أمريكا

سر تحول القوة العسكرية الأميركية من حاسمة إلى رهينة

هل القوات الأميركية تتذمر من ساحات القتال مع الإرهاب أم أن هناك ثمة ما يلجمها؟ هل لم تعد قادرة عسكرياً على مواجهة الأطراف نفسها التي واجهتها في الماضي أم أن شيئاً آخر بات واقعاً جديداً في واشنطن؟

عرضنا في المقال السابق كيف أن القوة العسكرية الأميركية تمكنت بعد الحرب الباردة من أن تحسم المواجهات الكبرى في الشرق الوسط مع أنظمة عسكرية قوية وعالية التسلح كما كان الوضع في العراق وليبيا أو منظومات ميليشياوية مصممة على العمليات الانتحارية أو حروب الكوماندوس، كما كان الوضع مع “طالبان” في أفغانستان ومع “داعش” في الهلال الخصيب. وحسمت أميركا تلك المواجهات من دون تردد، من دون مماطلة، وبسرعة نسبية عليا.

دامت الحسومات الأميركية حتى عام 2021 حين بدأت ساحات المواجهات تبدو أصعب للقوات الأميركية في المنطقة. ومع العلم أن الولايات المتحدة أزالت نظام معمر القذافي في ليبيا بالقوة العسكرية في عام 2011، وفككت “داعش” منذ عام 2015، إلا أن تمنع واشنطن من حسم بعض المواجهات ضد خصومها بات أكثر وضوحاً منذ بداية عام 2021. فكيف حصل هذا التطور؟ الواضح أن شيئاً ما قد تغير منذ عام 2009 مع تسلم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما السلطة، فمنذ تغيير الاتجاه تم توجيه القرارات الاستراتيجية لتتفادى كسر القوى الإسلامية.

وبدأنا نرى القوات الأميركية في المنطقة تتأنى، وتحسب الحسابات، وتتردد، أو تتحفظ إذا كان الخصم مرتبطاً بالنظام الإيراني أو المنظومة الإخوانية، ولكن إدارة أوباما أطلقت يدي المارد العسكري في ليبيا ضد قوات القذافي، وأسقطت النظام وسلحت ودعمت الميليشيات الإخوانية.

وبدأت الناس تسأل عما يحدث، هل القوات الأميركية تتذمر من ساحات القتال مع الإرهاب أم أن هناك ثمة ما يلجمها؟ هل لم تعد قادرة عسكرياً على مواجهة الأطراف نفسها التي واجهتها في الماضي أم أن شيئاً آخر بات واقعاً جديداً في واشنطن؟ بات هذا التغيير يبين أوائل المؤشرات حول استضعاف القوة العسكرية الأميركية وعدم قدرتها على حسم المشروع بصورة حاسمة في أفغانستان أو العراق منذ 2010.

عبر مراقبة موضوعية وتاريخية يتضح أن القوة العسكرية والوسائل الدفاعية الأميركية لم تتغير بقوتها ولكنها تطورت إلى الأمام، ومع ذلك فإن القرار السياسي في واشنطن هو الذي بات يشل قدرة العسكر الأميركي على تنفيذ المهام الاستراتيجية الكبرى.

فما بين 2014 ونهاية 2016 تحركت القوات الأميركية لمواجهة “داعش” في سوريا والعراق ولكن تحركها لم يكن بالسرعة المقبولة وأخذ شوطاً كبيراً من الوقت حتى تغيير الإدارة في بداية عام 2017. ماذا عنى ذلك؟ أن إدارة أوباما التي أسرعت بالانسحاب من العراق في 2011 وأسرعت أيضاً بإسقاط القذافي لم تضع كل ثقلها ضد “داعش” في بداية المواجهة مع التنظيم الإرهابي، وكان هذا أول مؤشر إلى أن المسألة ليست بالقدرة العسكرية الأميركية، بل بالقرار السياسي في واشنطن، أي التغيير بين إدارتي باراك أوباما ودونالد ترمب وكان تغييراً سياسياً، بالتالي دور التأثير الإخواني، ومن ثم أيضاً الدور القطري في التأثير في هذه القرارات السياسية.

أفغانستان

منذ وصول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في عام 2021 إلى البيت الأبيض كان التساؤل الأول هو ما مدى قدرة القوات الأميركية في أفغانستان؟ والسؤال كان حول قدرة الجيش الأفغاني كجيش وطني جديد في تسلم زمام الأمور في البلاد. بدا واضحاً أن أميركا دربت وجهزت أكبر جيش أفغاني في تاريخ البلاد وكان هدف هذا التجهيز هو تهيئة الجيش الوطني للتسلم في أغسطس (آب) 2021، ولكن الشعب الأفغاني والعالم الحر صعقا بما جرى، فبدل التسلم والتسليم بين القوات الأميركية وجيش البلاد، شاهد الرأي العام “هرباً” للقوات الأميركية من أفغانستان، والأسوأ من ذلك “تسليم الجيش الأفغاني” لحركة “طالبان” بدلاً من تسليم البلاد له.

هنا بدأ أخصام أميركا يتباهون بأن الانتصار على واشنطن عسكرياً أمر ممكن، بينما الواقع كان صفقة بين إدارة بايدن و”طالبان” في الدوحة لتسليم السلطة للميليشيات وتفكيك الجيش.

والسؤال الحقيقي هو ما سبب هذه الصفقة العجيبة الغريبة التي سلمت البلاد إلى هذه القوة الميليشياوية الإسلامية. وأكثر من ذلك التضحية بالجيش الأفغاني الذي كلفها عقوداً من التدريب والتجهيز والتمويل. أضف إلى ذلك قرار غير طبيعي لإدارة بايدن بتسليم الأسلحة والذخائر الأفغانية التي قدمتها واشنطن للجيش إلى “طالبان”.

في الحقيقة إن هذا الأمر لم يكن نتيجة معركة عسكرية أدت إلى “هرب” القوات الأميركية من أفغانستان بل كان توجيهاً سياسياً من البيت الأبيض صدر إلى “البنتاغون” بتسليم السلطة لـ”طالبان”، والأسوأ من ذلك تسليمهم عتاداً وذخيرة وآليات بقيمة مليارات الدولارات ومعلومات استخباراتية لا تقدر. إذاً القوات الأميركية لم “تخسر” في أفغانستان بل “أمرت” بالانسحاب وتفكيك الجيش الحليف.

واستمرت سيناريوهات الانتكاس على مدى سنوات إدارة بايدن ومن أهمها ما يلي:

الهلال الخصيب

إضافة إلى كارثة أفغانستان كثر لا يفهمون كيف أن انتشار القوات الأميركية بين العراق وسوريا لم يقطع الحدود بين البلدين على النظام الإيراني؟ كان هذا بداية – ولا يزال – الانتكاسة الأولى لواشنطن، فهذا السؤال مطروح من دون جواب منذ ست سنوات.

والسؤال الثاني، كيف يمكن للميليشيات الإيرانية أن تستمر عبر الهلال الخصيب بين العراق وسوريا ولبنان؟ أليست الولايات المتحدة قادرة على بناء جدار يقطع أوصال التواصل الاستراتيجي الإيراني وقد كتبنا عنه مراراً وتكراراً؟

والجواب المهني العسكري يأتي من متخصصين داخل واشنطن وفي الشرق الأوسط، ويتلخص في أنه لو أرادت قيادة البنتاغون قطع التواصل الميليشياوي بين إيران والبحر الأبيض المتوسط لكانت فعلته في الأقل منذ عام 2021، خصوصاً مع الوجود الأميركي في كردستان العراق وعلى طول حدود العراق وسوريا وفي مواقع عدة من شمال شرقي سوريا وقواعدها على خط الحدود الأردنية – السورية، والاحتفاظ بقدرات عسكرية إلكترونية بخاصة قطاعات الطيران والدرونز في كل هذه المناطق.

ببساطة كل الممرات والطرق التي تسلكها قوات الحرس الثوري الإيراني أو ميليشياتها، سواء كانت عراقية أم سورية فجميعها على مرأى الأقمار الاصطناعية والطائرات وأبراج المراقبة الأميركية، وللبنتاغون قدرة مباشرة وسريعة في كشف أي مرور عسكري أو أمني إيراني عبر هذه الحدود.

وللقوات الأميركية أيضاً عيون في الصحراء العراقية وبادية الشام، وعلى رغم صغر حجم انتشار قواتها فهي بمقدورها أن تقطع مرور أي قطعة للجماعة الموالية لإيران وحتى من دون أن تتدخل بقوات المشاة، والجواب مرة أخرى لدى القيادة في واشنطن أنه لم تصدر أوامر لإقفال هذه الحدود وهذا يكفي لفهم الوضع.

الحوثيون

الساحة الثانية التي تفجر تساؤلات أكبر في الأوساط الدفاعية الشرق أوسطية والدولية وحتى داخل الكونغرس الأميركي هي ساحة المواجهة بين الحوثيين والبحرية الأميركية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

يعرف المتخصصون تماماً نوعية الأسلحة وقدرة المواجهة الصاروخية والدفاعات الجوية للميليشيات الحوثية، وكانت هناك فترات من الزمن عندما وجهت السعودية وحلفاؤها في التحالف العربي ضربة لمواقع الحوثيين لإجبارها على وقف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي لأزمة اليمن، كما كانت هناك مراحل رأى فيها العالم قدرة القوات اليمنية الشرعية بخاصة قوات الجنوب المتمركزة في عدن في وضع حد للتقدم الحوثي.

إذاً من دون تدخل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كان التحالف العربي يتقدم ولو ببطء لردع الميليشيات الحوثية، إلا أن إدارة بايدن ضغطت بشكل غير اعتيادي على الرياض وسائر العواصم العربية لإيقاف حربهم على الميليشيات الإرهابية، هذا كان السؤال الأسهل ولكن السؤال الأصعب والأكبر هو منذ بضعة أشهر عندما تحركت قطع البحرية الأميركية وحشدت في جنوب البحر الأحمر وكيفية المواجهة مع الحوثيين، لماذا لم تحسم واشنطن المعركة معها؟

الانتشار الحوثي بالصواريخ الباليستية والمسيرات فهل أميركا غير قادرة على المواجهة؟ إن القدرة النارية للقوات الأميركية في تلك المنطقة بإمكانها وبسهولة أن تسكت التحركات الحوثية وصواريخها الباليستية بل ويمكنها السماح للقوات اليمنية والأخرى الجنوبية بأن تحرر المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات تدريجاً.

بعض المتخصصين العسكريين وحتى الضباط الأميركيين يستهزئون بالمظاهر الحوثية، ويقولون بصورة غير رسمية إن هذه ليست حرباً بل “مسرحية”. إن الأساطيل الأميركية – البريطانية وبعض القطع الفرنسية بإمكانها خلال ثلاثة أسابيع إنهاء الوضع الحوثي ليس فقط على الشواطئ اليمنية ولكن في كل مناطقهم. والسؤال الآن هل هذا يعني أن القوة الأميركية العسكرية غير قادرة؟ الجواب دائماً يأتي لا، بل إن القرار الأميركي غير جاهز.

“حزب الله”

السؤال الكبير الذي يتعلق بأقوى وأوسع تلك الميليشيات وأقربها إلى النظام الإيراني أي “حزب الله”، هو سؤال قديم ويرتبط بكيف أن الولايات المتحدة تسمح للحزب بأن يتمدد في كل لبنان وبعد ذلك في سوريا والعراق ويشكل خطراً عسكرياً كبيراً على واشنطن نفسها.

ثم إن السؤال الثاني الأكثر تأثيراً هل الولايات المتحدة بأسطوليها الخامس والسادس وقواتها الجوية ذات الخبرة الطويلة غير قادرة على مواجهة “حزب الله” في لبنان؟ تضيف البروباغندا الإيرانية أن هذه الجماعة “وصلت إلى قوة ربما لا تقهر”. ويضربون مثالاً بما حدث للقوات الأميركية بين العامين 1982 و1984. مع الإشارة إلى أن القوات الأميركية المتمركزة وقتها كانت قوات سلام تحمي الفلسطينيين ولم تكن هجومية قتالية، وفاجأها وقتها “حزب الله” بعمليات إرهابية من تفجير المارينز في بيروت إلى الاختطاف والاغتيال وليست مواجهات قتالية.

كما أن لدى الولايات المتحدة في البحر الأبيض المتوسط والمنطقة ما يكفي في الأقل لتنفيذ مهمة بسرعة وهي منع “حزب الله” من التمدد خارج مناطقه، خصوصاً أن تلك الجماعة لا تملك كل الأرض في لبنان، وإن كانت هناك مواجهة بين الأميركيين والحزب فأول عملية لواشنطن إذا صدر قرار، هو حصر قوات الحزب داخل مناطقه أي منع قوافل الدعم أن تتحرك بين الجزر الثلاث التي يسيطر عليها الحزب الموالي لإيران.

أما المرحلة الثانية فتتمثل في ضرب خط المواصلات بين مواقع “حزب الله” في لبنان وسوريا والعراق، وتأتي المرحلة الثالثة وربما الأهم بدعم الفئات المناهضة لـ”حزب الله” في كل مناطق لبنان من الجبل والشمال والبقاع وحتى بعض نقاط الجنوب. طبعاً لو أرادت القوات الأميركية أن تحصر الجماعة فلديها قدرات لوجيستية غير متناهية وقدرات جوية وإلكترونيات بإمكانها أن تعزلها في لبنان، هذا فضلا عن نفوذ واشنطن داخل الجيش اللبناني ولا نقول كله.

ما بين هذا وذاك، وبعد التوقف على كل هذه الجبهات، ما الخلاصة العامة؟ أن الولايات المتحدة التي تمتلك قدرة على مواجهة الجيوش الكبيرة لديها القدرة على مواجهة وحصر وربما إزالة أي قوة ميليشياوية تابعة لإيران في المنطقة، وهذه خلاصة أولى.

والخلاصة الثانية والكبرى هي أن حدود القوات الأميركية هي القرارات السياسية الصادرة من البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية وأحياناً الكونغرس وليست وزارة الدفاع.

لذا فرداً على السؤال وهو أحياناً سؤال استخفافي في المنطقة، لماذا لا تضرب أميركا هذه الميليشيات بخاصة عندما تعتدي على مصالحها؟ والجواب أوضح من أن يكون لأن القوات العسكرية وإن كانت خارقة لا تكسر فهي مأمورة سياسياً من الحكومة. إذاً كل ما على القوى الراديكالية أن تقوم به هو التأثير في القرار السياسي، وهذا ما يسمى اللوبي، فالقوة العسكرية الحاسمة هي بالنتيجة رهينة القوى السياسية المالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى