بين شقّي الرحى، تحيا فلسطين في غمار أسوأ كوابيسها، بعد حرب طاحنة استمرت أكثر من عام قضت على الأخضر واليابس في الأراضي المحتلة، وخلفت أكثر من 43 ألف شهيد وما يزيد على 10 آلاف جريح، معظمهم من النساء والأطفال.
وتتزامن تلك الأحداث المؤسفة مع الاحتفال بيوم الاستقلال الفلسطيني، الذي يصادف 15 نوفمبر من كل عام. يُعتبر هذا اليوم مناسبة وطنية هامة للفلسطينيين، حيث يحيون فيه ذكرى إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي أعلنه الرئيس الراحل ياسر عرفات عام 1988 خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الجزائرية.
في 15 نوفمبر 1988، أعلن ياسر عرفات، خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، وثيقة الاستقلال التي نصّت على إقامة دولة فلسطين المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس الشريف. ويمثل هذا الإعلان لحظة تاريخية في مسيرة النضال الفلسطيني.
وجاء الإعلان في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد اندلعت ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما زاد الضغط الدولي على إسرائيل ودفع القيادة الفلسطينية إلى اتخاذ خطوات سياسية لإعلان الاستقلال كخطوة استراتيجية لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني والتأكيد على هويته الوطنية، الأمر الذي منح الإعلان رمزية كبيرة ودعماً شعبياً واسعاً.
اقرأ أيضا.. هل فرنسا ضعيفة أمام إسرائيل؟ ميديا بارت: باريس تدين لكن لا تعاقب
في خطاب تاريخي، تلا ياسر عرفات نص وثيقة الاستقلال التي بدأت بإعلان قيام دولة فلسطين على أساس الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب الفلسطيني في أرضه. كما أكدت الوثيقة الالتزام بالقانون الدولي وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ودعت إلى السلام والاعتراف المتبادل.
وتضمن إعلان الاستقلال أيضا إشادة بتاريخ نضال الشعب الفلسطيني وتراثه الثقافي والديني، وأكد حقوقه في تقرير مصيره واستقلاله، داعياً إلى السلام والمفاوضات، ومطالباً المجتمع الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لا للتنازل أو المساومة
قال رئيس دولة فلسطين، محمود عباس، إن إعلان الاستقلال الذي أصدره المجلس الوطني عام 1988 لم يكن خطوة رمزية، بل هو الهدف المركزي للنضال الوطني الفلسطيني، مشدداً على أن الاستقلال حق مشروع نتمسك به ونضحي من أجله.
وأوضح عباس، في كلمة عشية الذكرى الـ36 لإعلان الاستقلال، أن الشعب الفلسطيني الباسل والأصيل لا يمكن إلغاء وجوده أو القفز عن حقوقه، وفي مقدمة ذلك حقه في العودة وتقرير المصير والحرية والاستقلال.
وأضاف: “نحن الحقيقة الأوضح والأهم التي فشلت كل المحاولات، على امتداد أكثر من قرن من الصراع، في طمسها، فإعلان الاستقلال مهّد لمبدأ حل الدولتين والسلام العادل والشامل المستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية”.
وشدد الرئيس الفلسطيني على أن أي حديث عن حماية حل الدولتين يجب أن يبدأ بوقف العدوان على قطاع غزة فوراً، وكذلك ما تتعرض له الضفة الغربية، بما فيها القدس، من جرائم قوات الاحتلال وإرهاب المستوطنين والاقتحامات، ووقف المخططات والتصريحات التي تنم عن نوايا توسعية مبيتة.
ودعا المجتمع الدولي إلى تمكين دولة فلسطين من الحصول على العضوية الكاملة في هيئة الأمم المتحدة، مطالباً الدول بمواصلة اعترافاتها بالدولة الفلسطينية. وثمّن مواقف الدول التي اعترفت بدولة فلسطين وحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
ومضى قائلاً: “إننا لن نحيد ولن نتنازل أو نساوم على حقوقنا وثوابتنا الوطنية، يدنا ستبقى ممدودة للسلام، ولكن ليس بأي ثمن، السلام يبدأ مع حقنا بدولة فلسطينية مستقلة وسيدة، عاصمتها القدس الشرقية”.
الاحتفال بيوم الاستقلال
ويعد الاحتفال بيوم الاستقلال فرصة للفلسطينيين في الداخل والمهاجرين في جميع أنحاء العالم لتجديد الالتزام بالقضية الفلسطينية والمطالبة بالحقوق الوطنية، وتجديد العهد بالنضال والصمود، لإيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بضرورة دعم حقوق الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة.
