ملفات فلسطينية

دم الطفل الفلسطيني.. كفاح ونضال وصمود

صنعت فلسطين أبطالها منذ ثلاثة أرباع القرن، وأحدث بذلك حالة استقطاب في عالم يضم أشكال البشر وأطيافا واسعة من القناعات الفكرية والانتماءات الأخلاقية، حتى أصبح دم الطفل الفلسطيني يتأرجح بين سماء فلسطين وأرضها.

لن أبكيه ولن أنعاه ولن أودّعه، فمن أنا لأفعل ذلك؟ كيف أبكي من ابتسم بوجه الردى؟ وكيف أنعى من يرى الموت حياة؟ وكيف أودّع من لا يموت؟ إنه ينتمي لفئة الذين يعتقدون أن الحياة تبدأ يوم استشهادهم. لقد عبروا جسر الحياة بعد أن بلغوا مناهم، فصبروا وصابروا واتّقوا ربّهم حتى قدّر لهم الولوج إلى عالم الخلود من بوابة الشهادة. كان جالسا في استراحة المقاتل، وآثار المعركة أوهنت جسده الطيني، يلوّح بإحدى يديه وهو في طريقه إلى الخلود، هادئ البال، مطمئن النفس، موحيا للآخرين بأن درب البقاء يمرّ عبر الشهادة.

لقد عاش حياته مؤمنا بقضيته، حملها مشروعا طوال عمره، ولما أزِف وقتُ الرحيل تخطّى الجموع ليعبرَ الجسر إلى الآخرة، وقلبه مطمئنٌ بالإيمان بعد أن أدّى دوره وترجّل واستعدّ للقاء ربه. كان مشهد النيران وهي تلتهمه مرعبا لمن يخاف الموت، بينما كان ابن الأقصى رافع الرأس، ثابت الخطى، واثقا من نفسه ومطمئنا للرحمة الإلهية التي تنتظره، عارفا بحتمية انتصار قضيته.

مشهد آخر لطفل يتسلّق الطريق الذي سبقه إليه من يكبره سنّا، لم يقض في حجر أمه إلا ردحا قصيرا من الزمن، عندما استجاب لنداء الواجب، وكأنه رجلٌ راشد، فأبى أن يتخلّف وأصرّ على التصدي للعدو ليواجهه وليظهر له حماس الجيل الفلسطيني الجديد الذي ورث عقودا من الاضطهاد والاستضعاف والاحتلال، فأبى إلا أن يتحدّى هذه التفاهة الصهيونية، ويدفع الروح العربية والإسلامية للتحليق في عالم الملكوت والطُّهر الخالي من الدنس. وما هي إلّا فواق ناقة حتى التهمته طاحونة الموت التي أعدّها أعداء الإنسانية لمن يرفض الاحتلال ويسعى لدحره. في هذا الزمن الرديء لم يعد ثمة مكان لذوي الذوق الرفيع والهمم الرفيعة، بل أصبح مرتعا لعشّاق الدنيا مهما هزلت. أما هو فقد اعتبر الحياة مجالا لبناء الذات وتزكية النفس والتواصل مع الغيب والتصدّي للظلم وابتغاء ما عند الله.

حتى هذه اللحظة عجزت طاحونة الموت عن إخماد صوت الحرّيّة بعد أن طحنت رؤوس الآدميين. فصوت الحياة يرتفع من كل زاوية في تلك الأرض المعذّبة، ينطلق من القبور التي تضم أشلاء الضحايا بدون حساب، ومن المئذنة المهدومة والقبة التي دمرت على رؤوس المصلّين، ومن حناجر من بقي من الأطفال وهم ينتظمون في طابور الصباح في فناء المدرسة التي حوّلها المحتل إلى ركام. فلا الروح تموت ولا الصوت يتلاشى ولا النّدى يجف من ورق الزيتون والكروم، ولا هتاف الحرية يخفت في ضوضاء آلات الموت وأدوات الفناء. صراع الحياة والموت في غزة لا يتوقف أو يبقى محصورا ضمن الزمان والمكان، بل يمتد بطول فلسطين وعرضها، يخترق الحجب ويقفز على جدران العزل العنصري وينفذ إلى أعماق البشر، فيتحول إلى صراع بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الخير والشر.

