عقدت النسخة العاشرة من “الحوارات المتوسطية” (Dialoghi Mediterranei) في روما خلال الفترة من الـ25 إلى الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري برعاية وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي الإيطالية والمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) التي حضرها الرئيس الإيطالي وتحدث خلالها قادة من الحكومات العربية والأوروبية، بخاصة وزراء خارجية إيطاليا ومصر والأردن ولبنان والهند والإمارات والأمين العام لجامعة الدول العربية، كما ضمت المنظمات الدولية والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام وقطاع الأعمال والمجتمع المدني، وجاءت مشاركتي كمتحدثة في المؤتمر ضمن جلسة بعنوان “كيف يمكن دمج إيران؟”.
وفي ما يخص الجانب المتعلق بعلاقة إيران مع جيرانها الإقليميين والغرب، فقد جعل التصعيد مع إسرائيل ودعم الميليشيات التابعة لما يسمى “محور المقاومة” وقمع الاحتجاجات التي أعقبت وفاة مهسا أميني والتقدم المستمر في برنامجها النووي، من طهران طرفاً يشكل تحدياً متزايداً للغرب في الحوار معه، لكن مع انتخاب رئيس إصلاحي في يوليو (تموز) الماضي اعتبر بعضهم أن فوز مسعود بزشكيان قد يوفر فرصة نادرة لإنشاء قنوات اتصال جديدة بين طهران والدول الغربية، أي وجود تحديات تخص الداخل الإيراني وسلوكها الإقليمي أمام محاولة دمجها ومحاورتها.
في هذا السياق، كانت الاستفسارات تدور في الذهن الغربي حول كيف نتعامل مع إيران في سيناريو إقليمي متزايد الإشكالية؟ وهل هناك وسيلة للحد من انعدام الثقة المتبادل بين إيران والغرب؟ وما هي الاستراتيجيات التي يمكن تبنيها؟ وما هي التسويات التي يمكن تحقيقها في شأن طموحات إيران النووية ونفوذها الإقليمي وحال حقوق الإنسان؟.
اقرأ أيضا.. إيران والبحث عن أبواب الحوار
وفي ما يخص التحديات الداخلية المتعلقة بحال حقوق الإنسان، وهل تشكل تحدياً للحوار الإيراني- الأوروبي؟، فالإجابة هي لا، إذ فرضت الدول الأوروبية كثيراً من العقوبات على إيران حول وضع حقوق الإنسان والأنشطة النووية ودعم الميليشيات والدعم العسكرى لروسيا.
وفي حين فرضت العقوبات الأوروبية حول وضع حقوق الإنسان منذ عقود، لكن حينما تم توقيع الاتفاق النووي عام 2015، سارعت الدول ذاتها إلى إبرام عقود وصفقات اقتصادية واستثمارية مع إيران، متجاهلة استمرار حال حقوق الإنسان التي ازدادات تدهوراً مع الوقت. لقد فرض الأوروبيون عقوبات تتجدد كلما انتهى وقت صلاحيتها، في محاولة منهم لإظهار الدعم نحو الضحايا، سواء من النساء أو حقوق حرية التعبير، وظل الغرب يحث إيران على انتهاج سياسة أكثر احتراماً لكرامة الإنسان سواء على مستوى الممارسة أو القانون ولكن لم يوجد أي صدى، بل على العكس وظفت إيران الحوار مع الأوروبيين حول وضع حقوق الإنسان للاستفادة من مخرجات الحوار والانفتاح معهم كشريك في المفاوضات وتوظيف نتائج الحوار في التعاون الاقتصادي أو مجال مكافحة التهريب والإرهاب واللاجئين، ولكن لم يكُن التعاون الإيراني من أجل حقوق الإنسان.
ومن جهة أخرى، فإن اهتمام التوظيف الأوروبي ومحاولة الضغط على إيران في شأن حقوق الإنسان ازدادا فقط أخيراً حينما مثلت إيران تهديداً للأمن الأوروبي بسبب تقديمها الدعم العسكري لروسيا في حربها مع أوكرانيا.
