جولة جديدة من الحوارات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس انتهت منذ أيام في القاهرة بلا نتائج، مع بقاء الباب مفتوحاً لحوارات قادمة قد تحدث، لكن الذي لم يتغير أنها حوارات كانت قد بدأت ما بعد سيطرة حماس على غزة سنة 2006 غير أنها تجري في الفترة الأخيرة تحت وطأة الحرب الثقيلة على كاهل المدنيين، والتي خلفت ما يزيد عن 40 ألف ضحية، لم تصل بالمشهد السياسي الفلسطيني إلى التوافق بما يخدم وقف الحرب ويعيد المشهد السياسي إلى الواجهة من جديد.
الإشكالية الأبرز أن تفاصيل الحوارات بقيت لا تندرج تحت العناوين التي يذهب إليها الطرفان، فالسلطة الفلسطينية – بحسب ما تقول – تبحث عن آلية لاستعادة غزة ضمن وحدة وطنية، وتريد هدوءًا يحول دون التصعيد في الضفة، لما لذلك من مآلات كارثية على عودة الاحتلال للضفة وخسارة منجز السلطة الفلسطينية، بينما تبحث حماس في عناوين مختلفة، من التقاسم الوظيفي في إدارة غزة، مع بقاء ملفي المعابر والأمن بيد الحركة، ما يعني جر السلطة الفلسطينية إلى الموافقة بالعودة إلى ما قبل السادس من أكتوبر، بحيث تكون تلك نقطة بدء، تنطلق ما بعدها حوارات المرحلة التالية، والتي تتناول الحكومة المشتركة وغير ذلك.
حماس تريد أن تكون شريكاً في إدارة الضفة أيضاً، مع الاحتفاظ بالإدارة الفعلية لقطاع غزة، وهي معادلة يختفي فيها المنطق، وتتعقد الحلول، لأن شروط حماس تعني أن تقوم السلطة الفلسطينية الآن في مواجهة سياسية مع إسرائيل تجادل فيه حول ملف اليوم التالي للحرب، ويأتي ذلك على حساب نقطة جوهرية وهي الواقع المعيشي لسكان غزة الذين (يقيمون الآن في الخيام ) بعدما انتقلوا إليها من مدن دمرتها الحرب لا سيما أن تلك المدن أعادت بناء معظمها أصلاً الدول العربية وبالخصوص الخليجية منها، بعد خمس حروب سابقة خاضتها حماس والفصائل الرديفة لها هناك.
أما جوهر الأزمة في المفاوضات فهو يتمثل في رؤية حركة حماس للحرب القائمة، والتي تمثل من وجهة نظر قادتها أنها معادلة انتصار وقوة للحركة، فبعدما كان قادة حماس في الخارج يتبرأون من السابع من أكتوبر، نلاحظ أن ثمة انقلابا غير طبيعي في الفكرة مؤخراً معتبرين أن السابع من أكتوبر هو نقطة تحول مفصلية في مصلحة الشعب الفلسطيني والمنطقة، وهو الخطاب الذي تراه عند نائب مسؤول المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية بوصفه للسابع من أكتوبر بأنه “طوفان التحرير”، وهو عند خالد مشعل بمثابة تحول تاريخي أدى إلى خسارة استراتيجية لإسرائيل بينما يرى في مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني وجرح أكثر من مئة ألف بأنه خسارة تكتيكية، وهو وصف بغاية الاستهتار بالقيمة الإنسانية للمدنيين.
ففي العرف العسكري تعتبر الخسارة التكتيكية هي عملية تضحية بعدد من الجنود بقصد مشاغلة العدو بغية الانطلاق لعمل استراتيجي يغير قواعد العملية العسكرية، بما يعني في جوهره بمثابة الحفاظ على القدر الأكبر من حياة الجنود بدلاً من الانزلاق في حرب طويلة غير مضمونة، وهو الخطاب الذي ظهر منذ أيام على لسان أسامة حمدان، عندما قال نصاً وحرفاً (ما لازم حدا يتخيل أن التضحيات أنه استشهد الشعب أو استشهدت النساء والأطفال، التضحيات أولاً يجب أن تنظر إليها في صفوف المقاتلين المجاهدين وفي صفوف القيادة).
وهو تماماً ما يعيدنا إلى بدايات الحرب عندما قال موسى أبو مرزوق إن الأنفاق بنيت لكتائب القسام، وإن المدنيين هم مسؤولية الأمم المتحدة والاحتلال الإسرائيلي.
بالتالي ما قصدناه من السرد السابق هو أن هناك ثقافة خاصة تجمع قادة حماس، مفادها أن المسؤولية تجاه المدنيين ليست من أولويات الحركة، ولعل خطاباً سابقاً لرئيس الحركة يحيى السنوار عندما قال قبل الحرب سنقاتل حتى آخر طفل، ما يجعل المعادلة تبدو أننا عالم لا يزال يرى في كل هذا الموت وكل هذا الركام انتصاراً له، ويريد أن يقر الجميع له بهذه الرؤية، وأنه سوف يستمر على ما هو عليه.
إقرأ أيضا : قمة البريكس.. الأعضاء الجدد ومنافسة الأقطاب والحياد غير المكتوب
اليوم حماس تقفل الباب على أهالي غزة، وتضعهم أمام خيار واحد، وهو رؤية حماس، والتي يمكن أن نسميها عقيدة حماس تجاه الأشخاص الذين تحكمهم.
يبقى أن نقول إن الدولة هي حالة تراكمية، كلما طال الزمن في عمرها ازداد تأصيلها، وبات ثباتها أمام التحديات أكثر قوة، فمسألة السير في طريق الدولة تختلف عن السير في طريق الحزب أو المنظومة السياسية المستجدة، لأن هذه المنظومات كافة تبني كيانها أولاً في المخيلة، وعندما تحكم لا تعرف سوى لغة القهر لمن يعارضها، كانت تلك رسالة الثوار الأوائل في الثورة الفرنسية، وكانت آخر ما فعلته الثورة الإيرانية وما بينهما، وكانت هذه آخر رسائل حركة حماس التي استخدمت أشد أنواع القسوة ضد من رفع صوته منتقداً حماس، بمن فيهم نساء تم كسرأقدامهن بالمعاول لأجل كلمة.