فشل الاحتلال الإسرائيلي.. وحالة التخبط في الحرب على غزة
يحاول الجيش الإسرائيلي إخفاء خسائره الكبيرة المتواصلة، لئلا تؤثر سلبًا على التجمّع الصهيوني في الأرض المحتلة، ويتحكم بشكل مسبق بمصادر المعلومات.
يعاني نتنياهو وتحالفه الحاكم من “حالة إنكار” غير مسبوقة في تاريخ الكيان الإسرائيليّ في تعاملهم مع الحرب على قطاع غزّة. لم يتعوّد قادة الاحتلال على فكرة الهزيمة والفشل، بعد رصيد تاريخي طويل من “النجاحات” وفرض الهيمنة إقليميًا وعالميًا؛ وبعد أن ظنّوا أنهم صاروا قاب قوسين أو أدنى من إغلاق الملف الفلسطيني، ودخول المنطقة في العصر “الإسرائيلي الأميركي”.
نتنياهو، الذي كان يظنّ نفسه “الملك” غير المتوَّج لـ “إسرائيل” وكان يعيش حالة من الغرور والعجرفة، لم يستوعب بعد حجم الخسائر التي تعرض لها جيشه على يد قلَّة “مستضعفة” من كتائب القسام، وسرايا القدس، وقوى المقاومة. وأن يعيش هو وحكومته “فجوة” تزداد اتساعًا بين رغباته وأهدافه وبين قدراته وإمكاناته في التنفيذ على الأرض.
والنتيجة أن الوقوع في حالة “الإنكار” وعدم الواقعية لا يؤدي إلا إلى مزيد من التخبّط وفقدان الاتجاه، ودفع مزيد من الأثمان والخسائر، إلى أن يضطر لـ “النزول عن الشجرة”. وهذا ما دفع الرئيس الأميركي للتدخل المباشر في الدفع نحو عقد صفقة مع حماس، في محاولة لـ”إنقاذ إسرائيل من نفسها” كما ذكر بعض المحللين!
أولًا: الفشل في تحقيق الأهداف:
تبدو حالة التخبّط الإسرائيلي في عدد من المظاهر، أبرزها فشل الاحتلال في تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة للحرب بعد نحو 260 يومًا على إعلانها. هناك فشل ذريع في “سحق حماس”، وفي احتلال قطاع غزة، وفي تحرير “الرهائن”، وفي فرض التصور الإسرائيلي لليوم التالي في القطاع، وفي تهجير الفلسطينيين، بالرغم من استخدام كافة أشكال القتل والتدمير الوحشية، بينما استمرت المقاومة في شموخها وأدائها “الأسطوري”. مع هذا الفشل، سقطت أبرز ثلاث فرضيات بنى عليها الاحتلال توقعاته:
فرضية سحق حماس والمقاومة.
فرضية عزل وفصل الحاضنة الشعبية، وتحويلها إلى بيئة معادية للمقاومة.
فرضية المراهنة على الزمن لإنهاك المقاومة.
فلا المقاومة ضعفت، ولا الحاضنة الشعبية تخلَّت عن المقاومة بل ازدادت حولها التفافًا، وأداء المقاومة في اليوم 260 لا يقل كفاءة وفاعلية عن أدائها في اليوم الأول. هذا ما يجعل الاحتلال الإسرائيلي يقف عاجزًا محبطًا، مع حالة غرور وغضب تدفعه للاستمرار، ولكن مع حالة من التخبّط وفقدان الاتجاه.
ثانيًا: استنفاد “بنك الأهداف”:
صاحب هذا الفشل استنفاد “بنك الأهداف”، فلم تعد هناك مناطق لم يتم اجتياحها، ولا أهداف عسكرية وأمنية ومدنية وبنى تحتية إلا وتم ضربها أو استهدافها. استنفد الاحتلال وسائل مخابراته وذكاءه الاصطناعي وتحالفاته العالمية في عدوانه. كما أصبح واضحًا أن الهجوم على رفح مصيره الفشل. ولعل “الذهول” سيد الموقف لدى الكثير من القادة الإسرائيليين والغربيين السياسيين والعسكريين؛ لأنه بحسب التقارير فإن الأسلحة والمتفجرات التي استُخدمت في العدوان تكفي لتدمير غزة عشر مرّات، وتوازي استخدام نحو سبع قنابل نووية من تلك التي ألقيت على هيروشيما.