صنعت فلسطين أبطالها منذ ثلاثة أرباع القرن، وأحدث بذلك حالة استقطاب في عالم يضم أشكال البشر وأطيافا واسعة من القناعات الفكرية والانتماءات الأخلاقية، حتى أصبح دم الطفل الفلسطيني يتأرجح بين سماء فلسطين وأرضها، فيصكّ أسماع الشعوب ليدفع أهل كوريا واليابان والصين للاحتجاج ضد الاحتلال وإعلان التضامن مع فلسطين. ومن أدغال أفريقيا إلى غابات أمريكا الجنوبية لا تخلو بقعة من صوت حرّ ترفعه حنجرة صادحة بالحق ضد الباطل.

إنه يخترق المسافات والعصور، فلا يحتويه المكان أو الزمان، بل يحوّل الصراع إلى قصة أزليّة حول الوجود والعدم، ويصبح سجالا فلسفيا بين الماهية والفناء. وتحتوي ملحمة النضال سيلا من هذه السجالات التي تؤكد عمق الفكر الثوري لدى هؤلاء.

وإن شئت أن تسأل الطفل الفلسطيني عما يعانيه فإياك أن تتجاهل استيعابه مفاهيم لا يستوعبها من يكبره سنّا. فهويته: الدمُ السافح من كل جسده الممزق، وعنوانه: ميدان المواجهة مع المحتل، وسبيله: طريق ذات الشوكة التي لا يرتادها إلا المصطفَون من البشر، الراغبون بلقاء الله. عشيقته: الحرّيّة التي لا تقبل القسمة أو الطرح أو التبعيض. وعدوّه: من اتخذ العجل معبودا له من دون الله، وظنّ أن انتصاره لا يتحقق إلا بفناء البشر، مؤمنا بالنهاية الحتمية لتلك الفئة الباغية: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وكذلك نجزي المفترين).

فلا يسعد إلا بشقاء الآخرين، ولا يبتسم إلّا حين يبكون. ليس في قلبه مكان للحب أو الرأفة أو الرحمة أو الإنسانية. فهو عدو لكل ما حوله: الطفل الرضيع، الأم التي تربّي النشء لتعمر به الأرض، المستشفى والمدرسة والمسجد والكنيسة.

اقرأ أيضا| فلسطين ليست الهدف الوحيد لإسرائيل

لقد تغذّى طفل فلسطين على أمجاد من سبقه من أهل الأرض الذين أدركوا منذ زمن معنى أن يكون لاجئا، بعيدا عن وطنه، محروما من الالتصاق بالتربة التي اختلطت أشلاء آبائه بثراها. إنه يدرك بوضوح معاني الكفاح والنضال والصمود والإصرار والحرية. فلقد تعلّمت الأجنّة في أرحام الأمهات تلك المعاني، وما أن يخرج أحدهم الى الحياة حتى يستحضر ما بذاكرته عن عالم التكوين الذي سبق وجوده مخلوقا يتحرك على الأرض. هذا الطفل الذي عجنته المأساة أدرك من الفلسفة أعلى مراتبها وأصبح يربط وجوده بسحق الاحتلال ولو كلفه ذلك حياته.

صراع الحياة والموت في غزة لا يتوقف أو يبقى محصورا ضمن الزمان والمكان بل يمتد بطول فلسطين وعرضها، يخترق الحجب ويقفز على جدران العزل العنصري

الذين لقوا مصارعهم في طاحونة الموت الصهيونية رحلوا وهم يعضّون بالنواجذ على إنسانيتهم. تواروا عن الأنظار وقلوبهم تختلج بالحب والمشاعر الإنسانية والصدق، فبقيت تلك القلوب بيضاء كالثلج وأصبحت ملاذا لإنسانية أولئك الضحايا الذين كانوا ملائكة ارتفعوا إلى السماء صادقين مع ربهم وأهلهم ووطنهم. كل شيء يهون أمام حب الوطن، خصوصا إذا كان فلسطين التي استعصت على التطويع منذ أن شرّفها الله بعيسى بن مريم وأمه، وبارك الله مسجدها الأقصى وما حوله، منذ أن وطئت ثراها أقدام رسول الله ليصلّي بأنبياء الله. فكانت قداسة تلك الأرض سببا لمحنتها التاريخية التي تكابد الألم تحت كابوس الاحتلال، تئن في صمت وتبكي بدون دموع.

كيف سنعتذر لتلك الأم التي تقضي أيامها بحثا عن أشلاء طفلها بين الركام؟ ماذا نقول للطفل الذي لا يبارح الموقع الذي كان منزل عائلته قائما فيه، يبحث عن أمه التي لم يرها منذ أيام أو شهور؟ وكيف يمكن جبرُ خواطر اليتامى الذين لا يستوعب بعضهم أن ذويه تلاشت أجسادهم ولم يبق منها شيء بفعل الحمم التي ألقيت عليهم من السماء أو الصواريخ التي لا تذر شيئا أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟ في طاحونة الموت هذه ليس هناك سوى الصمت الذي ينبي بانتهاء حياة البشر في عالم يحكمه الوحوش ومصاصو دماء الآدميين.

فلم يعد القتل لديهم هواية يمارسونها في أوقات فراغهم، بل مهنة يسترزقون منها، و “يفوزون” بالأوسمة من أعلى الدرجات من الزعماء الذين منحوا قلوبهم إجازة طويلة ووضعوا مشاعرهم في أجهزة التجميد الأبدي، بلا تردد أو أسف. أما تلك الفتاة التي لم تتجاوز الرابعة فما تزال تجمع أشلاء عائلتها من تحت الأنقاض بدون أن تدرك حقيقة ما يجري. تحمل روحا بحجم المأساة التي تكبرها أضعافا، فهي معاناة لا يقوى على مواجهتها إلا القادة الكبار، ولكن من قال إن القيادة محصورة بالكبار فحسب؟ كانت تلك الفتاة تشعر أنها سيدة الموقف وقائدة اللحظة وأن قرار التصدي للعدوان خاصٌّ بها، فلم تتردد لحظة حتى كان الموت لها بالمرصاد.

الناس صنفان هنا: صنف يُخطط لقتل الآخرين ويعتبر إزهاق الأرواح وسيلة لبلوغ أطماعه، وآخر يعتبر الموت بوابته للعيش الأبدي في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشتان بين الفلسفتين، فلسفة البناء والإعمار والتحرير والارتفاع بالإنسان إلى مصاف الأنبياء والملائكة، وفلسفة الانتقام والكراهية والعنصرية والشيطنة. وبينهما صراع أزلي لا يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن هل من المروءة والأخلاق في شيء، ترك أهل فلسطين وحدهم في الميدان يواجهون عدوّا لا يرحم، يدعمه شياطين الإنس والجنّ بلا حدود؟

الطفل الفلسطيني والفتاة اليافعة لم يعيشا طفولتهما البريئة، بل نشآ في المخيّمات تحت أزيز الطائرات وقعقعة السلاح، محاطين بحفّاري القبور الجماعية. ولكلٍّ قصته التي تحكي معاناته. كما أتقنا فنون التصدّي للعدوان، وآمنا بأن “الساكت عن الحق شيطان أخرس” فهرعا للالتحاق بقوافل التحرير التي عبّدت طريقها أجساد الشهداء وجماجم الأبرياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى