التقيت خلال عملي بشاب ناضج بلغ العشرين من عمره، كان قد ترك وطنه سوريا الذي لم يعرفه وتوجه إلى تركيا برفقة أمه وإخوته في سنّ العاشرة، تاركًا وراءه بيتًا مهشمًا وقبرًا جافًا، بات فيه والده وحيدًا منتظرًا يوم الفصل.
وفي تركيا أجبرته الحياة على العمل فور وصوله في مشغل للخياطة؛ بغية الاستمرار في العيش ومجابهة كل الظروف المحيطة.
أخبرتني عينا هذا الشاب عن آلامه وأحلامه المتواضعة المندثرة، وأخبرني هو عن بائع جوازات السفر في أثينا، الذي أصبح يتعرف على المواطن السوري دون الحديث معه، ويقوم بعرض خدماته وبضاعته بلغة عربية عامية ركيكة. فكان هذا البائع الملاذ الأخير لكل فاقد هوية ألقت به الأمواج على أحد الشواطئ الإغريقية.
رأيت ذاتي في هذا الشاب، وتذكرت ما مررت به من عذاب في رحلة مشابهة سبقت رحلته بتسعة أعوام. كنت دائمًا أبكي سنوات ضاعت دون ذنب أو تقصير مني. سنوات وقف فيها الزمن بالنسبة إلي وامتنع عن المسير حتى عودتي. ولطالما حزنت على وقت لم أقضِه مع أصدقائي ورفاقي في المدرسة أو الجامعة كما كان من المفترض أن يكون، فقد كان قدري أتعس ودربي أشقّ مما ظننت في صغري. حتى إنّ أماني الطفولة قد سلكت طريقًا غير الذي سلكت بعدما علمت بعسر طريقي.
كان هذا ما أراه في نفسي وما أصف به قدري، حتى سمعت حكاية هذا الشاب الذي يبدو كأنه شاخ وهرم. كنت أعلم دائمًا أن حالي ليس بالأسوأ، فالقصص التي ولدت في بلادي كثيرة لا تحصى، وللشقاء في موطني نبعٌ لا ينضب وشجرةٌ خالدة لا تجف ولا تموت. ولكن الأمر قد اختلف لدي، فهنا أسمع القصة من بطلها بعيدًا عن شاشات التلفاز وأوراق الصحف. ولربما كان هذا ما ترك فيّ أثرًا مختلفًا.
أعادتني هذه الحكاية إلى طرح الأسئلة والتفكير الطويل بما حلّ بنا ودفعنا إلى ما نحن عليه. وكالعادة، أوصلني التكفير المتواصل إلى نتيجة مماثلة لتلك التي وصلت إليها عندما كدت أتجمد في شاحنة على الحدود بين تركيا وبلغاريا، وهي أن السؤال والتفكير في أمر كهذا ما هي إلا حماقة. فمن يعيد لي ما سرق مني أو مِن صاحب الرواية الذي التقيته؟ ومن يعيد الدماء إلى فاقديها؟
رغم كل ما حصل وبعد كل هذه الخسائر، بدأت الأمور بالتوجه إلى مكان مختلف. فما أراه الآن بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على النكبة السورية، هو أن الكثيرين قد رضخوا إلى واقع الحال، ناسين كل الذي مضى عليهم. وما يخيفني ويبعث الرعب في جسدي هو اعتياد الذل وسباق الجميع إلى مصافحة القاتل. وكأن شيئًا لم يكن. فلمن أثكلت النساء، ولمن وُئد الشباب، ولمن دُمرت المدن وهجر أصحابها؟! وكيف نعتاد الظلم والقهر والضيم والأسى وننسى أنفسنا وماضينا وتاريخنا الحافل؟!
إقرأ أيضا : ما دلالات تعيين مستشارة لكامالا هاريس
لم أستطع أن أطمئن هذا الشاب وأحدثه بأن الأمور ستكون على ما يرام، فأنا عاجز كل العجز عن فهم ما يجري، وما يدور في رؤوس المتصارعين. ولكني عرفت شيئًا واحدًا، وهو أننا نسير الآن في الطريق الخاطئ.
إن الحال والركود اللذين وصلنا إليهما الآن من أخطر المراحل التي مررنا بها، فهما كالورم يتفشى في أنسجتنا وينهينا دون سابق إنذار. ليس لنا الآن إلا زراعة الأمل في أنفسنا وفي الجيل القادم، وتذكيرهم بما يحملون على عاتقهم، فقضيتنا أعظم من أن تنسى. وإن كنت أنا وحيدًا في هذا الطريق، فإنني لن أتخذ النسيان والتجاهل حلًا، وسأظل منتظرًا الوقت الذي يتيح لي متابعة ما بدأ به من قدموا أرواحهم؛ آملًا الوصول إلى ما حلموا به. فبلادي لا تحتاج أحدًا، ولكن كثُر سارقوها ومغتصبوها.