وفي حين يتفاءل الغرب بأن انتخاب رئيس إصلاحي قد يغير من أوضاع حقوق الإنسان داخلياً ومن ثم تكون هناك فرصة أمام إزالة أي تحدٍ للحوار بين إيران والغرب، لكن في الواقع فإن المتغير ذلك لا يرجح أي احتمالات للتغيير، إذ يقف بزشكيان في منعطف حرج أمام ناخبيه الذين وعدهم بإيقاف صلاحية شرطة الأخلاق.
الإيرانيون الآن ينتظرون رداً رسمياً من الرئيس الإصلاحي حول قانون الحجاب الذي وافق عليه مجلس صيانة الدستور في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتمت إحالته إلى مجلس الشورى الإيراني، والقانون الجديد يزيد من القيود والعقوبات حول ارتداء الحجاب، وفي الوقت ذاته وضع “الحرس الثوري” إجراءات مشددة لمطاردة المعارضين لفرض الحجاب.
كل ذلك من دون جهد أو معارضة من الرئيس الإيراني الإصلاحي، مما يعني أن سماح النظام الإيراني بوصول رئيس إصلاحي للحكم لم يكُن الهدف منه الدفع بأجندة إصلاحية داخلية، بل توجيه رسائل إلى الغرب بأن إيران تنتهج مساراً جديداً إصلاحياً وغير تصعيدي، في ظل السياق الإقليمي المتفجر على خلفية الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان والمواجهة مع المحور الإيراني بأكمله.
ومن المتوقع حال توصل الغرب مع إيران إلى تسويات في شأن دعمها العسكري لروسيا أن تحل أي ملفات أخرى في ما بعد ولن تكون عائقاً أمام الحوار الأوروبي- الإيراني، وذلك تعيه طهران تماماً.
أما في ما يتعلق بمحاولة دمج إيران إقليمياً ورفع مستوى التطبيع العربي معها، فإن أهم تحدياته هو العقلية الإيرانية القائمة على تطلعات ما وراء الحدود والشعور بالتميز والاستثنائية في محيطها الإقليمي، واعتمادها في تنفيذ استراتيجيتها الإقليمية على تشكيل شبكة من الوكلاء الإقليميين داخل الدول العربية ثم دعمها عسكرياً ومالياً وتقويتها في مواجهة مؤسسات الدولة الوطنية.
وفي حين تجاوبت الدول العربية مع دبلوماسية الجوار التي أعلنتها حكومة إبراهيم رئيسي، فقد تمت المصالحة بين إيران والسعودية وتحسنت العلاقات مع الإمارات وتجاوبت مصر بحذر مع الإلحاح الإيراني على رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية، كما عملت الرياض على الحفاظ على مسار التهدئة والمصالحة مع طهران في رسالة إلى الغرب بأن الوضع الإقليمي يتجه للتهدئة.
لكن يبقى السؤال، هل ما تحقق من الجانب الإيراني كافياً لدمج طهران إقليمياً؟ هل يمكن أن تتخلى إيران عن سياسة تشبيك الملفات الإقليمية وتوظيف الميليشيات بما يعني التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية، بما يمنح فرصة لإسرائيل لشن حروب على لبنان وغزة وربما سوريا والعراق؟.
إن العمل على خفض التصعيد الإقليمي وتحول الشرق الأوسط من بيئة صراعية إلى بيئة تعاونية تستطيع دوله إيجاد آليات لحل الخلافات والنزاعات وإرساء الاستقرار والأمن الإقليمي أمران مفيدان لجميع الأطراف، إيران والدول العربية، لكن الوصول إلى هذا المستوى من التفاهم الإقليمي يتطلب الاعتراف بمصالح الدول بعضها بعضاً واحترامها والعمل على خفض المعضلة الأمنية التي تعيشها دول المنطقة.
ولا بد من مزيد من إجراءات بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وقد بدأت الدول العربية الجزء الخاص بها، لذا على إيران أن تسير في اتجاه خطوات حقيقية نحو هذا المسار والتوقف عن التعامل مع دول المنطقة باعتبارها متغيراً في معادلة علاقتها بالولايات المتحدة من منطلق دور حارس البوابة الذي لديه أدوات حل وتعقيد الأزمات.