ذات الاعتبار في يديه:
1 ـ سياسة الاغتيالات والعمليات الانتقامية:
بعد تأسيس قوات النخبة، أصبح رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون عام 1953مقتنعا بفائدة الاغتيالات وهي الطريقة التي استخدمتها مجموعة من الكوماندوز، الوحدة 101، في محاربة مجموعات الفدائيين. وبعد ذلك بعامين، استمرت هذه الوحدة في تنفيذ العمليات الانتقامية ضد الفدائيين دون الحصول على موافقة رئيس الوزراء آنذاك موشيه شاريت، خليفة بن جوريون. وكان الضابط الشاب المتهور قائد الوحدة 101، هو آرئيل شارون، الذي ارتقى في الرتب، وعند تقاعده ودخوله الساحة السياسية أصبح وزيرا في العديد من الحكومات، ثم رئيسا للوزراء. وطوال مسيرته العسكرية والسياسية لاحقا، تميز شارون بعصيانه عادة للأوامر. ومع ذلك، فإنه في عمليات الوحدة 101، تلقى الدعم الكامل من رئيس أركان الجيش آنذاك موشيه ديان الذي كان معارضا لسياسة شاريت القائمة على ضبط النفس؛ بينما كان ديان يدعو إلى الانتقام العسكري في الرد على الخسائر في صفوف المدنيين أو اقتحام الحدود الإسرائيلية.
2 ـ شن الحروب والحملات العسكرية:
عند عودة بن جوريون إلى رئاسة الوزراء عام 1955، فقد حثه ديان وشمعون بيريز، المدير العام لوزارة الدفاع، على شن حرب ضد مصر. وكان لهما دور فعال في جعل رئيسهم المتردد بن جوريون يشارك في نهاية المطاف في حملة سيناء 1956، التواطؤ الإسرائيلي الفرنسي البريطاني، ردا على قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس وفرض حظر على مرور البضائع من وإلى إسرائيل عبر مضيق تيران وخليج العقبة.
3 ـ التصنيف السياسي والدول وطريقة التعامل معها:
بحلول منتصف ستينيات القرن العشرين، كان الجيش الإسرائيلي قد بنى سمعة إيجابية مع الجمهور. وكانت هيمنة قائد الجيش على صنع القرار الأمني هي التي مكنت رابين من وضع سياسة إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، والتي استمرت حتى منتصف التسعينيات. قامت هذه السياسة على تصنيف الدول حسب ميولها تجاه منظمات المقاومة، فميزت الإجراءات الإسرائيلية بين الدول التي تشجع هذه المنظمات مثل سوريا، وتلك التي عارضتها أو لم تشجعها مثل الأردن ولبنان. ولهذا لم يرد الجيش الإسرائيلي على عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من الأردن بمهاجمة النظام في الأردن؛ وإنما جاء الرد بمداهمة قرية السموع بالضفة الغربية في تشرين الثاني نوفمبر 1966، وقرية الكرامة في الضفة الشرقية في مارس آذار 1968، وكلاهما كانتا من بؤر النشاط الفلسطيني المنطلق من الأردن حين كان الأردن مكنوا من الضفتين الشرقية والغربية.
4 ـ شن الحروب الاستباقية:
كان قرار الذهاب إلى الحرب في عام 1967 مدفوعا إلى حد كبير بجنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي، الذين ضغطوا قبل عام من الحرب على رئيس الوزراء ليفي إشكول لاستباق حرب مع مصر وسوريا تجعل لإسرائيل ميزة استراتيجية، وذلك لاقتناعهم بأن الاستباقية الإسرائيلية أفضل من انتظار هجوم عربي مفاجئ؛ بينما كانت حكومة إشكول تفضل الجهود الدبلوماسية التي اعتقد الجنرالات أنها غير مجدية.
خلاصات واستنتاجات مهمة
في هذه المعركة المحتدمة بين نتنياهو واليمين المتطرف من جهة، والمجتمع الأمني من جهة أخرى، ومع تراجع مكانة المؤسسة العسكرية بين الجمهور الإسرائيلي والتي وظفها نتنياهو بما يخدم مصالحه، يقدم الكاتب خلاصات واستناجات مهمة، هي:
1 ـ استغل نتنياهو المزاج المعادي للنخبة العسكرية واليسارية، فصعّد من خطابه المثير للانقسام، ولعب على مخاوف الناس، وقدم دعمه للتشريعات التي تستهدف المحاكم والأقليات. ووصف منتقديه بالنخب التي تهدد أمن إسرائيل.
2 ـ أدى تراجع مكانة الجنرالات في المجتمع الإسرائيلي إلى فتح المجال السياسي واسعا أمام اليمين المتطرف لاستهداف المؤسسة الأمنية والقضاء ووسائل الإعلام والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، مما أدى إلى تآكل ثقة الجمهور بهذه المؤسسات المدنية والأمنية. وهكذا، أصبح مسمى “رئيس الجيش الإسرائيلي”، أو “جنرال متقاعد”، أو “رئيس سابق للموساد أو الشاباك”، له تأثير محدود على الرأي العام.
3 ـ إن استمرار هذا الوضع وتدهوره وتركه دون إعادة تأهيل في السنوات المقبلة سيكون عاملا مهما في تشكيل الأمن القومي والسياسة الخارجية لإسرائيل، وله آثار مهمة أيضا على هويتها وديمقراطيتها الهشة.