ثالثًا: قدرة حماس على التّعافي:
من ناحية ثالثة، فإن ظهور العديد من الأدلة على استمرار حماس في القدرة على الإمساك بمنظومة “التحكّم والسيطرة” في إدارة العمل المقاوم، وفي إدارة البيئة الشعبيّة، مع ظهور المزيد من الأدلة على تعافي حماس واستعادتها زمام السيطرة في الأماكن التي انسحب منها المحتل، بعد شهور من المجازر والتدمير والاحتلال – بعد أن ظنّ الاحتلال أنه حقق أهدافه، ورأت القيادة الإسرائيلية ذلك بعينيها في شمال غزة ووسطها، بل وظهور تقارير إسرائيلية تقدر أعداد رجال المقاومة في شمال غزة بأكثر من سبعة آلاف مقاتل – هذا يعني عبثية العملية العسكرية الإسرائيلية، بحسب ما توصل إليه الكثير من السياسيين والعسكريين والخبراء والمتخصصين.
رابعًا: الأزمة الداخلية:
من جهة رابعة، فالأزمة الداخلية الإسرائيلية في حالة تصاعد، غير أن أسوأ ما فيها هو فقدان الرؤية والاتجاه لدى صانعي القرار (في الحكم وحتى المعارضة) تجاه التعامل الأفضل مع قطاع غزة. ليس ثمة رؤية عملية واقعية بشأن اليوم التالي للحرب، وليس ثمة تصور يمكن فرضه لمنع حماس من السيطرة في القطاع ونزع أسلحتها، ولا لتوفير الأمن لمناطق غلاف غزة.
وحتى غانتس، المرشح القادم لرئاسة الحكومة، ولبيد، زعيم المعارضة الحالي، ليس لديهما بدائل يمكن تسويقها لدى المجتمع الصهيوني، لأن الكلّ يتجنب الاعتراف بالواقع الجديد الذي فرضته المقاومة، والأثمان الكبيرة التي عليهم دفعها. مشروع النقاط الست الذي أعلنه غانتس لإنقاذ الوضع لم يكن مشروعًا عمليًا ولا واقعيًا؛ لأنه يخرج من العقلية المتعجرفة نفسها، وإن كان أقل سوءًا من موقف نتنياهو.
في ضوء ذلك، ندرك خلفية انسحاب غانتس وآيزنكوت من الحكومة الإسرائيلية، وكلاهما سبق لهما أن توليا منصب قيادة الجيش الإسرائيلي (رئاسة الأركان). كما ندرك دلالات اضطرار نتنياهو إلى حل مجلس الحرب المُصغَّر. هذا الارتباك يترافق مع تسريبات عن نوعٍ من الفوضى في إدارة الحكومة، كالتراشق الإعلامي بين حزب الليكود الحاكم، وبين الجيش حول الأداء العسكري في رفح، وحديث نتنياهو (بحسب مراسل قناة 14) أنه لا يعلم من أصدر قرار الهدنة التكتيكية جنوب قطاع غزة، ولا من أصدر قرار الإفراج عن عزيز الدويك.
خامسًا: الأزمة الاقتصادية:
من ناحية خامسة، لا يبدو ثمة علاج للأزمة الاقتصادية الإسرائيلية المتفاقمة وللأثمان الناتجة عن استمرار العدوان على القطاع، وبالتالي القدرة على تمويل الحرب، مع تحويل البيئة الإسرائيلية إلى بيئة طاردة. وليس ثمة مجال للدخول في تفصيلات هذه الأزمة، حيث تزيد فاتورة الحرب عن ستين مليار دولار، مع تعطّل السياحة، وتدهور النشاط الاقتصادي، وتراجع “الدخل القومي”، وهروب الاستثمارات.
سادسًا: إنهاك الجيش الإسرائيلي:
الإنهاك الذي يعاني منه الجيش الإسرائيلي يعطي مؤشرًا سادسًا على مدى الاضطراب والارتباك الذي تعاني منه المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. وهي حالة يرافقها فشل ذريع في أطول حرب يخوضها الجيش في تاريخه، وليس ثمة “إنجاز” سوى أسوأ وأقبح صورة دموية يمكن أن يُشكلها جيش عن نفسه، بعدما استنفد كل وسائله الوحشية.. ولم يبقَ لديه سوى متابعة “مناطحة الحيطان”.
يحاول الجيش الإسرائيلي إخفاء خسائره الكبيرة المتواصلة، لئلا تؤثر سلبًا على التجمّع الصهيوني في الأرض المحتلة، ويتحكم بشكل مسبق بمصادر المعلومات. غير أن التسريبات بين فترة وأخرى تدل على الخسائر المضاعفة بشريًا وماديًا. وتكثر التصريحات عن صعوبة توفير وحدات عسكرية لمتابعة العدوان في القطاع، وعن أزمة في قوات الاحتياط.
