غزة وأطفالها: مرآة الألم وصدى الصرخات!!
لقد شاهدنا أجساداً منمنمة تخرج من تحت الركام وهي تفتقد رؤوسها. وشاهدنا وجوهاً صغيرة ممزوجة بالدماء والخوف تفتقد أعضاءها، وجوها تجسد واقع الرعب المرير الذي تعيشه. فكل جرح، وكل دمعة، وكل صرخة هي شهادة حية على القسوة التي لا تُحتمل
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وأنا لا أكتب سوى عن غزة وأهلها. لقد تعهدت لنفسي أن تكون زاويتي الأسبوعية مرآة لآلام أطفال القطاع، وصدى لصرخات الأمهات، وخبايا دموع الأجداد والجدات، وزعفرانًا لدماء الشهداء، ودخانًا لكل منزل يحترق وتحترق معه ذكريات أهله. تعهدت لنفسي أن أعيش يومياتهم لحظة بلحظة، أجمعها في مقالاتي الأسبوعية وكأنها فصول من كتاب بعنوان: «أسابيع غزة». لقد طالت الحرب وطالت «أسابيع غزة»، نعم طالت كثيراً، بل أكثر من الكثير بكثير، حتى خيّل لي أني قد أفلس عاطفياً من حدة الألم، وكثرة الموت، ووحشية الجوع، والدمار.
غزة، تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي تحتضن بين ثناياها قصص الألم والصمود، هي رمز للمعاناة الإنسانية التي تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية. بل هي مقبرة حيّة ارتكبت فيها أكبر مجزرة في القرن الأخير. أطفال غزة، بأعينهم البريئة التي لم تعرف سوى الحرب والخوف والنزوح والوجع، هم المرآة الحقيقية الوحيدة التي تعكس للعالم قسوة الحياة في ظل انعدام اللا إنسانية. أطفال يرضعون الدخان والدماء. فتجهضهم الحروب وترحل بألعابهم بعيداً. تلك التي سرقها المحتل، لتصبح أمنية من أمنيات كثيرة مشابهة، ولكن بعيدة المنال.
فكيف نجرؤ على الكتابة عن وجوه أخرى غير وجوههم؟ وكيف ننسى بعض تلك الوجوه الصغيرة التي ضاعت بعد سلسلة المجازر المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لقد شاهدنا أجساداً منمنمة تخرج من تحت الركام وهي تفتقد رؤوسها. وشاهدنا وجوهاً صغيرة ممزوجة بالدماء والخوف تفتقد أعضاءها، وجوها تجسد واقع الرعب المرير الذي تعيشه. فكل جرح، وكل دمعة، وكل صرخة هي شهادة حية على القسوة التي لا تُحتمل. فمن تلك العيون البريئة الخائفة نرى العالم كما هو: قاسٍ وغير عادل. فأطفالنا في غزة يعيشون في ظروف لا يمكن لأي طفل في العالم أن يتحملها، ومع ذلك، نجد في ابتساماتهم البسيطة حب الحياة والمقاومة.
وهل هناك أصوات تنزف وهي تنادينا، مثل صرخات أمهاتنا في غزة؟
إنها ليست مجرد أصوات، بل هي قصائد حزن معتق، وسمفونية ألم. كل أم في غزة تعيش يوميًا معاناة لا يمكن وصفها. كل واحدة منهن تحمل في قلبها قصة مروعة عن الفقدان والخوف. فلا حزن يشبه أحزانهن. ورغم ذلك، نجد في أعينهن إيمانا وقوة لا تنكسر. إنهن مصدر الحياة وسط كل الخراب والجنون والسقوط الذي أصاب العالم. وكتابتي المتواصلة عن غزة ليست سوى محاولة متواضعة لتوثيق تلك الصرخات، علها تشهد على مجازر المحتل وإجرامه.
