تشهد أوروبا في السنوات الأخيرة صعودًا لليمين المتطرف في المشهد السياسي، خاصة في العام 2024، بدا هذا المشهد واضحًا مع النجاح الذي حققه حزب البديل من أجل ألمانيا في الانتخابات الإقليمية، ففي ولاية تورينغن حصل اليمين على ما يقرب من ثلث الأصوات، وحل ثانيًا في ولاية ساكسونيا.
إنّ ظاهرة تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا تتطلب نظرة فاحصة لها، ولعل أول عوامل الصعود التي لم تلقَ اهتمامًا من الباحثين هو سقوط الليبرالية المعبرة عن الرأسمالية الغربية ومصالحها في فخّ الرأسمالية المتوحشة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فصار لدى الأحزاب الأوروبية الكبرى غرور السلطة الذي جعلها لا ترى الواقع بصورة سليمة، هذا ما ولد نهاية الأيديولوجيا أو التنظير السياسي ومحاولة صياغة خطاب له مشروع سياسي يقنع الجماهير.
هذه الثغرة التي سميت مجازًا الحداثة السائلة، ولدت في النهاية ساسة ليسوا بذات الكفاءة التي كان عليها السياسيون في أوروبا. فماكرون ليس بذات كفاءة رؤساء فرنسا كفرانسوا ميتران، أو فاليري جيسكار ديستان، ولا حتى جاك شيراك، لذا سقطت هيبة مؤسسة الرئاسة في فرنسا أمام خطاب جان ماري لوبان، وهذا ما جعل فرنسا تعيش أزمة سياسية غير مسبوقة.
أزمة القيادة في أوروبا
لعل ما سبق يقودنا إلى أزمة القيادة في أوروبا، وهي أزمة غير مقصورة عليها، وهذا ما دفع هنري كيسنجر ليؤلّف قبيل وفاته كتاب “القيادة”، طارحًا تساؤلات حول من هو القائد السياسي، وديناميكيات عمله، وهو ما يقوم في جانب منه على الخيال السياسي المبني على موهبة السياسي ذاته، في وقت بات خطاب اليمين المتطرف في أوروبا يدغدغ المشاعر، وبالتالي يكتسب يومًا بعد يوم مساحات جديدة.
إن ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم كنتيجة طبيعية للحرب الروسية الأوكرانية دفعا أحزاب اليمين المتطرف في ألمانيا، وفرنسا، وهولندا، والمجر، والنمسا إلى تحقيق المزيد من المكاسب في الانتخابات المحلية، وفي انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2024، لدرجة يمكن معها القول إن عام 2024، هو عام اليمين المتطرف في أوروبا.
بنظرة فاحصة، سيقول المتابع إن هذا اليمين متمركز في غرب أوروبا، بينما الشرق لا يعاني من ذات المشكلة، وفي حقيقة الأمر أن أوروبا الشرقية هي من تدفع هذا اليمين إلى السلطة، فلم تدرك أوروبا الغربية أن الفراغ الفكري الذي تركته الشيوعية كان من الضروري ملؤُه، فصار هذا الفراغ هو البيئة المثالية لليمين المتطرّف، وتعتبر المجر مثالًا جيدًا على هذا، فهي كانت أكبر الخاسرين في الحرب العالمية الأولى بخسارة جزء كبير من أراضيها، وما زال الحنين للمجر الكبرى باقيًا.
إذا كان هذا هو الوضع في الشرق، فماذا عن الشمال الغني والأكثر رفاهية؟
سنأخذ حالة السويد مثالًا، حيث التسامح الذي عرفت به المجموعة الإسكندنافية، ففي السويد برزت حركة المقاومة الشمالية، وهي حركة اشتراكية عابرة للحدود الوطنية، وتمثل النازية الجديدة، ولها فروع في فنلندا والنرويج، وتستمد الدعم من النازيين الجدد في الدانمارك وآيسلندا، شكلها القوميون النازيون الجدد في السويد عام 1997، وهي تدعو إلى جمع بلدان شمال أوروبا في دولة قومية اشتراكية، ولدى الحركة موقع نشط على شبكة الإنترنت ونشاط مكثف في وسائط التواصل الاجتماعي، وبودكاست يبثّ عبر راديو أسسه عضو المجموعة روبن بالمبلاد.
شيخوخة الأوروبيين
كانت أوروبا قد حظرت النازيين، مما جعل حركة النازيين الجدد تتخذ أشكالًا مختلفة، وتعمل تحت غطاء غير صريح، لكن في السنوات الأخيرة بات حضور النازيين الجدد أكثر صراحة، أما الفاشية في موطنها إيطاليا فهي لم تحظر، حتى إن وجودها محسوس، فالعديد من الجماعات والأحزاب تذهب فكريًا إلى الفاشية وعنصريتها. ومن هذه الحركات:
فورزا نوفا: حجر الزاوية في فكرها ” الإيطاليون أولًا “، حيث يسعى الحزب لتحفيز النمو السكاني، وإعادة دور الكنيسة الكاثوليكية، ومعارضة زواج المثليين، وترحيل المهاجرين.
جماعة الفيلق الأخير: وهي جماعة متعصبة، وفي مايو/أيار 2021 هاجمت الشرطة 25 منزلًا لأعضائها، وصادرت أسلحة ومواد دعائية، وهي تنادي باستخدام العنف ضد المهاجرين.
رابطة الشمال: حزب سياسي يدعو إلى استقلال الشمال الإيطالي الغني عن الجنوب الفقير.
كان صعود جورجيا ميلوني وحزبها إخوة إيطاليا للحكم عام 2022 رمزًا لصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، فهي تحكم إيطاليا بعدما فازت بـ 237 مقعدًا من 400 مقعد في البرلمان.
أفكار متطرفة
هناك مشتركات بين اليمين المتطرف في أوروبا سواء كجماعات أو أحزاب. هي:
هاجس الهجرة : في ظل شيخوخة الأوروبيين ونقص العمالة، خاصة في تخصصات حيوية بالنسبة للأوروبيين كالطب والهندسة، صاروا يدركون أن أوروبا تخرج من أصولها لتصبح أوروبا أخرى مع الزمن، هذا الهاجس شكّل رافدًا غذّى العصبية الأوروبية، واستدعى مقولة تفوق الجنس الأبيض، فصار طرد المهاجرين مطلبًا شعبويًا، ليكون المأزق الذي لم تجب عنه أوروبا: هل تستطيع العيش والبقاء دون المهاجرين.
محاربة المثلية: باعتبارها ضد الطبيعة الإنسانية، وهي تعوق النمو السكاني التقليدي للسكّان الأصليين، كما أن سكّان المدن الصغيرة والريف يرون أنها ضد الدين.
عودة الكنيسة: كمحفز للرابطة الوطنية، ومحفز للتعصّب والعصبية الدينية.
الشعوبية السياسية: حيث يحدد العامة توجهات السياسة، وهذا نتاج الحداثة السائلة، ونهاية الأيديولوجيا في أوروبا.
السلطوية: ترتكز على تشديد قبضة السلطة، وتعظيم استخدام العنف.
الانكفاء على الداخل: كل الأحزاب اليمينيّة المتطرفة والجماعات المتطرّفة في أوروبا تدعو إلى الانكفاء على الداخل، فجلها ضد الاتحاد الأوروبي حتى لو استخدمته مؤقتًا، هي تدعو إلى العصبية الوطنية في أقصى صورها، وبعد الانتخابات الأخيرة صارت ألمانيا تفتش السيارات القادمة على حدودها، بل كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نتيجة لدعوات حزب الاستقلال البريطانيّ.