كما أن سعي الحكومة لإطالة فترة خدمة الاحتياط، وسعي الجيش والعديد من القوى الحزبية لإدخال الحريديم في الخدمة الإجبارية، وكذلك تشكيل فرقة عسكرية جديدة (الفرقة 96) من المتطوعين الذين تخطوا سنّ الاحتياط، وعدم قدرة الجيش على استمرار السيطرة على المناطق التي يحتلها في القطاع، كلها مؤشرات على ذلك الإنهاك، مع عدم وجود أفق للخروج من “المستنقع”.
سابعًا: ارتباك دولي:
من ناحية أخرى، فإن القيادة الإسرائيلية تجد نفسها في حالة إرباك غير مسبوقة على الصعيد الدولي نتيجة حربها على قطاع غزة. إذ إن حالة الاطمئنان إلى نفوذها العالمي الكبير، وحالة العجرفة نتيجة وضعها “دولة فوق القانون” طوال 75 عامًا، قد أغوتها لممارسة أشرس المذابح والمجازر وأسوأ أشكال التدمير، وممارسة إبادة جماعية وحرب تجويع قذرة لأهل غزة على مرأى من العالم.
وهذا أدّى إلى إثارة غضب عالمي واسع، بالرغم من كلّ أدوات النفوذ الإعلامي والسياسي والمالي التي تملكها “إسرائيل” واللوبي الصهيوني. فتحوّلت إلى كيان منبوذ عالميًا، وتمّ تصنيفها من الأمم المتحدة كقاتلة أطفال، وسِيقَت إلى محكمة العدل الدولية، وسِيقَ قادتها إلى المحكمة الجنائية الدولية، وسقطت الذرائع التي طالما سوّقها الكيان، وبنى صورته عالميًا على أساسها، مثل “احتكار الضحية”، و”العداء للسامية”، و”الدفاع عن النفس”، و”واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط. أصبحت “إسرائيل” عبئًا على الولايات المتحدة والعالم الغربي.
تحولت المعركة في غزة إلى “فخ” وورطة، إذ إن الاستمرار في المعركة يصب في تآكل وتدمير الوضع الإسرائيلي العالمي، ويخدم صعود التعاطف والتأييد للمقاومة، بينما يؤدي وقف الحرب عمليًا إلى فشل إسرائيلي غير مسبوق، وإلى فرض المقاومة شروطَها والإعلان عن انتصارها.
ثامنًا: قوى المقاومة في الخارج:
تعاني إسرائيل من تضييق الخناق عليها نتيجة تصاعد دور حزب الله في لبنان وأنصار الله (الحوثيين) في اليمن، مما يسهم في إنهاك الكيان وإضعافه وتشتيته. وبالرغم من الغضب الإسرائيلي والرغبة في الانتقام وتكرار التهديدات بفتح وتوسيع “الجبهة الشمالية”، فإن الاحتلال الإسرائيلي يعيش حالة ارتباك وعجز عن تنفيذ تهديداته، بسبب حالة الإنهاك التي يعيشها في قطاع غزة، وعدم توفر الإمكانات التعبوية والبشرية والمادية الحقيقية لفتح جبهة مع الشمال، بالإضافة إلى معارضة الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لتوسيع الحرب لتأخذ طابعًا إقليميًا.
خلاصة:
وعلى ذلك، فإن حالة “التخبّط” ستحكم السلوك الإسرائيلي مادام أنه مُصرّ على حالة “الإنكار”.
سيحاول الاحتلال القفز إلى الأمام وشراء الوقت على أمل تحسين وضعه العسكري والتفاوضي، وهو ما يتوافق مع رغبة نتنياهو في البقاء في الحكم لأقصى أمد.
وسيواصل الاحتلال “إدارة التَّخبط” لمحاولة الحصول على فرص مُتخيَّلة؛ ولكن بالرغم من المعاناة الهائلة لأهلنا في قطاع غزة، فإن الزمن على ما يبدو يلعب لصالح المقاومة، والتي ربما تجد نفسها في وضع أفضل لفرض شروطها مادام أن أداءها القوي مستمر بالشكل الذي نراه.
لن يخلو الأمر من محاولات أميركية وغربية (وحتى من أطراف عربية) لإسناد الموقف الإسرائيلي، لتفريغ إنجازات المقاومة من محتواها، ووضعها من جديد تحت الحصار والابتزاز. وهو ما يقتضي أن تخوض المقاومة معركتها السياسية بالكفاءة نفسها التي تخوض بها معركتها العسكرية.