انتهت حقبة سياسية مريرة ودموية من تاريخ سوريا الحديث، وتسلمت قوى الشعب مقاليد الحكم لأول مرة منذ زوال الاستعمار. ومع هدير تكبيرات وزغاريد الفرح بالخلاص من الاستبداد والفساد، يواجه الثوار تحديات ضخمة ورهيبة يومية لا بد من مواجهتها، تبدأ بحفظ النظام والأمن والتموين، ولكنها لا تكاد تنتهي.
وقبل التطرق لملامح سوريا الجديدة التي أتمناها ويتمناها كثيرون، أود أن أسلط الضوء على أهم التحديات الاستراتيجية التي تواجه القيادة الجديدة لسوريا اليوم، وقوارب النجاة اللازمة في المرحلة القادمة.
الشعوب التي عانت من حكامها الذين قتلوهم أو هجَّروهم أو نهبوهم أو استغلوهم، أو فعلوا كل ما سبق كما حصل في سوريا، تريد أن تشارك في الحكم وتضمن العدالة، وأصبحت تخشى الحكم المطلق والشمولي بعد أن صليت بناره عقودًا طويلة.
اقرأ أيضا.. سوريا زهرة الربيع العربي ودروس المرحلة
أول هذه القوارب هو “حماية الثورة”، التي شاركت فيها أو أيدتها الغالبية العظمى من الشعب السوري العظيم؛ فليس لدى الثوار وقت طويل لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وسيبدأ أعداء سوريا -بل بدؤوا منذ اليوم الأول- في إثارة المعضلات بشتى أنواعها لإجهاض ثورة الشعب السوري وإقامة دولته الواعدة، وفي تجارب الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي والثورات المضادة أمثلة واضحة يجب الإفادة منها. لذا، فلا بد من تبني استراتيجية دفاع شاملة لحماية الثورة، بالتوازي مع بناء النظام السياسي الجديد، وهذه الاستراتيجية تبدأ بإنشاء حرس ثوري، ولو بشكل مؤقت، ولا تنتهي بدمج قوات الثورة في المجتمع والجيش العربي السوري بضوابط بدهية.
ثاني هذه القوارب هو تحقيق وحدة أراضي الدولة السورية بكافة مكوناتها، بما فيها مناطق الكثافة العلوية والكردية والدرزية، وتلك التي فيها وجود عسكري أجنبي أو مليشيات معادية. وهذا يستلزم انتهاج التعددية السياسية في سوريا الجديدة، وشام شعرة معاوية لن يصعب عليها استيعاب الكل السوري بشكل يحبط خطط الأعداء لتفتيت سوريا طائفيًّا وعرقيًّا. ولا يخفى على المعارضة أنه على يديها كانت نهاية النظام السوري البائد، وقد يتأتى لمعارضيها تكرار الشيء نفسه ضدها إن لم تستوعبهم.
وثالث هذه القوارب هو تأمين العمق الاستراتيجي إقليميًّا ودوليًّا. وهذا يستدعي علاقة صفرية التوترات إقليميًّا مع تركيا والأردن، وكذلك لبنان والعراق الرسميين، بما في ذلك إقليم كردستان. كل هذه الدول فيها سوريون وجدوا فيها الأمان عندما كان الأسد يقتلهم ويهجرهم ويرعبهم، ومن المفيد عمليًّا ورمزيًّا أن يصبح دخول سوريا من هذه الدول بالبطاقة -وبالعكس كذلك- ضمن ترتيبات توافقية. وهذا من شأنه تنشيط التجارة والسياحة والعلاقات والأواصر. أما دوليًّا، فيتم ذلك بالاستمرار بالخطاب الإيجابي الذي فاجأت به المعارضة إيجابيًّا أميركا والغرب والعالم، وباتخاذ خطوات سريعة تنفيذية تلي حل التنظيمات الثورية، وانخراط الجميع في الدولة الناشئة والهيئات الانتقالية والأحزاب والمجتمع.
ورابع هذه القوارب هو إبقاء العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي في إطار القانون الدولي، الذي ينص على احتلال إسرائيل للجولان والأراضي السورية الأخرى التي احتلتها في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، ورفع الاعتداءات الإسرائيلية إلى مجلس الأمن والمحاكم الدولية لحين إعادة البناء السريع للجيش وأجهزة الدولة الحساسة؛ فمن المعروف أن إسرائيل تسعى لاستدراج سوريا وإجهاض تحررها، وإغراقها في مستنقعات الدولة الفاشلة وتدمير مقدراتها بحجج معروفة. ولذلك، فمن الضروري أن تقدم الحكومة الانتقالية شكوى عاجلة لمجلس الأمن ضد اعتداءات وانتهاكات إسرائيل، وعقد اتفاقات دفاع مشترك مع دول الجوار، وخاصة مع الأردن والعراق، لضبط الأمن على الحدود المشتركة، وكذلك مع تركيا بالطبع على غرار اتفاقاتها مع أذربيجان وليبيا وقطر وغيرها.
وخامس هذه القوارب هو بناء الهوية الوطنية الجديدة، التي ينتظرها الشعب العربي السوري بفارغ الصبر، والتي تعتز بتراثها وتاريخها وحضارتها، وتعكس طموحاتها في الحرية والكرامة والعدالة والتقدم والتنمية والقيم الراقية. وبناء هذه الهوية في سوريا وفي العالم العربي هو أسهل مما تصوِّره الأنظمة الاستبدادية لشعوبها وللغرب والعالم؛ فالشعوب التي عانت من حكامها الذين قتلوهم أو هجَّروهم أو نهبوهم أو استغلوهم، أو فعلوا كل ما سبق كما حصل في سوريا، تريد أن تشارك في الحكم وتضمن العدالة، وأصبحت تخشى الحكم المطلق والشمولي بعد أن صليت بناره عقودًا طويلة.
جميع النخب السياسية تدرك أنها على مفترق طريقين، إما حكم رشيد ومعاصر وديمقراطي، وإما حروب أهلية مدمرة
ولذلك فإن بناء نظام سياسي، يكون نموذجًا مدنيًّا وحرًّا ومتقدمًا يحمي الحريات المدنية وحقوق الإنسان للجميع، ويضمن التعددية والتداول السلمي للسلطة، ولا يتنكر لحساسيات الأغلبية ولا الأقليات، لن يكون عسير المنال. ولعل التصريحات الصادرة عن قيادة المعارضة، وتجاربها العملية والميدانية، تشير إلى تطور نضوج سياسي جيد سوف يؤدي إلى ما ذكرناه.
وجميع النخب السياسية تدرك أنها على مفترق طريقين، إما حكم رشيد ومعاصر وديمقراطي، وإما حروب أهلية مدمرة. وعليه، فلا بد لتحقيق ذلك من سياسة إعلامية متميزة وحديثة، تمجد وترسخ ثورة الشعب على الطغيان والفساد والارتهان للخارج، وهي -بلا شك- أعظم ثورة أشعلها الشعب منذ الاستقلال.