ومن أهم من حراس الذكريات والتراث، من أغلى من أجدادنا؟ هؤلاء الأتقياء الأنقياء الذين يُضربون ويقتلون ويعذبون بشكل وحشي منذ شهور عدة وحكامنا العرب يكتفون بالتنديد َإصدار البيانات التافهة!
هكذا تحرص «أسابيع غزة» على خبايا دموع الأجداد والجدات.. وتجمع تجاعيد حراس الماضي.. هؤلاء الذين يحملون في قلوبهم حكايات الزمن الآخر، زمن لا يختلف كثيراً عن حاضرنا المعيب. أجدادنا الذين يسردون لنا قصص النكبات المتتالية والنزوح المستمر.
إن الكتابة عن غزة ليست مجرد توثيق للمعاناة، بل هي سلاح في مواجهة الجريمة الأكبر في القرن الأخير. ففي عالم يمتلئ بالظلم، الكتابة قد تساهم في نقل الحقيقة والحفاظ عليها. أما التمسك بالكتابة عن غزة، فلا يعني مطلقاً نسيان الحروب المشتعلة في جنوب لبنان، وسوريا، والسودان، واليمن. لكن غزة اليوم هي رمز للقضية الأكبر: قضية الإنسانية، وهي تمثل الصمود في وجه الظلم، والإصرار على الحياة، رغم كل الصعاب. ومعاناتها جزء من معاناة أكبر تشمل مناطق عديدة في العالم، وكلها تحتاج إلى أن تُروى قصصها.
إن تعهدي بالكتابة عن غزة هو جزء من مسؤوليتي ككاتبة ومسؤولية تجاه الأطفال الذين يستحقون أن تُروى قصصهم، تجاه الأمهات اللواتي تحتاج صرخاتهن إلى أن تُسمع، وتجاه الأجداد والجدات الذين لا يجب أن تُنسى ذكرياتهم. الكتابة هي الطريقة التي نستطيع بها أن نساهم ولو بشكل رمزي في مواجهة الظلم، وأن نكون صوتاً لمن لا صوت لهم. لذا لكل سلاحه في التعبير ولي «أسابيع غزة»، حتى يأتي اليوم الذي تنتهي فيه الحرب. ونأمل حينها ألا نبدأ في «أسابيع لبنان»، خصوصاً بعد تحذير بريطانيا للبنان باقتراب موعد ضربة إسرائيلية مرتقبة في منتصف شهر يونيو/حزيران، نقلاً عن صحيفة «الأخبار» اللبنانية، وبعد التصعيد الكبير في الشمال وحرب الحرائق المتبادلة.
بياعة كعك وغالونات المياه
من حكايات هذا الأسبوع في غزة… بياعة كعك صغيرة تدعى ميرنا تمشي برجلين حافيتين على شاطئ بحر خان يونس لتعيل أسرتها، تنظر إلى قطع المعمول التي تتراقص داخل علبتها الصغيرة، وهي تنتظر بفارغ الصبر بيعها كي تعود إلى خيمتها وتتحرر من حرارة الرمال التي تشوي وتسلق رجليها، وتكاد أن تفتت جلدها الطري. وفي مكان ليس ببعيد عنها طفلة أخرى تصرخ: ظهري انقطع من كثرة نقل المياه.. ولكني الكبيرة والوحيدة التي تستطيع مساعدة أمي. ثم تضيف والحرقة تلاعب صوتها: نحن نستخدم المياه كثيراً لجلي المواعين للغسيل، نحتاج المياه لكل شيء.
وتلك الحاجة الكبيرة يترتب عليها عدة مشاوير إلى مكان توزيع الغالونات لمحاولة الحصول على كمية الكافية.
تقف تلك الطفلة ساعات طويلة في طوابير لا تنتهي كي تحصل على مياه ملوثة، فالمياه في غزة ليست صحية وقد تسبب الكثير من الأمراض، التي لا علاج لها في ظل انهيار المنظومة السياسية والاقتصادية وغياب الأدوية وموت معظم الأطباء، في سابقة لم يشهد العالم لها مثيلا.