عادةً، تتضمن الاحتفالات رفع العلم الفلسطيني في المدن والقرى الفلسطينية، وتنظيم مهرجانات خطابية وفعاليات ثقافية تُبرز التراث الفلسطيني، إلى جانب مسيرات سلمية ومظاهرات تطالب بحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره.
ورغم مرور أكثر من 35 عاماً على إعلان الاستقلال، لا يزال الفلسطينيون يسعون لتحقيق دولتهم المستقلة بسبب الاحتلال الإسرائيلي المستمر وسياساته الاستيطانية، التي تعد من أخطر القضايا التي تواجه الشعب الفلسطيني وتعرقل عملية السلام.
منذ عام 2020، شهدت معدلات البناء في المستوطنات ارتفاعاً ملحوظاً، خاصة بعد دعم الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة دونالد ترامب للاستيطان. يوجد أكثر من 750 ألف مستوطن إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مقسمين إلى 500 ألف مستوطن في الضفة الغربية و250 ألف مستوطن في القدس الشرقية.
وفق التقديرات الإحصائية، هناك 140 مستوطنة رسمية في الضفة الغربية، بالإضافة إلى أكثر من 100 بؤرة استيطانية غير قانونية حتى بموجب القانون الإسرائيلي، لكنها تتلقى دعماً وحماية من السلطات الإسرائيلية.
ولا يزال الاعتراف الدولي بفلسطين محدوداً، حيث اعترفت العديد من الدول بها، ولكنها لم تحظَ بعضوية كاملة في الأمم المتحدة حتى الآن بل تحمل صفة دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة، إذ تعترف أكثر من 140 دولة بدولة فلسطين، بينما تمتنع العديد من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا عن الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية.
اعتراف دولي بفلسطين
في عام 2012، حصلت فلسطين على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة بعد تصويت الجمعية العامة على القرار 67/19، حيث تم التصويت لصالح القرار بأغلبية 138 صوتاً مقابل 9 أصوات رافضة، وامتناع 41 دولة عن التصويت.
من خلال هذه الصفة، تمكنت فلسطين من الانضمام إلى العديد من المنظمات الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، ما يمنحها الحق في تقديم شكاوى ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية، إضافة إلى الانضمام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونيسكو”، ومنظمة الصحة العالمية “WHO”.
ويعزز الاعتراف الدولي بفلسطين مكانتها في المحافل الدولية، إلى جانب زيادة الضغط على إسرائيل للتفاوض بشأن حل الدولتين. كما يُمكّن فلسطين من رفع قضايا أمام المحاكم الدولية ضد الانتهاكات الإسرائيلية، ويعزز موقفها في السعي للحصول على حقوقها.
وتملك فلسطين سفارات وممثليات في العديد من الدول التي تعترف بها، مما يعكس مستوى الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، ويُمكّن القيادة الفلسطينية من التواصل الدبلوماسي والمشاركة في المحافل الدولية، ما يسهم في تعزيز العمل الدبلوماسي والدفاعي عن حقوق الشعب الفلسطيني.
أمريكا تحبط التحركات الفلسطينية
ورغم استخدام الولايات المتحدة حق الاعتراض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي في أبريل 2024 لمنع صدور قرار يفتح الباب أمام منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فإن الجمعية العامة اعتمدت في مايو الماضي قرارًا يؤكد أحقية فلسطين بهذه العضوية، حيث صوَّت لصالح القرار 143 دولة، بينما امتنعت 25 عن التصويت.
وجاءت خطوة إعادة طرح قضية عضوية فلسطين في الأمم المتحدة بعد أن أعادت عملية “طوفان الأقصى” تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التلاشي وسط المتغيرات العالمية والحروب والتنسيق الأمني والدبلوماسي المتزايد مع السلطات الإسرائيلية في المنطقة العربية.
وارتبط ذلك أيضًا برغبة إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، جو بايدن، في إيجاد مخرج للحرب الإسرائيلية على غزة، من خلال طرح مشروع حل سياسي للقضية الفلسطينية قائم على أساس الاعتراف الإسرائيلي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح.
ولكن هذا الطرح يأتي ضمن سياق مفاوضات مع الفلسطينيين، ما يعني أن نتيجة هذه المفاوضات سيحددها الطرف الأقوى وصاحب السيطرة على الأرض.